محمد المدهونالتصريح وما ورد فيه، وكثير من البيانات المشابهة له، التي تُذيَّل بتوقيع كوادر «سابقة» في الحركة، ليس سوى تعبير واضح عما يمكن وصفه في أفضل الحالات بـ«شعور عدم الرضا» عن كلّ الفعل السياسي لفتح، منذ أن انتهى مؤتمرها السادس في آب (أغسطس) من العام الماضي، وحتى اليوم.
شاب الاستعدادات للمؤتمر كثير من اللغط، خصوصاً في ما يتعلق بأعضاء لجنته التحضيرية ومكان انعقاده في بيت لحم، أي للمرّة الأولى داخل الأراضي المحتلة، وتحت حراب الاحتلال الإسرائيلي وبإشرافه ورضاه. ويتضح شهراً تلو آخر أنّه كان الرمضاء التي استجار بها الفتحاويون من نار أوضاع حركتهم السابقة، التي كانت «صورة الهزيمة» لها اندحار قيادتها وطردها من قطاع غزة، بعد اقتتال دموي شهده القطاع الذي تسيطر عليه اليوم، ونتيجة لذلك، حركة حماس.
ويصح القول إنّ الحركة مرّت بمراحل كثيرة، شهدت خلالها تحوّلات نوعية وكثيفة، من حيث المواقف السياسية والأداء التنظيمي والجماهيري. ففتح ما بعد الكرامة، ليست فتح التي قبلها. وفتح تونس ليست تماماً فتح بيروت. أما فتح ما بعد أوسلو فهي قطعاً مختلفة عن سميّتها التي تلت الاتفاق. لكن الاختلاف الأوضح الذي نجد أنفسنا أكثر قدرةً على ملامسته وتحسسه، هو أنّ فتح أبو مازن، التي وُلدت يوم رحل ياسر عرفات، مختلفة كثيراً عن فتح قبل ذلك.
فشلت فتح في الانتخابات البلدية عام 2005، وتبع فشلها هذا، فشل أكبر في الانتخابات التشريعية. كان ذلك قبل أن تتورط الحركة بتنفيذ أجندات خارجية لإفشال حكم حركة حماس، لكنّها فشلت حتى في إفشال ما توافرت كلّ المقومات لإفشاله. قيل حينها إنّ مخاضاً قد بدأ لولادة فتح ناضجة قوية متحرّرة من أخطائها ومسببات فشلها. وقيل إنّ الصحوة الفتحاوية التي ستلي المؤتمر ستجبُّ كلّ الخيبة التي سبقته، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث.
فبعد الانتخابات المحلية التي خسرتها الحركة عام 2005، فشلت في 2010 في إعداد قائمة واحدة كاملة، في بعض مدن الضفة الغربية، للمنافسة على المقاعد، رغم ارتياحها حتى من خصمها الألدّ، حركة حماس التي قاطعت الانتخابات. فشل إضافي أوعزت بعده الحركة الفاشلة لرئيس الوزراء سلام فيّاض بإصدار قرار (لا صلاحية يمتلكها لإصداره)، بإلغاء هذه الانتخابات تحت عنوان التأجيل.
يقول نبيل عمرو، عضو المجلس الثوري السابق للحركة، والمرشح الراسب في انتخابات اللجنة المركزية في المؤتمر الأخير: «في زمن عرفات.. كنا نجد توليفة منطقية لأخطائنا الكثيرة ولصوابنا الأكثر. وكنت أنفذ من بين التعاريج لأقاتل خصوم فتح مستعيناً بأفضل ما فيها، وأحرجهم على الشاشات بتذكيرهم أنّهم مهما فعلوا فلن يصلوا إلى ما وصلت إليه فتح الأصيلة، التي يتحمل الناس أخطاءها لأنّهم يدركون أنّ التيار الصحيح الذي تجسده، لابد من أن يجرف الأخطاء، وهو في طريقه نحو المصب المنطقي.. الذي هو الهدف الوطني الكبير». ثم يضيف في مقال خاطب فيه إبراهيم أبو النجا، قياديّ الحركة في قطاع غزة، الذي همّشه أيضاً مؤتمر الحركة الأخير: «أما الآن، أرجوك أن تجد عبقرياً يدلني على ما أستشهد به في دفاعي، وما أتقوّى به في هجومي على الآخرين».
فتح اليوم مأخوذة بجريرة الهبوط والانحدار والإسفاف السياسي الكبير، الذي يقوده محمود عباس، والبطانة المعدودة على أصابع اليد الواحدة التي حوله. خسرت فتح الكثير عندما أُخرجت من قطاع غزة، فالثلاثة أعوام الماضية كانت أقل أعوام السلطة تأثراً بالقرار التنفيذي للحركة. أصبحت فتح مجرد متفرج يبصم قسراً بالموافقة على كلّ ما يفعله ثنائي عباس ـــــ فياض باسمها، وتدفع ثمن ذلك تاريخاً أسود يُسجَّل تحت طائلة مسؤوليتها، وردود فعل حمساوية قاسية على ممارسات أجهزة أمن الضفة، تطاول أبناء فتح في قطاع غزة.
فتح التي عرفها الفلسطيني رافعة من روافع العمل الوطني، ورافداً أساسياً من روافد فعله الكفاحي المقاوم أياً كان شكله، لا تعدو كونها اليوم فاعلاً مجروراً بأفعال تتأفف منها كلّ القاعدة الجماهيرية لها، ومراتبها القيادية الوسطى، وجزء كبير من صفها الأول.
على فتح أن تواصل «هجومها» على المصالحة، وهو الهجوم الذي تسارع أخيراً، مشيعاً حالة من التفاؤل في الأوساط الشعبية الفلسطينية، لأنّها بدون ذلك، ستبقى مجرد فاعل يُؤثم على كلّ الخطايا، التي قد لا يرتكبها بالضرورة.
* صحافي فلسطيني