strong>حيدر سعيد*كنتُ مسلماً. وُلِدتُ في بيئة مسلمة وعائلة مسلمة. وعند بلوغي السنَّ التي تسمح لي بقدر من التفكير النقدي، بدأتُ، كأقراني من الشباب حين يبلغون هذه السن، أسأل أسئلة عن هذا الانتماء. أسئلة لا تتعلق فقط بمعقولية فكرة الله، بل، كذلك، بمعقولية هذا الانتماء. كانت تشغلني أسئلة كثيرة: لماذا الناس في الهند هندوس، وفي أوروبا مسيحيون، وفي منطقتنا مسلمون؟ لماذا لا يوجد هندوس في بلادنا؟ لماذا تقوم كلُّ جماعة على انسجام ديني داخلي؟ لماذا لا تضم ما لا نهاية له من المعتقدات الدينية؟ لماذا لا يكون في كلّ عائلة تنوّع ديني؟ لماذا يبدو في الجماعات الدينية تماثل كأنّه القدر؟
هذه الأسئلة لم تكن تتعلق بالجذور التاريخية التي جعلت الهندَ هندوسية، وأوروبا مسيحية، والشرق الأوسط مسلماً، بل بالانسجام الذي يوحِّد أفرادَ كل بقعة من هذه الجغرافية في دين واحد وعقيدة واحدة.
تركتُ لنفسي حريةَ التفكير، فقد كانت هذه الطريق تحمل اثنين من أكثر المعاني سحراً: العقل، والحرية. لم أخَفْ من الإجابة، كأقراني من الشباب، الذين يردعهم عن الخروج على الجماعة «أنا أعلى». وهم بالتالي يجيبون عن هذه الأسئلة بتبرير دياناتهم، ليكوّنوا، في النهاية، المادةَ غير المتعقِّلة لكل غوغائية دينية، ولكل انغلاق ديني.
بَنَتْ كل ديانة عقلانيةً تبرّر بها نفسها، حتى وإن كانت عقلانياتُ الأديان تتناقض في ما بينها، وتتناقض مع طريقة التفكير الوضعي، التي يبدو أنّ الإنسان اختارها أخيراً.
عقلانياتُ الأديان نسبية، لكن الإيمان بها مطلق. ومَن يؤمن بها لا يقبل أن يفسّر جغرافيةَ التعدد الديني السالفة بأنّها يمكن أن تُفضي إلى اكتشاف أنّ الدين قَدَري، ونسبي. يُنشئ المؤمن برهاناً ميتافيزيقياً، يعزو وجودَه في تلك البقعة من هذه الجغرافيا إلى عناية إلهية، فيعتقد أنّ الله أوجده في بقعة الدين الحق، الذي خصّه وجماعته به، وأغمض عينيه عن سائر خلقه.
تركتُ لنفسي حريةَ الإجابة، حتى وإن لم تُعدني هذه الطريقُ ثانيةً إلى الإسلام. أدركتُ أنّ الإسلام قَدَر، وأنّ معقوليته نسبية، وأنّ انتمائي إليه قدر، لا اختيار، لأنني وُلدت في بيئة مسلمة وعائلة مسلمة، فأصبحت على ما وجدتُ عليه آبائي. لم أختر الإسلام، فيما الخروج منه اختيار. هذا الموقف لم يكن من الإسلام فقط وبذاته، بل من أصل الاعتقاد الديني.
غير أنّ فكرة الثورة، التي يتضمنها الخطابُ الديني أحياناً، ظلت فكرة ساحرة. ولذلك، لم أستطع أن أقف موقفاً سلبياً من الحركات الدينية الحاملة لاحتجاجات سياسية واجتماعية. ذلك على الرغم من أنّ كثيراً ممّن يفكرون مثلي كانوا يرون أنّ هذه الحركات ذات مضمون رجعي، وأنّها قد تكون تعبيراً عن تهدّم مشروع التنوير والتحديث، وعن أزمة الدولة. قد يكون هذا التحليلُ صحيحاً، غير أنّني كنتُ أرى أنّ الدين، هنا، لم يعد عقيدة، وقَدَراً، بل هو ثورة، واحتجاج، وأفق للتغيير، بكل ما في هذه الكلمات من سحر.
في أواسط التسعينيات، حين قاد محمد الصدر حركته المعارضة للديكتاتورية، كان شيء ما في داخلي ينحاز إليها. كنتُ أرى أنّ هذه الحركة يمكن أن تكون لاهوتَ تحرير، نسخة عراقية من لاهوت التحرير اللاتيني، يمكن أن يجمع حوله ملحدين ويساريين وعلمانيين ووطنيين وليبراليين وقوميين ومتديِّنين.
واليوم، يقدّم الدينُ إمكانية جديدة، لا للثورة فقط، بل للدفاع عن روح الدولة المدنية وفكرة المواطنة، التي تكسّرت، وتكسّرت، وتكسّرت، في عراق ما بعد 2003. كسّرها الدينُ نفسه، حين تحوّل من ثائر إلى منتقِم أعمى، وحين أظهر وجهاً وحشياً. كسرّها حين أصبح حاضنة لهويات متصارعة، وحين رسم للبلاد والعباد حدوداً قاسية، تعيد مرارةَ الاستبداد العلماني النكهة. اليوم، حين تواجه المسيحيةُ في العراق خطرَ الفناء، لأنّ برابرة الإسلاميين يريدون للبلاد هوية واحدة، ولوناً واحداً، وفكراً واحداً، وعقيدة واحدة، يكون الدفاعُ عن المسيحية دفاعاً عن الديموقراطية، التي تعني إمكانية لانهائية للتعدد والاختلاف.
وحين يواجه المسيحيون العراقيون خطرَ القتل، لمجرد أنّهم مسيحيون، وحين يصفهم تنظيمُ القاعدة بأنّهم «أسرى»، كأنّهم مقاتلون أجانب، وهم في بلادهم، وحين يقايض حياتَهم، وأرواحَهم، وأمنَهم، بمشكلات من خارج الحدود، يكون الدفاعُ عنهم دفاعاً عن روح المواطنة.
واليوم، حين نصمت عن العنف الوحشي الذي يواجهنا، كما صمتنا منذ سبع سنوات، نكون قد سلّمنا بأنّ البربرية هَزَمَت حلمَ الدولة المدنية، ونكون قد خضعنا لها، عبيداً، صغاراً.
المسيحية، اليوم، ليست عقيدة، بل هي اختيار سياسي.
ولذلك، أعلن أنّني منذ اللحظة التي أكتب فيها هذه الكلمات، مسيحي. أنا مسيحي، دفاعاً عن روح المواطنة في بلادي.
وأدعو أبناءَ مواطنتي إلى بناء حركة واسعة، تستلهم المسيحيةَ هوية، وأداة سياسية، وفضاءً احتجاجياً.
المسيحية، اليوم، اختيار سياسي. أن تكون مسيحياً يعني أن تدافع عن روح المواطنة العراقية وأن تمسك بما بقي من حلمها.
* كاتب عراقي