strong>سعد الله مزرعاني*مرّت، منذ أيام، الذكرى الواحدة والعشرون لإقرار اتفاق الطائف. هذا الاتفاق المرجعي في نظر الجميع، هو كذلك فقط من الناحية المعلنة أو الشكلية، أي إنّه ليس مرجعية حقيقية، رغم ترحيل الجزء الأساسي من بنوده، إلى الدستور اللبناني. كان يمكن «الطائف» أن يمثّل منعطفاً حقيقياً نحو «إقامة الدولة» كما يعبّر الرئيس حسين الحسيني، لكنّ ذلك لم يحصل. ويعود ذلك إلى اعتماد صيغة مجتزأة وانتقائية، وحتى مشوّهة، للاتفاق. ما يعنيه ذلك، هو أنّ ما أمكن إقراره في «الطائف» كان ينبغي أن يمثّل نقطة انطلاق نحو معالجة الخلل الأساسي في نظام علاقات اللبنانيين في ما بينهم، وبالتالي في «نظام» علاقاتهم بالخارج. أي بكلام مباشر، كان ينبغي الانتقال من نظام الامتيازات الطائفية (النظام الطائفي أو نظام الطائفية السياسية) إلى نظام مساواة، مدني وديموقراطي، بين اللبنانيين.
لا يقفز هذا الاستنتاج فوق النصوص، ولا يعبّر عن مجرّد تمنيات. على العكس من ذلك، إنّه يحاول إعادة الأمور إلى نصابها في معطيات المرحلة التي سبقت اندلاع الحرب، وحتى في محصّلات الحرب الأهلية نفسها، رغم كلّ ما شابها وما تداخل معها من تعقيدات سياسية واجتماعية، داخلية وخارجية. كذلك هو يحاول لفت النظر إلى النصوص ومعناها في الحقلين الدستوري والقانوني. ونعني بذلك نصوص «الطائف»، ومن ثمّ نصوص الدستور وما تحفل به من إصرار على الإصلاح. إصلاح مقرون أيضاً بتحديد آليات وصيغ تنفيذية ومواقيت واضحة وبعيدة عن أيّ استنساب أو اختيار بسبب ورودها في نصّ دستوري ملزم.
بكلام آخر، وضعت الأزمة الوطنية التي عصفت بالبلاد طيلة ما يقارب الخمس عشرة سنة (1975 ـــــ 1989)، الخيارات السياسية الأساسية لأفرقاء الصراع أمام امتحان قاسٍ، ونجزم بأنّه حاسم أيضاً. فلقد تبيّن أنّ الصيغة الطائفية للنظام هي عنصر الخلل الأساسي في البنية السياسية والاجتماعية اللبنانية. إنّها تذهب تماماً في عكس ما يتطلّبه بناء دولة حصينة على قاعدة وطنية متضمّنة الحدود الدنيا من شروط سلامتها وقدرتها على الحياة. وهكذا، ففي كنف الصيغة الطائفية نشأت الدويلات ونمت وتعزّز الانقسام بين اللبنانيين. ومع هذا الانقسام وبه وبسببه، استُدرج التدخل الخارجي على سبيل الاستقواء، أو من قبيل إغراء الأطراف الخارجية باستخدام لبنان ساحة بناء نفوذ أو تقويض آخر، حسب الظرف والمعطيات والموازين.
لقد حاول «اتفاق الطائف» وسط صراع متنوّع أن يرسم معالم خريطة طريق نحو التخلّص من نظام الطائفية السياسية. فلقد تعاملت وثيقة الطائف مع إلغاء الطائفية عموماً (والسياسية منها خصوصاً)، بوصفها «هدفاً وطنياً كبيراً يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية». وبالفعل، وكي لا يكون هذا الكلام مجرّد شعار، وضعت أسس تلك الخطة في المواد 22 و24 و95 من الدستور. والمفصل في هذه الخطة أمران: الأوّل، إقرار قانون انتخابات خارج القيد الطائفي لتحرير مؤسسات السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية من الطائفية السياسية، والثاني إنشاء «الهيئة الوطنية العليا لإلغاء الطائفية السياسية»، ووظيفتها وضع خطط متدرّجة لإلغاء الطائفية في المجتمع، عموماً. ولقد أُقرن ذلك بإنشاء مجلس شيوخ يتولّى حصرياً التعبير عن الهواجس السياسية أو غير السياسية المتوارثة والقائمة، لدى هذا الفريق أو ذاك. هذا هو «الطائف» في النصوص وفي الاستنتاجات النابعة من عمق المأساة التي ضربت اللبنانيين منذ الاستقلال حتى اليوم، لكنّ التطبيق انحرف بهذه النصوص والاستنتاجات نحو إجهاض جوهرها الإصلاحي، وإبقاء النظام القديم. وتفاقم الأمر أيضاً حين تحوّلت قوة «الهيمنة»، بالضرورة، نحو الخارج، بسبب ضرب أساسها الداخلي (الامتيازات) في الدستور وفي الممارسة.
واليوم يكرّر كثيرون «تمسّكهم» بالطائف، لكن لكلّ طائفة، وكل طرف «طائفه» الخاص. والواقع أنّه رغم الانقسام الحاد بين أطراف النظام الحالي بشأن قضايا عديدة، فثمّة إجماع على تشويه «الطائف» بأشكال تتناغم وتتكامل بطريقة متواصلة. يرفع البعض شعار «المساواة» بين المسيحيين والمسلمين، كما يردّد ممنّناً السيّد سعد الحريري. يردّد آخرون مقولة «الديموقراطية التوافقية» التي ينادي بها أطراف في فريق الثامن من آذار بوصفها إشارة تطمين إلى عدم الرغبة في الاستئثار أو تغيير المعادلة والتوازنات. ولقد سمعنا أخيراً أحد نواب «حزب الله» يتحدّث بإعجاب شديد عن صيغ «الديموقراطية التوافقية» التي أرساها كلّ من السيدين جوزيف أبي خليل وأنطوان مسرة، وعن تمسّك الحزب بهذه الصيغ الطائفية. هذا رغم أنّ وثيقته المقرّة في مؤتمره الأخير، قد استُهلّت بالقول إنّ «المشكلة الطائفية هي المشكلة الأساسية التي يعاني منها لبنان واللبنانيون». إنّ اللبنانيين الذين عانوا الانقسام وعدم الاستقرار والاحتراب الداخلي والفساد والمحاصصة، يواجهون حلقة جديدة من الانهيار والتداعي قد تكون الأخطر. وليس بالصدفة أنّ القرار الظني العتيد ينطلق من الخلل الطائفي والمذهبي إياه، ليستهدف السعي إلى إثارة الفتنة والدفع نحو التشنّج والانقسام والاقتتال. ورغم ذلك يستمرّ التعامل القدري مع المسألة المذهبية كأنّها ثروة لبنان الفريدة التي لم يمنحها الله لأحد سواه.
في كلّ هذه الأمور يجب التفتيش عن مصدر الخلل الداخلي أوّلاً، قبل التفتيش عن أصحاب المصلحة في استخدام هذا الخلل من القوى الخارجية المعادية، خصوصاً.
أما طلب الحلول والتسويات من الخارج، من ضمن معادلات نتباهى بالاعتماد عليها، فيعكس واقع عجزنا ورعونتنا، ويؤكد مضيّنا في سياسة «لحس المبرد» التي تكاد تودي بما بقي لنا من مقوّمات الوجود نفسه.

حاول «اتفاق الطائف» أن يرسم معالم خريطة طريق نحو التخلّص من نظام الطائفية السياسية
ليس أدهى ممّا نتعرّض له من المخاطر والمؤامرات، إلا كون الخلل في بنيتنا السياسية، هو الأداة المفضلة والفاعلة في يد أعدائنا، لتمرير هذه المؤامرات ولتعريضنا لتلك المخاطر. والمأساة اليوم أنّنا لا نستفيد من التجارب ولا نبحث عن أسس المشكلة. وكأنّ كلّ قدرات اللبنانيين وإبداعاتهم، تقف أمام جدار الطائفية والمذهبية، فترتدّ دونها وقد أصابتها الصاعقة فأعمت الأبصار والبصائر على حدّ سواء.
لقد كتب مهدي عامل قبل حوالى خمسة وعشرين عاماً في خضمّ تفاقم الحروب الأهلية وتناسلها حروباً داخلية متنوعة: «لئن كانت علاقة الدولة بالطوائف أساسية لوجود الطوائف في مؤسسات هي كيانات سياسية، فهي بالعكس معطِّلة لوجود الدولة كدولة مركزية واحدة. إنّ تغيير الدولة التي بها تكون الطوائف طوائف، بإمكانه أن يجعل من المجتمع مجتمعاً متجانساً. لا توافق ولا توفيق بين الوجود المؤسسي للطوائف ووجود الدولة المركزية الواحدة. فالشرط الأساسي لوجود الدولة كدولة مركزية هو ألا تكون طائفية...» (في الدولة الطائفية، دار الفارابي، 1986، ص 24).
إنّ كلّ ما يحيط بنا اليوم ينبغي أن يدفع نحو إعمال الفكر والعقل في تلمّس المخارج والحلول. وهذه لن تكون لا بالغلبة ولا باللجوء إلى مصالحات ومصالح وتسويات القوى الخارجية. إنّها ممكنة بالأساس من خلال تغيير جوهري يحرّر لبنان من «الفرادة العجيبة» التي تكاد تجعله وباءً. وباء يبدأ أوّل ما يبدأ بأكل نفسه ومعها إنجازت اللبنانيين العظيمة في حقول التحرير والمقاومة والانفتاح والتعلّق بالحرية.
* كاتب وسياسي لبناني