سمير طاهر*بعد نشر سَرْدَشْت عثمان مقالته الفريدة «أنا أعشق ابنة مسعود البرزاني»، دقّ جرس الإنذار في أروقة أسرة البرزاني الحاكمة في الإقليم الكردي شمال العراق. وحدث ذلك لأكثر من سبب: النقد السياسي والاجتماعي الحاد الذي حفلت به المقالة، والجرأة التي لا سابق لها في فضح الطبقة الحاكمة وأسلوبها في الحياة وفي توزيع الثروة والسلطة، وأخيراً الغضب العشائري من ذكر ابنة الرئيس بهذه الوقاحة. عندها تقرّر العثور على الكاتب بأسرع وقت. فانهالت على البريد الإلكتروني لسردشت تهديدات تطالبه بأن ينشر اسمه الحقيقي وصورته. ولحسن نيّته، لم يدر بخلده احتمال دافع إجرامي وراء هذه المطالبة الغريبة، بل ولم يشعر اتجاه أصحابها بأيّ ضغينة. كتب ببراءة: «لقد بعثت صورتي الى هؤلاء الأصدقاء، ولا أعلم ماذا يريدون منها». من منّا يمكن أن يصف أشخاصاً يهددونه ويتوعدونه بأنّهم «أصدقاء» ويعطيهم ثقته المجانية إلى حد أن يسهّل لهم العثور عليه؟ وبالفعل عثر عليه هؤلاء «الأصدقاء» بعدما عرفوا أنّه طالب سنة أخيرة في قسم اللغة الإنكليزية بكلية اللغات في جامعة صلاح الدين في مدينة أربيل. ومنذ ذاك الحين بدأ يتعرض للتهديدات والإهانات، ثم أُنذر بوضوح بأن يغادر أربيل وإلّا فسيُقتَل. لجأ إلى عميد كليته فتبرّأ مرعوباً من الأمر. اتصل يائساً بمدير الشرطة الذي ردّ عليه بلا مبالاة. فأيقن بحتمية المصير ودنوِّه، وعندها استعاد ذاته. اجتاز تجربة الرعب من الموت فطهّرته من كلّ خوف، ورفض مغادرة المدينة. وإذْ سلّمه الجميع لمصيره، بقي له الصديق الذي يجد بصحبته الأمان والقوة: القلم. فانطلق يكتب مقالته الأخيرة، الوداعية، التي وضع لها عنواناً فظيعاً وأفظع ما فيه أنّه حقيقي حرفياً: «أول أجراس قتلي دُقّت». مقالة صادمة، مذهلة، يودّع فيها الحياة غير نادم، ويختتمها بتوصية أصدقائه بمواصلة الطريق.
كتب في مقالته الوداعية «سأحاول أن أكون صادقاً في أقوالي بقدر صدق السید المسیح». بينما في مقالة سابقة عَدَّ نفسه «من الآن فصاعداً مثل أيّ شاب لا مبالٍ في أزقّة أربيل وشوارعها، متمرداً على كلّ أصنام السلطة وتماثيلها، ننتظر مثل النبي إبراهيم الفرصة لنكسرها كلها».
نُشِرت المقالة الوداعية يوم 21 كانون الثاني (يناير) 2010. ثم لم يمر على ذلك شهران ونصف شهر، ولم يبقَ على تخرّج سردشت من كلية اللغات سوى شهر واحد، حتى نفّذ المجرمون تهديدهم. كانت الساعة الثامنة والنصف من صباح الرابع من نيسان (أبريل)، وعند مدخل كليته، هي آخر لحظة يرى فيها نور الشمس. تقدم منه رجال غرباء، ضربوه أمام زملائه واقتادوه إلى سيارتهم التي انطلقت به بعيداً دون أن يحرك أيّ من حرس الجامعة ساكناً. اتجهت السيارة صوب مدينة الموصل المجاورة حيث ألقي سردشت هناك، جثةً هامدة وقد أطلقت في فمه رصاصتان. طريقة في القتل تكشف عن حقد
جنوني.
كانت الجريمة فضيحة سياسية كبرى لأنّها أقوى قصة من القصص الكثيرة التي حصلت في السنوات الأخيرة، وكشفت ما تحت الصورة المقدسة التي ترسمها السلطة الكردية لنفسها. فلم يكن الواقع الذي كتب عنه سردشت خافياً عن الجمهور الكردي (وهو على كل حال لا يختلف عن واقع كثير من بلدان المنطقة). ولكن ما انكشف الآن هو استعداد هذه السلطة لاقتراف أبشع الجرائم بحق من يفضح حقيقتها حتى لو كان شاباً حسن النية مثل سردشت، ظلّ حتى آخر لحظة يعتقد أنّ ما قام به كان مجرد «كتابة كوميدية». وإذ قابلت سلطة الإقليم الاحتجاجات الجماهيرية العفوية على الجريمة بخطبها القومية المعتادة عن مؤامرات الأعداء و«الحاسدين»، فإنّ هذا لم ينفع عندما تدخلت منظمة العفو الدولية وطالبت بتحقيق مستقل. فتألّفت لجنة «مستقلة»، أعضاؤها وزير الداخلية ومسؤولو الأمن ورئيس استخبارات الحزب الحاكم مسرور البرزاني (ابن رئيس الإقليم وشقيق الفتاة التي ذكرها القتيل في مقالته). كانت بالطبع مهزلة فجّة: المشتبه فيه وصاحب المصلحة في الجريمة يؤلّف لجنة للتحقيق فيها. كان معظم الناس في كردستان يعرفون هوية القاتل، ويهمسون به سراً، بينما ينهمك هو في أداء دور المحقق الباحث عن الحقيقة. وكان متوقعاً ألّا يترك القتلة هذه المناسبة تمر دون أن يكملوا انتقامهم. فلم يشف غليلهم حتى قتلهم سردشت بأيديهم (هناك شائعات تسمي الشخصية التي أطلقت بنفسها الرصاصتين في فم سردشت) بل يجب أن يمثّلوا به: تحقيراً وتقذيراً. فأخرجت اللجنة أتعس تلفيق يمكن أن يخطر على البال مفاده أنّ جماعة أنصار الإسلام قتلت سردشت الذي كان متعاوناً معها.
ليس الشهود وتفاصيل الأحداث فقط هما من يدلّ على هوية الجناة، بل تدل عليهم تصريحاتهم ولجانهم التحقيقيّة. فمن المستحيل أن يدخل أعضاء جماعة مسلحة مطلوبة للسلطات الى جامعة صلاح الدين، التي تتمتع بحراسة أمنية جيدة، ويعتدوا على طالب ويخطفوه بينما رجال الأمن يتفرّجون. إنّ الدليل الرئيسي على استحالة أن يكون القتلة من أتباع جماعة مسلحة، وعلى أنهم، على وجه الدقة، يتبعون جهازاً أمنياً حكومياً هو أنّهم (وبإقرار لجنة التحقيق) قاموا بعملية الخطف أمام الأنظار من غير أن يحملوا بأيديهم سلاحاً. هذا ليس سلوك منظمات مسلحة مطارَدة.

كشفت الجريمة استعداد السلطة في إقليم كردستان لاقتراف أبشع الجرائم بحق من يفضح حقيقتها
كذلك كان طبيعياً ألا يعترض الخاطفين أحد. فالطلبة ورجال الحراسة جميعاً يعرفون هوية هؤلاء، مثلما تعرفهم نقاط التفتيش الكثيرة بين المدينتين، حيث لم تعترض سيارتهم (قيل إنّهما سيارتان، وإنّ الثانية كان يستقلها مسرور). وينطبق الأمر نفسه على فبركة علاقة سردشت بمجموعة أنصار الإسلام. فهي حيلة غبية، الغرض منها نفي التهمة عن المجرم الحقيقي، فإذا بها، بسبب تناقضها وضعفها، تقوّي الشكوك حوله. فما الذي يمكن أن يجمع سردشت العلماني المسالم بمنظمة متشددة دينياً وعُنْفية؟
لكن اللعنة لازمت القتلة على الدوام، بحيث بدا لهذه القصة، وهي لم تنته إلى اليوم، مساران متعاكسا الاتجاه بطريقة عجيبة. الأول هو مسار الإجرام بحق سردشت حياً وميتاً، والثاني هو مسار انتقامه هو من القتلة. وقد حافظ المساران حتى الآن على إيقاع مضبوط. فاغتيال سردشت أريدَ له أن يُرهب الناس ويسكتهم، فإذا به يفجّر ثورتهم ويصنع فضيحة للطبقة الحاكمة هزت كردستان كلّها. فتحوّلت جنازته إلى تظاهرة احتجاج كبرى استلهم فيها المشاركون شجاعته، وطالبوا بمحاكمة القتلة، وضجت الصحافة والشارع والجامعات بالإدانة بجرأة وحجم لا سابق لهما. وحين نفى الجهاز الأمني صلته بالجريمة أدّى هذا إلى تأكيد الشكوك فيه بالنظر الى تفاصيل الحادث التي لا تقبل تفسيراً آخر. وحين أرادت الأجهزة الأمنية إلقاء تهمة الإرهاب الجاهزة على سردشت، لجهلها باتجاهه الفكري، جاءت النتيجة حالة علنية من التقزّز من السلطة ووسائلها الوضيعة. وأخيراً حين ألقوا الجريمة على منظمة أنصار الإسلام أصدرت الأخيرة بياناً تكذّب فيه هذا الادعاء، وتعلن بوضوح أنّها لن تخجل لو أنّها كانت فعلاً قتلته. فكان هذا بمثابة صفعة على وجه لجنة التحقيق، ما أثار مطالبات محلية وعالمية بإجراء تحقيق «حقيقي» هذه المرة، ولا يزال الضغط مستمراً حتى اليوم على الحكام البارزانيين. أما الجناة الحقيقيون، فيكاد يصيبهم بالجنون أنّ «شاباً صغيراً» يتغلب عليهم ويفضحهم في حياته وبعد موته، وأنّهم كلما حاولوا طمس الجريمة قامت صارخة في وجوههم، وأنّهم مهما فعلوا ارتد الى نحورهم فكأنّهم عالقون في وَحْل كلما تحركوا للتخلص منه ازدادوا غرقاً
فيه.
* كاتب عراقي