معتصم حمادة *كثيراً ما يصف البعض جلسة اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير الفلسطينية، التي اتخذت قراراً بالمشاركة في المفاوضات المباشرة، بأنّها كانت اجتماعاً بلا نصاب، لم يجرِ التصويت فيه على القرار. وبالتالي فإنّ ذهاب الرئيس محمود عباس إلى المفاوضات مثّل خطوة غير نظامية تفتقر إلى الشرعية المؤسساتية. ونعتقد أنّ الوقوف عند هذه النقطة، في معارضتنا للمفاوضات، لن يضيف إلى حججنا قوّة. إذ يدرك الجميع أنّ الرئيس عباس دعا أصلاً إلى الاجتماع وفي جعبته قرار المشاركة. كما يعرف الجميع أنّه، لو أراد، لجمع أعضاء اللجنة التنفيذية كلّهم دون استثناء، ولطرح الأمر على التصويت، وحصل بالنتيجة على تأييد معظم الأعضاء. لذلك أفترض أنّ الدخول في هذه النقطة وتسليط الضوء عليها، لن يضيفا إلى صحة مواقف المعارضة أمراً ذا قيمة. فإذا كانت القضية قضية نصاب وتصويت، فهذه كلّها أمور محسومة سلفاً لمصلحة الرئيس عباس وفريقه المفاوض. ومع ذلك نعتقد أنّّ بإمكاننا أن نخرج من وقائع تلك الجلسة بمسألتين تتناولان لب المشكلة، أي طبيعة العلاقات الفلسطينية داخل المؤسسة، وكذلك الموقع التمثيلي للفريق المفاوض، وعلى رأسه أبو مازن.
في المسألة الأولى، يُفترض التنبّه إلى أنّ العلاقات داخل منظمة التحرير كانت تقوم في ما مضى وفق مبدأ «الوفاق»، لا بين أغلبية وأكثرية، أو بين موالاة ومعارضة. ومثّل الوفاق السياسي ضرورة ملحّة للحالة الفلسطينية التي تتجاذبها التيارات المختلفة، فضلاً عن كون قاعدتها الشعبية موزعة في أكثر من مكان، وفي ظل أكثر من خصوصية سياسية. وأخذاً بالاعتبار التعددية السياسية في الحالة الفلسطينية، وخصوصية كلّ من التجمعات الكبرى، هنا وهناك، في ظل أوضاع عربية وإقليمية معقدة، مثّل الوفاق السياسي السبيل إلى الحفاظ على الموقع التمثيلي لمنظمة التحرير، وذلك باعتبارها إطاراً جامعاً لكلّ فئات الشعب الفلسطيني وقواه وتياراته السياسية، والممثل الشرعي والوحيد لكل هؤلاء. لذلك كانت القيادة الفلسطينية تجتمع في إطار التحضيرات لدورات المجلس الوطني للاتفاق على النتائج، لتجنب طرح الخلافات على التصويت، وإحداث انقسام تكون له تداعياته المؤذية لوحدة الشعب وقواه السياسية. كلّ هذا مع اعتياد عدد من الأطراف العربية التدخل في الشأن الفلسطيني إمّا عبر رسائل على الهواء، أو عبر امتدادات له، لم تكن تخفي هويتها.
كسر توقيع اتفاق أوسلو هذا التوافق. فقد ذهب فريق أوسلو إلى واشنطن لتوقيع اتفاق كان حالة انقسامية داخل منظمة التحرير نفسها. وبقيت هذه الحالة قائمة، بفعل ما سمي «استفراد القيادة المتنفذة بالقرار» دون أيّ اعتبار لآراء القوى الأخرى ومواقفها. وتحوّلت اللجنة التنفيذية، في ظل برنامجين سياسيين، برنامج أوسلو والبرنامج الوطني، إلى مجرد هيئة يكتفي أعضاؤها بنقل مواقف منظماتهم، ويدعوها رئيسها، دون أن يكون لرأيها الاستشاري أية قيمة وفاعلية. وهيمن على سلطة القرار مطبخ مصغر، ضمّ إلى جانب الرئيس الراحل ياسر عرفات، كلاً من محمود عباس، وأحمد قريع. استمر ذلك إلى أن حصل ما حصل في أعقاب «اجتياح» 2002. وقتها، فرضت الرباعية في ربيع 2003، على الرئيس ياسر عرفات، محمود عباس رئيساً للوزراء. ثم غادر هذا الأخير موقعه تطارده هتافات شبيبة فتح، بتحريض من عرفات، تتهمه بأنّه «قرضاي فلسطين». ولم يجد عرفات بعد ذلك حاجة إلى «مطبخ» يساعده، فلقد فُرض عليه حصار أمني وسياسي، في مقره في «المقاطعة»، إلى أن رحل بصورة غامضة في 11 تشرين الثاني 2004 في باريس. استعاد آنذاك عباس موقعه، هذه المرة، بتزكية دولية وعربية باعتباره الرجل الأول في فتح، وفي منظمة التحرير في آن واحد.
كسر توقيع اتفاق أوسلو التوافق السياسي الذي حافظ على الموقع التمثيلي لمنظمة التحرير
مع عودة عباس إلى موقع القرار مرة أخرى، عادت الحياة إلى «مطبخ القرار»، وقد ضم، هذه المرة، إلى جانب أبو مازن، كلاً من أحمد قريع، وياسر عبد ربه، وصائب عريقات. وبقي الانقسام قائماً داخل منظمة التحرير وبقيت اللجنة التنفيذية مجرد هيئة استشارية مهمّشة إلى أن وقع انقلاب 14 حزيران 2007 في غزة. هرع عباس عندها إلى اللجنة التنفيذية وإلى المجلس المركزي في منظمة التحرير يطلب غطاءً سياسياً لمشروعيته كرئيس للسلطة، وللمنظمة في مواجهة حركة حماس وحلفائها. ووجد لدى هاتين الهيئتين حاجته، لكنّه عندما رأى أنّ باب التسوية بينه وبين حماس، في حوارات القاهرة (2009)، بات مفتوحاً، تجاهل المؤسسة الفلسطينية، وذهب يبحث عن محاصصة مع حماس لمصلحة فتح وحدها. هكذا تجاهل حلفاءه في المنظمة كما تجاهلت حماس، هي الأخرى، حلفاءها في إطار «القوى الثماني». وكرر الأمر نفسه مع اللجنة التنفيذية في ما يتعلق بالمفاوضات. كلّ هذا، وفق سياسة كسر التوافق والاستفراد بالقرار السياسي، مستغلاً أنّه يملك الأغلبية العددية في الهيئات الرسمية.
إنّ امتلاك عباس، ومن ورائه فتح، لهذه الأغلبية ليس وليد الصدفة، بل جاء ثمرة لنهج فتحاوي، في بناء المؤسسة، كان يقوم على صيغة «النصف +1» للحركة والباقي للآخرين. يضمن هذا النهج لفتح، على الدوام، الأغلبية العددية وسلطة الهيمنة على القرار. وبات بإمكانها أن تتّخذ القرار نيابةً عن الجميع، وباسم الجميع. حتى لو طُرح الأمر على التصويت فإنّ النتائج ستبقى على ما هي عليه.
إنّ هذا يعني أنّ اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير لم تعد تعكس موقفاً سياسياً متوافقاً عليه وطنياً، وأنّ بياناتها الرسمية باتت ناطقة باسم جهة دون غيرها، هي الجهة التي يمثلها الرئيس عباس وفريقه المفاوض. وكثيراً ما جاء البيان الرسمي للجنة التنفيذية مغايراً لما دار في الاجتماع من نقاشات. ولا نبالغ إذا قلنا إنّ بيانات اللجنة التنفيذية تصاغ قبل الاجتماع، ولا تعرض إلا على الرئيس عباس. أما باقي الأعضاء، فإنّهم يطّلعون عليها إما من الإعلام، أو عندما يطلبون نسخة في نهاية كل اجتماع. هذا يفرض أن تفتح أطراف المعارضة معركة إصلاح أوضاع المؤسسة. ونعتقد أنّ نقطة البداية تتطلب إسماع صوت المعارضة داخل اللجنة التنفيذية. فإذا كان يحق لأمين سر اللجنة أن يوزع بياناً لا يعبر سوى عن رأي فئة واحدة داخل اللجنة، فمن حق باقي الأعضاء أن يعبروا عن آرائهم. ويمكن حصول ذلك إما ببيان موازٍ يوزعونه على وسائل الإعلام، أو من خلال مؤتمر صحافي يعقدونه في نهاية كل اجتماع، إلى أن يستقيم الوضع وتكتسب البيانات الرسمية صدقيتها من خلال عرض جميع المواقف، لا موقف طرف واحد. إذ لم يعد مفهوماً أن يبقى ممثلو اليسار الفلسطيني في اللجنة صامتين إعلامياً، تاركين الساحة كلّها لبيان لا يعكس حقيقة المواقف المختلفة. كما يتطلب الأمر خوض الصراع من أجل وضع آليات لعمل اللجنة التنفيذية، يحد من هيمنة فرد أو بضعة أفراد عليها. وسيكون ذلك لمصلحة أسلوب ديموقراطي يحوّل اللجنة إلى إطار لقوى متعددة الاتجاهات، لا إلى إطار لمصلحة اتجاه واحد، مع إلحاق الشلل بباقي الاتجاهات، أو تحويل هذه الاتجاهات إلى مجرد أرقام بلا فاعلية.
المسألة الثانية الواجب إبرازها هي أنّ المفاوض الفلسطيني، وإن كان يمثل «الأغلبية العددية» في الهيئات، فإنّه في الوقت نفسه، يمثل «الأقلية السياسية» في الحالة الفلسطينية. فإذا أحصينا القوى الفلسطينية التي وقفت إلى جانب المفاوض في قراره، حين دخل مفاوضات لم تتوافر متطلبات نجاحها، كما صاغها المجلس المركزي في منظمة التحرير والقوى التي عارضت قراره، نلاحظ أنّ الأغلبية هي لمصلحة المعارضة. وهذا يعني أنّ المؤسسة الفلسطينية الرسمية لم تعد تعكس حقيقة الأوضاع داخل الحالة الفلسطينية، وأنّ بنية اللجنة التنفيذية، وكذلك بنية كلّ من المجلس المركزي والمجلس الوطني، لا تعكس أوضاع الحالة السياسية الفلسطينية. وخطورة هذا الأمر تتمثل في قضيتين. القضية الأولى أنّ هذه الهيئات باتت خارج السياق السياسي، وبات قرارها لا يعكس المزاج السياسي الفلسطيني العام، ولا يعكس رؤية التيار المركزي في الساحة الفلسطينية، وهو ما يضعف موقع هذه الهيئات ويهمّش دورها ويحرفها عن وظيفتها التي أنشئت لأجلها.
القضية الثانية هي أنّ حسم الخلافات السياسية لن يكون في إطار الهيئات وبأسلوب ديموقراطي، بل سيكون الحسم في الشارع، وهو ما يفتح باب الاحتمالات على مصراعيه، بما فيه احتمال الانزلاق إلى أساليب عنفية، تعقّد الأمور وتزيدها صعوبة، وتزيد الحالة الفلسطينية تقهقراً. ويتضح تماماً أنّ «التيار المتنفذ» في المنظمة لا يزال يعطل، إلى الآن، قرارات مؤتمر الحوار الوطني في القاهرة (2005) ووثيقة الوفاق الوطني (2006) وقد دعت إلى إعادة بناء المؤسسة الفلسطينية بالانتخابات الشاملة وفق نظام التمثيل النسبي الكامل. وهو أمر، إن وقع، فسيؤدي إلى تغيّرات واسعة في بنية المؤسسة، وآليات عملها. لذلك من المفترض، مرةً أخرى، الربط بين صون الحقوق الوطنية الفلسطينية، ومنع أيّ شخض كان من التفريط بها على طاولة المفاوضات، وبين عملية الإصلاح الديموقراطي لأوضاع منظمة التحرير الفلسطينية. وهذا أمر لا يتحقق بالمناشدات، بل بالضغط الشعبي، عبر تحركات ومواقف جادة. لقد اكتفى هذا الشعب من بقاء قراره مصادراً، وحقوقه معروضة في سوق النخاسة.
* كاتب فلسطيني