بدر الإبراهيم*منذ عشر سنوات، وتحديداً منذ عام 2000، تتواصل الحملات السياسية والإعلامية الشرسة على حزب الله. تنظّم هذه الحملات الولايات المتحدة وإسرائيل، ومعهما مجموعة من الأدوات العربية واللبنانية، وتهدف إلى ضرب نموذج حزب الله وإسقاطه بكلّ الوسائل الممكنة.
حقق حزب الله نصراً تاريخياً بتحرير الجنوب اللبناني بعد مقاومة ضارية، فضرب حكاية التفوق الصهيوني في مقتل، ومعها جهود «تحسين شروط الهزيمة» التي عمل عليها النظام الرسمي العربي من خلال عملية التسوية. وبالتالي، باتت الدعاية الرامية إلى كيّ الوعي العربي، أمام نموذج يفضح خرافة الهزيمة، فكان القرار بإسقاط هذا النموذج المُعطِّل.
جُرِّبت وتُجرَّب كلّ الوسائل لإسقاط المقاومة وسلاحها: الضغوط الدولية، الترغيب والترهيب، الحرب الإسرائيلية والفتنة الداخلية. ورغم الفشل، لا تزال المحاولات مستمرة.
ينشط إعلاميون وسياسيون من محور الهزيمة في «شيطنة» الحزب والعمل على تحريض الرأي العام العربي عليه. يحاولون تصويره كميليشيا خارجة على شرعية «الدولة اللبنانية»، أو كمجموعة انتحارية تنحر معها البلاد والعباد في معارك عبثية. يُسخّفون انتصارات المقاومة، يزايدون على إسرائيل، ولا يوفّرون وسيلة لضرب النموذج الفاضح لضعف فكرهم السياسي. لكن إحدى أهم وسائل تشويه المقاومة هي التحريض المذهبي، وهي وسيلة تحقق مردوداً أفضل من غيرها عند الجماهير المنقسمة والمعبَّأة طائفياً ومذهبياً. لذلك يتواصل اللعب على وتر الفتنة السنية ـــــ الشيعية. وتأتي قضية المحكمة الدولية لتغذي هذا الجانب في محاولة لتصوير حزب الله «الشيعي» كخطر أكبر من إسرائيل على السنّة في لبنان والعالم العربي.
يعي الحزب خطورة الفتنة المذهبية، وهو في أدبياته وعقيدته الدينية والسياسية يحرص أشدّ الحرص على وحدة المسلمين ويعتبر استهدافها أكبر خدمة للعدو. كما أنّه يستنفر في مواجهة المحكمة الدولية رافضاً اتهامه باغتيال زعيم السنّة في لبنان. مع ذلك، لا يزال الحزب عُرضة لاستهدافه عبر هذه الفتنة، ولا يزال خطابه السياسي ووسائل إعلامه غير فاعلة كفاية في مواجهة التحريض والتشويه.
تصبح مراجعة النقاط الأساسية في هذه المعركة ضرورية لمعالجة جذرية لعملية استهداف الحزب مذهبياً. كذلك من أجل توفير قاعدة صلبة من المناهضة الفاعلة للتحريض المذهبي تحمي المقاومة والأمة أيضاً من خطر استخدام المذهبية كسلاح لتأجيج التوترات وتحقيق الأهداف السياسية للأعداء.
المسألة الإعلامية تعدّ أولوية في مواجهة كهذه. للحزب وسائل إعلام خاصة به وأخرى تناصر قضية المقاومة. لكنّ الآلة الإعلامية المعادية للمقاومة لديها قدرة أكبر على الانتشار والتأثير، وخصوصاً في الخليج العربي.
إنّ تفعيل عمل وسائل إعلام الحزب ورفع مستوى أدائها لتتصدى للدعايات المغرضة التي تبثها وسائل إعلام عربية وغربية حول المقاومة ضرورة ملحة. هذا يتطلب خروجها من محليتها الضيقة لتقدم خطاباً أكثر شمولية. يجب أن يوضح هذا الخطاب مدى حرص المقاومة على الوحدة الإسلامية وكيف عملت وتعمل على درء الفتنة وتوحيد الصفوف.
العمل الحالي لوسائل إعلام الحزب لا يصل بوضوح إلى المتلقي العربي، ولا حتى إلى المتلقي المحلي خارج الإطار الشيعي اللبناني. يتطلب هذا الواقع إعادة النظر في الأداء الحالي لمواجهة الحرب الإعلامية على نموذج المقاومة.
كذلك يبدو من الضروري أن يكثف قياديو الحزب ومسؤولوه إطلالاتهم على الجمهور العربي من خلال وسائل إعلام عربية، وأن يشرحوا ويردّوا ويوضحوا مباشرة للجمهور العربي. فمثلاً، كانت مقابلة الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله مع قناة «الراي» الكويتية نموذجاً مبشراً لتواصل مهم وحيوي بين الحزب والجمهور العربي في الخليج.
يحتفظ الحزب بعلاقات ممتازة مع الكثير من الأحزاب والتنظيمات الإسلامية السنية في العالم العربي والإسلامي، وخاصةً مع المنظمات الفلسطينية. هذا أمر لا يخفى على أحد، لكن إبرازه إعلامياً ـــــ دون التعرض لأسرار العمل المقاوم ـــــ يمثّل سلاحاً قوياً في مواجهة الدعاية المذهبية ضد الحزب.
على صعيد الخطاب السياسي والممارسة السياسية، لا يزال حزب الله حالة شيعية في الواقع السياسي اللبناني. جمهور المقاومة أكبر من الطائفة الشيعية. إلا أنّ الخطاب السياسي للحزب يرى في جمهوري المقاومة وحاضنتها جمهور الشيعة اللبنانيين. وهو يبني خطابه على هذا الأساس ممثلاً الطائفة الشيعية في النظام الطوائفي اللبناني ومؤسساته. بل هو يستخدم هذا التمثيل أحياناً للحكم على شرعية مؤسسات دولة الطوائف (شرعية حكومة السنيورة التي انسحب منها)، وهو لو كان حقاً دستورياً وفق النظام اللبناني الحالي، إلا أنّه تكريس لمعادلات المحاصصة الطائفية التي تكرس حزب المقاومة كحالة شيعية.
يمكن من يشاهد احتفالات الحزب السياسية والدينية أن يلحظ نوعية الخطاب المختص بجمهور محدد. فالكلمات والأناشيد، وحتى بعض ما يأتي في خطب الأمين العام، تحمل نفساً خاصاً بالشيعة وتعتبر جمهور المقاومة هو جمهور الشيعة اللبنانيين. هذا أمر لا يُنكر، لكن أنصارها ومؤيديها موزعون في كلّ الطوائف. ويفترض بالحزب أن يحرص على مد جسور التواصل معهم، دون إهمال حاضنته الأساسية. لا يُشَاهد أنصار المقاومة من الطوائف الأخرى إلا في التجمعات السياسية الساعية إلى تحقيق أهداف معينة. لكنّهم لا يُشاهدون في احتفالات عيد التحرير وذكرى انتصار تموز، فما المانع من دعوة جمهور الحلفاء السنّة والمسيحيين للتجمع في احتفالات وطنية عامة يُراد منها في الأساس ترسيخ فكرة الانتصار على المستوى الوطني والقومي؟ وما المانع في التشديد على شمولية جمهور المقاومة وإعطاء اعتبار له في الخطاب السياسي العام للحزب؟ إذا كانت الانتصارات تُهدى إلى كلّ أنصار المقاومة في العالم، فالخطاب السياسي يجب أن يكون شاملاً لهؤلاء.
إنّ تصنيف الحزب كحالة شيعية خالصة يُسهّل التصويب عليه مذهبياً واتهامه بالطائفية. ولو تحرر الحزب من هذه الحالة فسيسقط هذا السلاح من أيدي أعدائه. وقد يترجم ذلك في الممارسة السياسية على أكثر من صعيد. بداية من إعادة تكوين كتلته النيابية لتشمل نواباً من غير الشيعة، وليس نهاية بالعمل التدريجي على إنهاء الطائفية السياسية في لبنان.
في كتلة الحزب النيابية نائب سني واحد (وليد سكرية). لماذا لا يزيد عدد النواب السنّة والمسيحيين في كتلة الحزب؟ وخصوصاً أنّ الحزب يفصل بين جسمه العسكري والسياسي من جهة، وأنّ الحزب العقائدي المؤمن بولاية الفقيه لا يصرف هذا الإيمان سياسياً في النظام الطوائفي «العلماني» اللبناني من جهة أخرى. وبالتالي لا مشكلة في تنويع كتلته النيابية لتكون فعلاً كتلة الوفاء للمقاومة على اختلاف الانتماءات المذهبية والمناطقية، ولتمثل فقراء الشمال ومُعدميه كما تمثل فقراء الجنوب والبقاع، وجميعهم يؤمن بالمقاومة وفلسطين.
شكّل الحزب «السرايا اللبنانية لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي» على أساس التنوع الطائفي، لكن التجربة ظلّت محدودة. ويحتاج الحزب في الممارسة السياسية إلى أن يخرج من قمقمه المذهبي ليمثل، مباشرة أو عبر حلفائه، جمهوراً أوسع من الجمهور الشيعي يؤمن بالمقاومة ويُؤَمّن للحزب صورة أكبر من الصورة الشيعية. لقد حان الوقت لإنهاء التسليم بمرجعية آل الحريري السياسية للسنّة، والتي تسبب بين الفترة والأخرى مشاكل جديدة واستغلالاً للمذهبية في الصراع السياسي.
يبقى الموقف من الاحتلال في العراق. ما يجري في هذا البلد المنكوب قضية مهمة بالنسبة إلى الجمهور العربي، وقد عبّر الحزب عن موقف ملتبس تجاه ما يحدث في العراق. فمن جهة، يؤيد الحزب بكلمات مقتضبة المقاومة العراقية ويعارض العملية السياسية على استحياء، ومن جهة أخرى يحتفظ بعلاقات قوية مع أطراف العملية السياسية ويطبل إعلامه لهم وفق منطق سياسي/ مذهبي على أساس الخلفية الفكرية المشتركة والعلاقة مع إيران.

حزب الله مطالب بأن يُدين كلّ من تلوثت يداه بدماء العراقيين، وليس فقط التفجيرات بحقّ الشيعة

يتهم الأميركيون والبريطانيون الحزب بالعمل في العراق ضدهم ودعم مجموعات مقاومة فنياً ولوجستياً. ليس المطلوب من الحزب أن يكشف أسرار العمل المقاوم، لكنه مطالب بموقف يُدين «عمائم الاحتلال» الذين يُدين نظراءهم في لبنان دون اعتبار للخلفية الفكرية أو المذهبية المشتركة. وهو مطالب بأن يُدين أيضاً كلّ من تلوثت يداه بدماء العراقيين، لا أن يكتفي بإدانة التفجيرات الإرهابية بحقّ المدنيين الشيعة.
على الحزب توضيح تبرؤه من شيعة أميركا، وتوضيح تبرؤه ممن يثيرون النعرات المذهبية عبر استحضار وقح لوقائع التاريخ كما فعل السيد نصر الله في خطابه أثناء زيارة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد للبنان. كما عليه أن يذكّر دائماً بالقضية المركزية في مواجهة هذا الإغراق المسفّ في استحضار التاريخ من منطق فتنوي يسعى ـــــ بقصد أو من دون قصد ـــــ إلى دعم مخططات التفتيت المذهبي الاستعمارية.
إنّ الزهد الذي يبديه حزب الله في تعزيز شعبيته وجماهيريته من منطلق أنّ عمله المقاوم هو أداء لتكليف شرعي وواجب وطني فقط لا يجب أن يستمر، فجماهيرية الحزب جزء من تكليفه وواجبه. الجماهير العربية بحاجة إلى نموذج مُلهم يهزم الهزيمة الكامنة في النفوس، ويسقط مخططات التفتيت المذهبي.
مسؤولية المقاومة كبيرة، لا تنتهي بهزيمة إسرائيل، وتستكمل باستنهاض الأمة وتشكيل خط دفاع ضد المذهبية القاتلة للوعي والتفكير.
* كاتب سعودي