حسان الزينرغم مراوحة التسوية السورية ـــــ السعودية لأسباب عدّة، منها ما يتعلّق بالحراك الدولي والإقليمي، ومنها ما يرتبط بصحّة الملك السعودي، يتصرّف سعد الحريري، ولو ببطء، على قاعدة أنّ التسوية ستحصل. يسير بين النقاط، وإذا كانت أذنه في قصور السعودية والأروقة المتعددة للعائلة الحاكمة هناك، وإذا كانت عينه موزعة، هنا، على غير جهة وفريق، من حزب الله الذي أبدى أمينه العام إيجابيّة وتفاؤلاً تجاه التسوية، إلى حليفته القوات اللبنانيّة التي يفسح رئيس هيئتها التنفيذية، سمير جعجع، أيضاً، المجال للتسوية، فإنّ حواسّه كلّها على الاقتصاد.
أي كلام يعدّ الحريري ضد التسوية هو تعصبي أو ظرفي أو تهويلي يهدف إلى الإسراع في التسوية على حساب الحريري وفريقه المحلّي والإقليمي. والمقارنة التي تفرض نفسها بين وليد جنبلاط الذي يكمل استدارته، وسعد الحريري الذي يتضح اتجاه بوصلته، يسيء إلى الوعي ومحاولة فهم حركة الحريري في اللحظة الراهنة، إضافة إلى أنها تحجب الفروق و«الخصوصيات» بين جنبلاط والحريري وما يمثّله كلٌّ منهما.
الأداء الحالي للحريري، شخصياً مع بعض فريقه، محسوب بدقّة رغم ما يرافقه من خطاب انقسامي غالباً ما تكون غايته الرد والتوازن مع الفريق الآخر الذي تتوزع الأدوار على أقطابه. فبينما يظهر الأمين العام لحزب الله ليناً مصحوباً مع رفع أصوات متفرّقة من جانب بعض حزبييه، يتقدّم حليفه ميشال عون لخوض معارك سياسيّة بعناوين متفرّقة، مالية أو اقتصادية أو أمنية، ومنطلقاتها طائفية كي لا تهمله التسوية.
لم تتبلور، حتى الساعة، صورة سعد الحريري «رجل الدولة»، رغم مرور ما يزيد على سنة في رئاسته الحكومة، ولعله شخصياً لم ينضج لهذه المهمة التي رسم والده ملامحها السياسية والتسووية الإقليمية، إلا أنّه يتقدّم في اتجاه يسهل عليه الاقتراب من تلك الصورة. فهو يهدئ اللعب ويتكلّم بصوت منخفض كمن يسحب العصب من الأضراس الملتهبة. وبهذا، لا يكون منتظِراً التسوية، بل مهيئاً الأجواء الشعبيّة والسياسيّة والاقتصاديّة أولاً للسير بها.
لا يمكن سعد الحريري ابن رفيق الحريري وحليف السعودية و«صديق» تركيا أردوغان، أن يكون عكس ذلك، أو أن يقف في مواجهة تسوية. الحريريّة على نقيض ما حملته من شعبوية خلال سنوات الانقسام، هي التسوية. غير ذلك، لا يؤسس لتآكل الحريرية أو للبحث عن دور آخر وحسب، بل إلى أزمة السياسة السعودية في لبنان والمنطقة، إضافة إلى دخول لبنان في مجهول الصراعات المذهبيّة واقتتالاتها وربما حروبها.
تتعدّد الاثقال على كتفي سعد الحريري اليوم، ففيما لم تنضج التسوية السياسية الإقليمية بعد، يقرع الاقتصاد أجراسه، ما يصعّب عليه الحركة في اتجاه سوريا وحزب الله، وحتى نحو حلفائه الذين يتناغمون معه وما زال ملتقياً معهم على عناوين لا يشاء أن تكون التسوية على حسابها، وفي مقدّمها المحكمة الدولية... للحقيقة ووقف الاغتيال السياسي، وطبعاً صيغة الحكم التي ستنتجها التسوية. أما حلفاؤه الاقتصاديون، المصرفيّون خصوصاً، فأجندتهم أكثر إلحاحاً.
هنا، مربط الفرس، فإذا كانت الحريرية، في اللحظة الراهنة، محور التسوية مع حزب الله وسوريا، فإنّها أيضاً صانع التسوية بين حلفائها (ومنهم الاقتصاديّون) والأفرقاء الآخرون. هذه قيمة مضافة لا يقدر على تقديمها إلا الحريرية، ونظرة إلى أداء سمير جعجع الآن تفسّر ذلك. المخاوفُ هنا، اقتصادياً وثقافياً وحقوقياً، على المواطن. فالتسوية السياسيّة هي توزيع أدوار وغنائم، والحريرية في بُعدها الرئيسي مشروع اقتصادي. وتجربة رفيق الحريري كانت عبارة عن مقايضة الاقتصاد بالحكم والسياسة. ففي مقابل الحكم لم تأخذ الحريرية الاقتصاد وحسب، بل وفّرت للشركاء في السياسة والحكم ولبعض فريقها في طبيعة الحال، فرصة ذهبيّة للفساد والنهب وإرهاق البلد في دين مرهِق ومتنامٍ. أمّا المواطن فلم يُرفَس ومصالحه وحقوقه وأمنه الاجتماعي وحسب، بل حوّل سهماً مذهبيّاً في الشركة حيناً وفي الحرب حيناً آخر، ودائماً في جعبة أصحاب التسوية وقادة الاقتتال.
التسوية تجدّد الحريرية. يعي سعد الحريري والسعودية، وكذلك سوريا وحزب الله وميشال عون ووليد جنبلاط وسمير جعجع، وبالطبع نبيه برّي، ذلك. وزيارة رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، ببعديها الشعبي والاقتصادي، تخدم هذا الاتجاه الذي ينشط فيه سعد الحريري. ويبدو أن هنا ستجري المقايضة التي تؤدي فيها تركيا دوراً اقتصادياً من جهة، وسياسياً، سواء أكان في التسوية الإقليمية أم في الداخل اللبناني وعلى الجبهة الجنوبيّة، كعنصر «مهذّب» لإسرائيل. وإذا كان ميشال عون أبرز المتوجّسين من أن تأتي التسوية على حسابه، فإنّ عليه وعلى الأفرقاء كافة، بمن فيهم المواطن، الاستعداد لإنتاج مشاريعهم ومواقفهم في المرحلة المقبلة. والأهم في هذا هو قيمة المواطن وموقعه.