حسان الزينيستعد الحزب الشيوعي اللبناني للاحتفال بذكرى تأسيسه السادسة والثمانين. وإذ يُعدّ استمرار حزب سياسي لاطائفي على قيد الحياة رغم الصعوبات والمآسي، العامة والخاصّة، أمراً مفرحاً، فلا مفرّ من تمنّي أن يجدد شبابه. لقد بات هذا الحزب كهلاً، وليس الأمر بسبب العمر والزمن وحسب. هناك أسبابٌ أخرى تتعلّق بعقيدته التي غدت جماداً وهويّة اجتماعيّة أكثر مما هي فكراً منتجاً. وهناك أسباب تتعلّق بسياسته التي تكرّر نفسها وتعمّق أزمتها وأزمته.
فهذا الحزب منذ أوقفت الحرب اللبنانية، التي ترافقت مع انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية وانتهاء الحرب الباردة، يراوح مكانه في السياسة، ويُعيد على نفسه ما سبق أن أنتجه في مرحلته الذهبية، الممتدة من مؤتمره الثاني عام 1968 حتى مقاومته الاحتلال الإسرائيلي نهاية الثمانينيات. خطابه هو هو. ومع نزفه أعداداً كبيرة، صار هذا الحزب رهينة من بَقي، إما تشبّثاً بالحزب وتاريخه وإيديولوجيته، وإما رهاناً على التجديد والخروج من الأزمة، وإما اعتبار أن لا مشكلة في الحزب بل في المجتمع والسياسة والآخرين.
لكن، رغم احترام من بقوا وخيارهم، لا بدَّ من الإقرار بأنّهم لم يستطيعوا على مدى عقدين النهوض بالحزب وخطابه وسياسته. صحيح أن الأزمة العامة في البلاد صعبة ومنهِكة لكل القوى غير الطائفية، من دون اعتبار أنها مريحة للقوى الطائفية كلها، إلا أن الشيوعيين، بما في ذلك الشباب منهم، ما زالوا غارقين في أزمة حزبهم، التنظيميّة والإيديولوجية والسياسية.
يغفل الشيوعيون عن الواقع ويؤجلون دورهم، وإذ يتّهمون القوى الطائفية والإقليمية بإبعادهم ومحاصرتهم وتهميشهم، تراهم في عملهم السياسي أسرى المساحات الطائفية والمذهبيّة، ويبحثون عن دور بينها، مع مكياج خفيف لخطابهم وموقفهم. وإذ يتّهمون الآخر والبلاد بالطائفية والفساد وما إلى ذلك، تجدهم جامدين في ما ورثوه ونشأوا عليه. وإذ يفاخرون ويرون أن حزبهم منصّة اليسار وأمه وأبوه، تراههم يتصرّفون على نحو احتكاري، ويبتعدون أكثر فأكثر في أزمتهم التنظيمية. فلا يفتحون باباً للحوار والأمل، ولا يقدّمون نموذجاً للمنصّة.
إلى الأزمات الكثيرة التي يتخبّط فيها الحزب الشيوعي، أزمته الرئيسية، في السياسة، هي بحثه عن موقع وهو يكرّر خطابه القديم. والبحث عن موقع مقرون بعقدة يوسف التي تجعله يعتقد أنه الأجمل وأنه رُمي في البئر. وبينما ينوء تحت هذه العقدة يفقد الثقة بالآخرين، وفي الوقت نفسه يطلب منهم الاعتراف به وبجماله، ما يجعله يقف أمام المرآة رافضاً الاعتراف بأنه يذوي ويشيخ. يطلب من الآخرين أن يعطوه، ولا يسعى هو إلى تعلم مهنة بعدما كان يفاخر بأنه نقابي ويخاطب العمّال والفلاحين والمتعلمين.
هذا الدلع الشخصي والرفاه الإيديولوجي، إضافة إلى إخفائه الأزمة، يخفي حقيقة تنظيمية وسياسية مرّة. فالقيادة الراهنة للحزب عبارة عن مجموعة محدودة فكرياً وسياسياً، وأشطر ما تقوم به هو الألاعيب التنظيمية الداخليّة التي تنهل من تجربة ستالين واستخباراته. وفي السياسة، تنشط تلك القيادة التاريخيّة بحثاً عن موقع، مختصِرة «النضال» بالبحث عن راعٍ وعن مقعد شاغر.
لا يمكن أن يؤدي الحزب الشيوعي دوراً وهو حزب قديم وجديده مأزوم إلى حدَّ البؤس. لا يمكن أن يؤدي دوراً في السياسة وهو أسير هوامش المسرح الطائفي المذهبي، ويسحب الكهرباء لغرفه الضيّقة تعليقاً على التوتّر العالي الذي يغذّي الخطاب المذهبي الطائفي. من دون أن يعني ذلك أن الحزب الشيوعي طائفي، لكنه كببغاء «وطني» يشاهد القنوات التلفزيونيّة الطائفيّة طوال الوقت. وأما الشأن الاجتماعي، فيكتفي بالتذكير، بين حين وآخر، أنه قرأ يوماً ما الماديّة التاريخيّة.
لدى الحزب الشيوعي عناصر عدّة كامنة يمكن التأسيس عليها، ولا سيما في البعدين الوطني الديموقراطي والاجتماعي. فهذا الحزب اقترح منذ أواخر الستينيّات «الثورة الوطنيّة الديموقراطية» التي تربط بين مقاومة الاحتلال والتغيير الديموقراطي، وبينهما وبين «العدالة الاجتماعيّة». وبالرغم من انحساره في العديد من المناطق و«البيئات»، ما زال حزباً غير طائفي.
ليس مديحاً للحزب الشيوعي، لكنّ تعافيه يؤثّر إيجاباً، ولبنان يتّسع لقوى سياسيّة ذات بعد اجتماعي، بل هو بحاجة إليها. والمعافاة لا يمكن أن تحصل إلا بجهود الشيوعيين وبحوارهم مع أنفسهم والآخرين لإنتاج حزب جديد.