لا يقرأ الباحثون الكتب حين صدورها، بل حين يحتاجون لها في أبحاثهم. أول ما يفاجأ به القارئ في كتاب الدكتور فريد الخازن الذي قدّم فيه مقاربته لأسباب الدخول في الحرب الأهلية الكبرى (1975–1990) في لبنان، سهولة العرض ووضوح النص. لكنّ أهمية الكتاب هي في جمعه بين دفتيه كل المواقف والأفكار التي تمتدح النظام الطائفي القائم، وتبرر الممارسة القائمة على تطييف السياسة في لبنان. وهو ذخر لكل المنتمين الى هذا الطرح. وهو، تالياً، الكتاب الذي ينبغي رمي كل الأفكار والمقاربات الواردة فيه، للتمكن من استعادة ثقافة سياسية تؤسّس لوطن قابل للحياة
ألبر داغر *
يتضمّن كتاب الدكتور فريد الخازن «تفكّك أوصال الدولة في لبنان 1967 – 1976» 30 فصلاً تحتل مساحة 581 صفحة من الحجم الكبير. ويمكن جمع الفصول التي تتناول موضوعاً بعينه بحيث تؤلف كتاباً قائماً بذاته. أي أن هناك كتباً عدة في كتاب واحد، منها مقارنة النظام اللبناني بالنظام العربي، وتجربة لبنان الاقتصادية والاجتماعية قبل 1975، والمسألة الفلسطينية في لبنان قبل الحرب، وحرب السنتين (1975 – 1976). وكل من فصول الكتاب يحمل موقفاً أيديولوجياً واضحاً بل حاداً، لكنه يصلح في الوقت عينه منطلقاً لنقاش جديد حول تجربة لبنان المعاصرة. فكل فصل في الكتاب يعكس إحاطةً بالمراجع المطلوبة للموضوع المعالج ويعكس النقاش الأكاديمي الدولي الخاص به. وبعض هذه الفصول لم يقتصر على عرض أدبيات صدرت ومناقشتها، بل أضاف معلومات جمعها الكاتب بنفسه من خلال المقابلات العديدة التي أجراها مع المعنيين.
حاول الكاتب أن يبني موقفاً متكاملاً حول أسباب الحرب الأهلية. وقد سعى إلى ذلك من خلال عرض تجربة لبنان المعاصرة، عبر تقديم معطيات عن كلٍّ من طوائفه مأخوذة على حدة، والتركيز على دور الوجود المسلّح الفلسطيني في لبنان منذ 1969، واستعادة الواقع الاقتصادي والاجتماعي خلال السنوات التي سبقت الحرب، وتبيان الدور الذي أدّته الدول العربية في السياسة الداخلية للبنان. وجسّد كتابه دفاعاً عن النظام السياسي اللبناني بصيغته القديمة التي لم تتغيّر بعد الطائف، وعكس جهداً أكاديمياً رفيع المستوى لمصلحة هذا النظام.

تقريظ النظام الطائفي

اعتمدت مقاربات نظرية عديدة لقراءة تجربة لبنان المعاصرة، كان لباحثين أجانب دور رئيسي فيها. يجد القارئ نفسه مستعجلاً لمعرفة مَن مِن هؤلاء اختار الكاتب في المحاججة النظرية التي قدمها. جاء النقاش مع مايكل هدسون (Hudson) بشأن كتابه الصادر في أواخر الستينات «الجمهورية السريعة العطب» في مقدمة الكتاب. لم ينتقد الكاتب نظرية التحديث التي اعتمدها هدسون، لكنه انتقد أولاً وأخيراً ما تقدّم به هذا الأخير من أن الخروج من الطائفية هو شرط مغالبة الضعف الكامن في النظام السياسي والكيان اللبنانيين (ص 38–46). ورأى مقاربة هدسون ناقصة لأنها أغفلت البعد التاريخي في قراءة الواقع اللبناني. أمّا أخذ البعد التاريخي في الحسبان، فعنى بالنسبة له تتبّع «التطور التاريخي غير المتوازن لطوائف المجتمع اللبناني» (ص 53).
في الفصلين الثالث والرابع (ص 53–104) المكرّسين لقراءة تاريخ لبنان في القرنين التاسع عشر والعشرين، اختُصِر تاريخ لبنان إلى العلاقة بين الدروز والموارنة في القرن التاسع عشر. وجرت قراءة القرن العشرين بالطريقة ذاتها، تحت عنوان العلاقة بين الموارنة والسنّة، ثم تحت عنوان صعود الشيعة. ويكتشف القارئ من نص للكاتب صدر في «قضايا النهار» في 14 و15 تموز 2010، أن مقاربته لأوضاع لبنان ماضياً وحاضراً التي تتمحور حول الطوائف وعلاقاتها مع بعضها، بقيت هي ذاتها بعد عشر سنوات من صدور الكتاب.
استخدم الكاتب وقائع اقتصادية وتربوية وتنموية فُرِزت بحيث تُظهر أن للطوائف كطوائف تواريخ خاصة بها، تختلف بها عن غيرها. أي استخدم النقاش حول التنمية في لبنان، نجاحها أو فشلها، لرفد السجال الطائفي. وقدمّ وقائع تثبت أن المسيحيين كانوا متقدمين على غيرهم من الطوائف الأخرى، قبل نشوء لبنان الكبير. والمهم بالنسبة له أن هذه الوقائع دحضت الرأي القائل بأن دولة الاستقلال اعتمدت سياسة محابية للمسيحيين على حساب الطوائف الأخرى (ص 99–103).
هناك عرض دقيق لأوجه المشاركة في الحكم والإدارة يعطي صورة وردية عن أداء النظام السياسي (ص 322–327). وقد محض الكاتب هذا النظام ثقته. وعبّر عن قناعته بقدرة ممثلي الطوائف في الحكم على تعديل توازن السلطة في ما بينهم دون مشاكل (ص 322–324). وامتدح تجربة ما قبل الحرب، حيث التنافس على السلطة كان بين سلطة ومعارضة لكل منهما مكوّنات طائفية متعددة، ولا يعكس صراعاً طائفياً.
ليس ثمة كلمة واحدة في تعريف النخبة السياسية الجديدة التي انبثقت بعد 1920
لكنه شرح بالتفصيل العديد من الأزمات التي نجم عنها انفراط عقد الحكومات القائمة، وتسبّب بها الاختلاف في الرأي والصراع على النفوذ بين القيادات السنيّة والقيادات المارونية، مثل أزمة 1969 وأزمة 1973 وأزمة 1975. أما كل ذلك المقدار من انعدام الثقة بين طرفي النخبة الطائفيين، أي القيادات التقليدية المارونية والسنية، الذي عبر عنه الكاتب بالقول إن «معارضة الموارنة للتغيير في تركيبة السلطة السياسية كانت موازية لمعارضة المسلمين أي تغيير في موقفهم الداعم للوجود الفلسطيني المسلّح» (ص 330)، والذي انفتح على الحرب الأهلية، فلم يزعزع قناعته بجدوى هذا النظام ومحاسنه.
وسوف يتساءل القارئ على مدى الكتاب، كيف يمكن التوفيق بين تقريظ النظام وإظهار عجزه عن التصدي لأية مشكلة يواجهها لبنان؟ كيف نمتدح التوزيع الطائفي للمسؤولية في رأس السلطة، ثم نتباكى على عدم القدرة على اتخاذ قرار؟ كيف ننتقد مثلاً مسلكية «القادة السنّة» في الفصل الطويل حول اتفاق القاهرة (ص 193– 238)، التي تعكس نظرتهم لدورهم بصفتهم ممثلي جماعة طائفية في مواجهة دائمة مع ممثلي الطوائف الأخرى، ونقرّظ في الوقت عينه النظام الذي يقوم على هذه القاعدة بالذات؟ كيف نغفل أن هذه الصورة الوردية للنظام، تخفي مسؤوليته عن وجود إدارة عامة مسيّسة وفاقدة للفاعلية، تجسّد أسوأ ما يمكن أن يبتلى به بلد من البلدان؟ وهل يعقل أن تكون نتيجة كل الجهد الذي يكرّسه الأكاديميون صون استمرار إدارة عامة متخلّفة وغير مسؤولة كالإدارة العامة اللبنانية؟
لم تكن المشكلة بالنسبة للكاتب في النظام السياسي، بل في دخول الفلسطينيين بعد عام 1967 وجودهم المسلّح، وفي «طغيان الراديكالية على سياسة الجماهير» (ص 324).

رفض تعريف النخبة السياسيّة اللبنانيّة

لم يضع ألبرت حوراني، الذي استهلّ الكاتب مؤلفه بتوجيه التحية له (ص 15)، قراءة للبنان تقوم على اعتبار الطوائف منطلق التحليل ومحوره. أقام تمييزاً بين أهل الريف وأهل المدن على الساحل، لكنه لم يقدّم منهجية في التحليل السياسي قوامها اعتبار الطوائف فاعلاً سياسياً أوحد (Ethnicization of Politics) كما فعل الكاتب.
بل أغفل الكاتب الأهم في مقاربة ألبرت حوراني للتاريخ العثماني، أي قراءته للعلاقة بين النخب السياسية والاقتصادية في الأقاليم وبين الدولة، أو استقواء هذه النخب على الدولة، التي صاغها تحت عنوان «السياسة بمنطق الأعيان» (Politics of Notables) (حوراني، 1968). وهو المفهوم الأفضل لقراءة تجربة لبنان الحديثة منذ الاستقلال، والتي جسدت استمراريةً مع ما كان قائماً منذ ما قبل المتصرفية.
ليس ثمة كلمة واحدة في تعريف النخبة السياسية الجديدة التي انبثقت بعد عام 1920. تُجمع الأدبيات الدولية الخاصة بدراسة مجتمعات بلدان العالم الثالث ودولها على استخدام التعريف الفيبري للدولة المتخلّفة بوصفها دولة قائمة على الاستزلام السياسي، وعلى مصادرة النخب السياسية المكوّنة من «رؤساء شبكات محاسيب» الموارد العامة لتوفير منافع خاصة لها.
والتعريف الأكثر حداثة للزعيم هو الذي يظهره «رئيس شبكة محاسيب» من جهة، وطرفاً «يفرض نفسه بالقوة» من جهة ثانية. وقد ركّز مايكل جونسون في كتابه لعام 1986على الوجه الأول للزعيم (جونسون، 1986). وأجرى في كتابه الثاني الصادر عام 2001 مراجعة لما قدمه في الكتاب الأول مستفيداً من مفهوم «المكانة» (honour) والأدبيات حوله. وفي هذا الكتاب الثاني، يظهر على نحو أوضح من السابق البعد المتمثل بالعنف السياسي بصفته مرادفاً للعمل السياسي في لبنان. وهذا ما جعل جونسون يشبّه السياسيين اللبنانيين بالمافيا الكالابرية (جونسون، 2001: 109). وفي مداخلته في بيروت في عام 2002، أثار إطلاقه صفة «المافيا» على السياسيين اللبنانيين اعتراض بعض الحاضرين.
وفي البلدان المتخلّفة، تُغلَّب الاعتبارات الخاصة في علاقة الدولة مع المجتمع، أو يخضع أداء الدولة لمعايير خاصة (particularistes)، فيما يخضع أداء الدولة الغربية المتقدّمة لمعايير عامة (universalistes). ويُستخدم تعبير الدولة النيو–باتريمونيالية للدلالة على هذا الواقع. لا شيء من كل هذا في كتاب فريد الخازن. هناك طوائف لها قادة، هم «قادة الموارنة» و«قادة السنة»، إلخ. وهناك ذكر في أحد الهوامش لكتاب جونسون الأول (ص 85)، ورفض متعمّد لاستخدام مقاربته لقضايا لبنان.

الالتصاق بموقف النخبة السياسيّة التقليديّة في مسألة السيادة

على مدى 45 صفحة كرّسها الكاتب لاتفاق القاهرة، استعاد ما نعرفه من أن لبنان وقّع اتفاقاً يقوم على حساب سيادة الدولة ومصالحها الأمنية (ص 220). واستخدم مذكرات شارل حلو والحوارات معه لإظهاره في موقع المزايد على الآخرين في مسألة السيادة. واستعاد الطريقة ذاتها في المزايدة التي اعتمدها السياسيون المتطرِّفون لتسجيل مواقف تجاه الآخرين، وإظهار أنهم وحدهم الضنينون بالسيادة والمعنيون بالذود عنها. وكرّس الأسطورة ذاتها المؤسِّسة لشرعية قوى الحرب المسيحية، التي تقوم على أن الدولة عجزت عن «ممارسة صلاحياتها ومسؤولياتها» (ص 221)، الأمر الذي برّر لهذه الأخيرة الخروج عليها.
وبالغ في اعتبار أن لا أحد في رئاسة الجمهورية كائناً من كان، كان سيتمكن من مواجهة الوجود المسلّح الفلسطيني خلال النصف الأول من السبعينات. وعمد إلى تصوير هذا الوجود كما لو كان قدراً لا قبَل لأحد بمواجهته، وكما لو أنه يعكس مساراً حتمياً كان سينتهي إلى حيث انتهى، أي الحرب الأهلية (ص 243–247). وبالنسبة له، لم تكن سنتا 1970 و1971 سوى فترة سماح بالنسبة للدولة اللبنانية (ص261).
بل غالى الدكتور الخازن في الانتصار للطرف المسيحي من القيادات السياسية، كائناً ما كان الموقف الذي اتخذه. من ذلك أخذ موقف الرئيس سليمان فرنجية في رفض إقالة اسكندر غانم عام 1973 ثم عام 1975 بعد أحداث صيدا (ص 368). وقد شهد عهد الرئيس فرنجية تراجعاً كبيراً لقدرات الأجهزة الأمنية للدولة، عقب تفكيك المكتب الثاني الشهابي وملاحقة مسؤوليه. وتراجعت قدرة الدولة على صون سيادتها الداخلية. ويشير الخازن إلى مسؤولية السياسيين في العهد الجديد عن ضرب فاعلية مخابرات الجيش، وقت كان الفدائيون يتسلّلون بقوّة إلى لبنان (ص 260).
وقد سُجِن الناس في مقاربة الزعماء أنفسهم للأمور. كانت القيادات السياسية تمنع الجيش على امتداد حقبة ما قبل الحرب من أداء دوره في حماية الأرض الوطنية. لم يكن هؤلاء يريدون مواجهة إسرائيل وتقوية الجيش حتى يحافظ على صدقيته، وكانوا يستندون إلى حالة الضعف التي أقاموها لتسويغ أدوار لهم قوامها الافتئات على سيادة الدولة الداخلية.
وكان رضوخ الجيش لإملاءات القيادات التي تقول بأن «قوة لبنان في ضعفه» هو الذي تسبّب بتراجع صدقيته لدى الناس. وفي عام 1973، بلغت هذه الصدقية الحضيض. وانتهت الطبقة السياسية بأن سحبته من المواجهة مع الفلسطينيين في ذلك العام، لأنه افتقد دعم غالبية اللبنانيين.
وكانت القوى التي تتدرّب منذ 1969 استعداداً للمواجهات الداخلية، الوحيدة التي استمرت ترفع لواء الدعم للجيش، لكن بصفته جيشاً معنيّاً بحسم الصراع الداخلي لمصلحتها. وكان عطفها الزائد عليه يفقده الصدقية عند بقية اللبنانيين.
يؤكد الكاتب أن سياسة «الخطوة خطوة» همّشت البعد الفلسطيني في الصراع العربي – الإسرائيلي (ص 297). وقد تفرّغت إسرائيل بعد فصل القوات مع مصر وسوريا لضرب منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان. هذا ما يفسّر ارتفاع وتيرة الاعتداءات على لبنان وجنوبه ابتداء من 1974. وقد بلغ عدد هذه الاعتداءات بين عامي 1968 و1974 ثلاثة آلاف اعتداءً وفقاً لإحصاءات الجيش اللبناني، أي بمعدل 1.4 اعتداء كل يوم. وارتفع المعدّل اليومي للاعتداءات الى سبعة كل يوم خلال فترة 1974–1975، مثلما جاء في كتاب سمير قصير عن الحرب اللبنانية (قصير، 1995: 64–65). وقد أغفل الخازن ذكر المعطيات حول الاعتداءات الإسرائيلية التي أشار إليها قصير.
أما سوريا التي وقّعت اتفاق فصل القوات مع إسرائيل، فلم تطنّش عن مسألة الدفاع عن المخيّمات، بل أولت هذا الأمر أهمية، عبر تهريب السلاح إليها وإقامة نظام دفاع جوّي في المخيمات (ص 301)، فيما رأت حكومات لبنان أن كل هذا خارج نطاق مسؤوليتها. وكان موقف هذه الأخيرة على الدوام، النظر إلى ما تقوم به إسرائيل من اعتداءات على أنه القدر الذي لا مردّ له، وتجاهل ضرورة الاستعداد للحرب، وإلقاء اللوم على كل من يتسبّب باستفزاز إسرائيل. وكانت الدولة اللبنانية من جهة أخرى، تتخلى تدريجياً عن سيادتها الداخلية وتقبل بدخول الميليشيات طرفاً في حفظ الأمن (ص 300).

الدفاع عن التجربة الاجتماعيّة ـــ الاقتصاديّة اللبنانيّة

نفى الكاتب دور العوامل الاجتماعية الاقتصادية في الأزمات التي عرفها لبنان قبل الحرب. وبقي الربط بين الواقع الاجتماعي والاقتصادي القائم وبين زعزعة الاستقرار موضع تساؤل لديه (ص 347). وقد اتخذ من آراء سمير مقدسي وإيليا حريق حججاً إضافية تدعم رأيه (ص 333).
نفى الكاتب دور العوامل الاجتماعية الاقتصادية في الأزمات التي عرفها لبنان قبل الحرب
استخدم الكاتب نصاً لألبر بدر للقول إن القطاع الزراعي نما طوال عقدي الخمسينات والستينات (ص 337). وقلّل من أهمية الهجرة الريفية التي عرفها لبنان قبل الحرب لأنها واقع عالمي ولأن النزاعات لم تعمّ البلدان التي عرفتها (ص 344). أما الهجرة من الريف التي تسارعت خلال عقد الستينات وبقيت قائمة بالوتيرة ذاتها حتى عام 1975، فقد كانت في الواقع عملية تهجير جماعي سريع لأهل هذا الريف. وعام 1975 كان 65 في المئة من أهل الجنوب اللبناني قد تركوا أرضهم. وبلغت النسبة على مستوى لبنان كله 40 في المئة حسبما ذكر سليم نصر (نصر، 1978: 10). وتجمع النازحون من كل لبنان ضمن دائرة مثلتها بيروت الكبرى فيما وقفت الدولة موقف المتفرّج إزاء هذه التحوّلات الكبرى التي عصفت بالكيان (أوين، 1988). ليس ثمة حجة يمكن أن تشفع لهذا النظام الاقتصادي الذي تولّى هدم الريف اللبناني وبعثرة نسيجه البشري في أصقاع الأرض الأربعة خلال فترة قياسية من الزمن.
تغلب القراءات الماركسية بين تلك التي يحاججها الكاتب، مثل تلك العائدة لبتران (Petran) وعوده (Odeh) وكشلي ودوبار ونصر (Dubar et Nasr). لكن بعض هذه الكتابات هي كتابات أصيلة في رصدها للواقع الاقتصادي والاجتماعي القائم، وليست محض قراءات أيديولوجية. قد لا نحب ربط الأمور كلها بسيطرة رأس المال الأجنبي كما في «نظرية التبعية»، وفي كتابات سليم نصر على سبيل المثال. لكن إغفال هذه النقطة في كتابات نصر وعدّها غير موجودة لا ينتزع مقدار ذرة من أصالة رصده للواقع الاجتماعي لحقبة ما قبل الحرب.
وقد تفاقمت أزمة غلاء المعيشة والأزمة الاجتماعية على مدى النصف الأول من عقد السبعينات. وتسبّب بذلك الإسراف في التسليف واعتماد الدولة سياسة «اليد المرفوعة» التي سهّلت نهب التجار لمداخيل المنتجين اللبنانيين وفاقمت عملية استقطاب الدخل القائمة. وانعكست الأزمة الاجتماعية مزايدات داخل النخبة السياسية، وبررت استقطاباً داخلها بين المصرّين على الحفاظ على الوضع القائم والمطالبين بـ«المشاركة».
اعتمد الكاتب بين، مراجع أخرى، كتاب ألبر داغر التوثيقي حول عهد فرنجية، لإعادة بناء الوقائع الأقتصادية والأجتماعية لتلك الحقبة (داغر، 1995). يستنتج الكاتب من المرجع المذكور زيادة الإنفاق على التنمية كما تظهر في الموازنات السنوية للحقبة (ص 340)، مغفلاً أن تلك الأرقام كانت وهمية، لأن المبالغ المذكورة كانت ترصد ولا تُنفق. ويقدم المرجع المذكور ثبتاً ملخصاً (ص 15–33) لما حاولته الحكومات المتلاحقة للتصدي لأزمة غلاء المعيشة أولاً، ولمواجهة أثر تدفق الرساميل من الخارج، وخصوصاً تحسّن سعر صرف العملة ثانياً، ولمواجهة ما رتّبه ارتفاع الأسعار من أعباء إضافية على الخزينة ثالثاً. وقد أثبتت تلك المحاولات عجز الحكومات المعنيّة عن مواكبة الفورة الاقتصادية التي عرفها لبنان في النصف الأول من السبعينات. وأثبتت على وجه الخصوص، فشل تلك الحكومات الذريع في مواجهة مشكلة غلاء المعيشة.
وفي نصي كلود دوبار وسليم نصر (1976) وسليم نصر (1978) استعادة لارتفاعات الأسعار الكارثية خلال تلك الحقبة، لا علاقة لها بما كان يصدر أو صدر لاحقاً عن مديرية الإحصاء المركزي في هذا الشأن. بل يمكن القول إن التضخم أدّى دوراً حاسماً في التعبئة ضد النظام السياسي، وفي إقناع الناس بضرورة التفتيش عن بديل له.
واستعاد الكاتب تقريظ مقدسي لاستقرار سعر صرف العملة وفائض ميزان المدفوعات، أي مديح الدور المالي لبيروت ولنموذج «الرأسمالية الريعية» الذي اختصّ لبنان به، والذي قام على حساب نمو اقتصاد منتج فيه. واستخدم هو الآخر كل ذلك الكلام الفاتر الذي ما انفكّ الأكاديميون يستخدمونه منذ خمسينات القرن العشرين، الذي يقول الشيء ونقيضه، وخصوصاً أن كل شيء كان ممتازاً، في ما عدا أنه كان ينبغي الانتباه أكثر إلى مسألة إعادة توزيع الدخل الوطني.
واستخدم مرجعاً في تقويم تجربة لبنان الاقتصادية والاجتماعية لحقبة ما قبل الحرب، وفي الحكم على مسار التنمية السياسية التي عرفها خلال تلك الحقبة، نصاً مضحكاً لإيليا حريق (حريق، 1982). يقول هذا الأخير إن لبنان كان في موقع ممتاز تبعاً لكل المؤشرات، مقارنة بغيره من البلدان النامية، وإن تقدّمه كان مطرداً على صعيد التنمية السياسية حتى عام 1975.
وخصّص الكاتب صفحات عدة للاستفاضة في الدفاع عن شركة «بروتيين» (ص 361–364) التي كان الاعتراض عليها وراء التظاهرة التي اغتيل فيها معروف سعد. وفي تلك الحادثة بالذات دليل على الارتباط بين الواقع الاجتماعي والاقتصادي القائم وبين زعزعة الاستقرار. وهي عبّرت عن نقمة هائلة تجاه دولة غير مسؤولة تركت تكتلات القطاع الخاص تستولي على مداخيل المنتجين وأسباب رزقهم من دون رادع أو وازع. وينبغي العودة إلى نصي سليم نصر المذكورين أعلاه للاطلاع على تفاصيل دقيقة في هذا الشأن. وقد دافع الكاتب عن مصالح لبنانيين وأجانب كانوا يعدّون مشروع إنتاج مواد أولية غذائية برسم التصدير على حساب المنتجين المحليين ومصدر عيشهم. ولماذا ينبغي أن يوافق المنتجون المعنيّون على المشروع في ظل سياسة حكومية عنوانها «اليد المرفوعة»، تعوّد هؤلاء أن يروها عداءً سافراً لمصالحهم؟
وقد حصر الكاتب نفسه في مقاربةٍ عنوانها التساؤل هل الأوضاع الاقتصادية السيئة تؤدي إلى حرب أهلية، جرياً على ما فعله حريق. والجواب هو أن البلدان المختلفة لا تشهد بالضرورة حروباً أهلية بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية. بل جاءت الحروب على الدوام من امتناع الدولة أو عدم قدرتها على ممارسة شروط سيادتها الداخلية.وهل كان مستقبل الطائفة التي يهتم الكاتب لأمرها سيكون نفسه لو أن نخبة عسكرية مثلاً حلّت محل النخبة السياسية المدنية منذ الستينات مع برنامج يقوم على صون سيادة الدولة الداخلية في وجه السياسيين، وما ينجم عن ذلك من قدرة على صون سيادة الدولة الخارجية؟ هل كان المستقبل سيكون هو نفسه لو أن هذه النخبة أو غيرها حملت مشروعاً اقتصادياً يقوم على تحقيق استثمار كثيف في البنى التحتية للمناطق ويوسّع قدرة استيعاب هذه الأخيرة ويشجّع قيام نشاطات صناعية فيها توفّر للناس ما يجعلهم يبقون في أرضهم ولا يهاجرون منها؟
* أستاذ جامعي