زار معرض لجبران بيروت أخيراً، وعُقدت حلقة تلفزيونيّة خاصّة عنه. لماذا هذا الهوس اللبناني بقصّة جبران؟ ولماذا تحوّلت حياته المتواضعة دليلاً آخر على التفوّق اللبناني المزعوم؟ من هو جبران وما حقيقة عالميّته؟ يصرّون في لبنان على أنّ كتابه «النبي» يبيع أكثر من الكتاب المُقدّس. مَن قام بهذا الإحصاء ومن قارن ودرس الأرقام؟ خزعبلات في بلد بلغت التفاهة فيه أنّ ممثّل لجنة «غينيس» للأرقام القياسيّة بات شبه مقيم في لبنان
أسعد أبو خليل*
من حسن حظّ لبنان أن لا أحد من أبنائه قد حاز جائزة «نوبل». العالم المصري أحمد زويل اعترف بجرأة ما بعدها جرأة في خطابه أمام حشد الجامعة الأميركيّة في بيروت أنه قدّم أوّل طلب للوظيفة في الجامعة الأميركيّة نفسها، لكنها رفضته. حسناً فعلت. فهي لا تستحقّ أمثاله من العلماء، وخصوصاً أنها كانت آنذاك لا تزال راضخة لمراسيم ومعايير التفوّق الطائفي والديني المُعبّر عن الصيغة اللبنانيّة. يكتفي لبنان في سعيه نحو المجد بإدراج اسمه مقروناً بأضخم صحن حمّص عملاق وأضخم علم لبناني (احتفال تدشين «أكبر علم» حضره رئيس أركان الجيش اللبناني نفسه الذي مدح ألوان العلم: «كانت للعلم اللبناني الحظوة الكبرى بين أعلام الدنيا، فهو زاه بألوان جميلة تجاورت في انسجام وتآلف أوحت بهما الطبيعة الجميلة لهذا الوطن»). إسرائيل تكدّس الترسانات الفتّاكة وتهدّد لبنان يوميّاً، فيما يُشغل لبنان بمطالبة البعض بنزع سلاح المقاومة وبتأييد نشر أكبر علم حماية للحدود المُستباحة من قبل إسرائيل. والمُبالغة في حجم لبنان والإكثار من التقريظ الذاتي تطلّبا اختراع أمجاد وبطولات، وإن كانت من نسج خيال بليد. جبران كان ضروريّاً، إذاً. وجب اختلاقه. لكن عليّ بداية أن أعترف بهوى جبراني مُبكّر.
اكتشفتُ جبران في سن الثامنة أو التاسعة. وقعت على كتاب «الأرواح المتمرّدة» قبل أن ألتهم مرّات ومرّات المجموعة الكاملة لمؤلّفات جبران بالعربيّة. قصّة خليل الكافر وخطبه القويّة سحرتني في ذلك السنّ. وجدت فيه جرأة لم أجدها في النصوص المُدرجة في الكتاب المدرسي الذي كان يضجّ ويعجّ بالفكرة اللبنانيّة (كان علينا أن نستظهر مثلاً تلك القصيدة «يا ثلج قد هيّجت أشجاني/ ذكّرتني أهلي بلبنانِ»). وكان أسلوب جبران بعيداً كلّ البعد عن التكلّف الذي طبع النصوص الإنشائيّة التي فرضها انعزاليّو لبنان الأوائل، من أمثال فؤاد أفرام البستاني وغيره ـــــ حرص حزب الكتائب اللبنانية في حقبة ما قبل الحرب على الاحتفاظ بوزارة التربية من أجل غسل عقول

المؤسّسة اليسوعيّة حوّلت جبران من كاتب كافر ومنبوذ إلى بطل مسيحيّ لبنانيّ

الطلبة وقلوبهم ـــــ. جبران تكلّم عن الحب وعن التمرّد وعن الحريّة، وإن كانت كتاباته عن الحريّة خالية من أي مضمون سياسي.
من خلال جبران، تعرّفت إلى ميخائيل نعيمة، لمعرفة جبران أكثر. قرأت سيرة نعيمة عن جبران قبل أن أقرأ باقي مؤلّفات نعيمة. كتبت رسالة إعجاب بنعيمة في سنّ العاشرة وقابلته مرّتيْن في سن الثانية عشرة. كان ودوداً لكن جافّاً ولاهوتيّاً. أذكر أنني فشلت في معرفة جبران من خلاله. كان إذا سألته عن كتاب «النبي» يحدّثني عن «كتاب مرداد». وإذا حدّثته عن كتاب «رمل وزبد»، يحدّثني عن «كرم على درب». لا يمكن التقليل من قيمة نعيمة الأدبيّة: في بازار نوبل الشخصانيّة والسياسيّة، كتاب «سبعون» قد يكون من أفضل ما كُتب بالعربيّة في القرن العشرين، ومن أكمل السيَر على الإطلاق. فكريّاً، كان نعيمة زاهداً يدخل في فكره الكثير من الترداد المزعج عن «الدنس» وعن «الأغراض» وعن الطهارة. كان راهباً، أعلن ذلك أم لم يعلن. لكنّ سيرته عن جبران أثارت لغطاً كبيراً. تعرّضت لانتقادات لا تنتهي. وقد أزعجتني في حينها، لكنّني اليوم أفهم مرامي نعيمة من خلالها.
هال نعيمة الهالة القدسيّة والتعظيميّة التي أحاطت بجبران بعد عودة جثمانه. لم يُرد أن تكون صورة جبران الخياليّة غير خاضعة للنقد والتدقيق. أعطى صورة عن جبران أقرب إلى حقيقته من الكثير من الكتب الأخرى التي ما حادت عن مسلك التعظيم. عاصر نعيمة جبران وأدرك أن قيمة جبران في أميركا تعرّضت لمبالغة شديدة. هل كانت الغيرة تعتمر في صدره إزاء ذلك؟ هذا مُرجّح، وخصوصاً أنّ نعيمة دأب على تقليد النمط الجبراني في إصدار المؤلّفات. حتى إن ديوانه «همس الجفون» تضمّن رسوماً لا تخفي تقليد نعيمة لجبران فيها. وضع كتاب مرداد فلم يقع على أثر، ناسياً أن «النبي» هو أسلوب، قبل كل شيء، أو أسلوب فقط، لا غير. وفي محاولة لقطف العالميّة المنشودة، ترجم نعيمة إلى الإنكليزيّة بعضاً من كتبه، لكن أسلوبه في الإنكليزيّة يشبه أسلوب ترجمة العقود القانونيّة. إلا أنّ نعيمة لم يحلّ لغز جبران، لأن في الشعب من لا يريد الحقيقة.
ظلّ جبران هو اللغز بالنسبة إلي. زار معرض لجبران بيروت أخيراً، وعقد وليد عبّود حلقة خاصّة عن جبران في محطّة «إم تي في» ـــــ ماذا كان سيقول جبران في تلك المحطّة الطائفيّة التي لا تتورّع عن نشر تقرير «خاص» عن خطر شراء شيعي لأراضٍ في منطقة الجديدة؟ ـــــ لم يفدنا في تلك الحلقة إلّا حسين صفي الدين الذي يبدو أنه متبحّرٌ في أدب جبران أكثر من غيره. كان مُنصفاً ولم ينسَق إلى الهمروجة الإعلاميّة البعيدة عن الواقع، التي أرادت إقناع الجمهور بأن جبران هو شاغل العالم. هنري زغيب، تلميذ سعيد عقل المُتيّم، أصرّ على أن جبران يجب ألا يُعلّب (وهو في ذلك يردّ على الدراسات الرصينة عن جبران للباحث المُتمعّن، جان داية). لكن زغيب يعود ويعلّب جبران في إطار القوميّة اللبنانيّة الشوفينيّة. هل كان جبران خليل جبران مُؤسِّساً لتنظيم «حرّاس الأرز» الفاشي يا هنري زغيب؟ هل اعترف بذلك في رسالة إلى ماري هسكل؟ أما رئيس لجنة جبران الوطنيّة، طارق الشدياق، فكان أقرب إلى مبعوث «القوّات اللبنانيّة»، ومعرفته بجبران بدت ضحلة، إلى درجة أنه بقي صامتاً باستثناء تدخّلات سياسيّة أقرب إلى الترّهات. فقد أصرّ على أن جبران كان مسيحيّاً مؤمناً، مع أن نعيمة في سيرته كان واضحاً أن جبران رفض تدخّل الكاهن لحثّه على الاعتراف وهو على فراش الموت. الشدياق، من دون دليل أو دراسة أو مرجع، شكّك في الرواية، مع أن راويها كان شاهد عيان. هذا هو الاختراع الجديد لجبران: عليه أن يكون قوميّاً لبنانيّاً ومسيحيّاً متزمّتاً، وهو لم يكن هذا أو ذاك. إنها ضرورات الأساطير المتداولة للوطنيّة اللبنانيّة العرجاء. نبذوا جبران في حياته واستولوا عليه في مماته. هؤلاء لو أعادوا قراءة كتابات جبران الإنكليزيّة عن المسيح، لوجد فيها المطران بشارة الراعي سبباً لإنزال «الحرم الكبير».
ينسى البعض أن المؤسّسة الرجعيّة اللبنانيّة (الكنسيّة والحكوميّة) غيّرت رأيها في جبران من أيام حياته إلى وفاته. إن نقد «الآراء الكُفريِّة والأقوال الخلاعيّة» لجبران وتهشيمها (أنظر مجلّة «المشرق»، السنة 21، عدد 29 أيلول 1923، ص 866) وردا في أعداد مختلفة من «المشرق» ـــــ مجلّة الاستشراق اليسوعية ـــــ. ونشر أمين خالد في ثلاث حلقات نقداً عنيفاً لأدب جبران (أنظر السنة 30، أعداد تموز وآب وأيلول عام 1932). ولم يتورّع لويس شيخو نفسه (عميد الاستشراق اليسوعي ذو التأثير الهائل على جيل أو أكثر من الدارسين اللبنانيّين) عن اتهام جبران بالجنون (مثل اتهام مي زيادة الباطل بالجنون) (أنظر سنة 1924، المجلّد 22، ص. 555، والمجلّد 24، عدد 6، حزيران 1926، ص 633). ونجد أن المؤسّسة اليسوعيّة (بالمعنى السياسي)، وبسحر ساحرٍ، حوّلت جبران من كاتب كافر ومنبوذ إلى بطل مسيحيّ لبنانيّ (ولا شكّ في أن لذلك علاقة بمحاولة الاستفادة السياسيّة ـــــ الدينيّة من دلائل «عالميّة» جبران الحقيقيّة أو المزعومة).
ففؤاد أفرام البستاني ـــــ الذي بثّ من سمومه في مختلف المناهج الدراسيّة اللبنانيّة بعد استقلال لبنان المزعوم ـــــ يتهم هو أيضاً جبران بالجنون وبحمل «الأفكار الفاسدة»، ويشبّهه بـ«بولشفيك روسيا التاعسة»، ويحذِّر «العقلاء» مِن شُرب سُمِّه (أنظر «المشرق» عدد 10، السنة 21، تشرين الأوّل، 1923). ولكن موقفه من جبران يتغيّر فجأةً في سنة 1939 في مقاله «على ذِكر جبران» (السنة السابعة والثلاثون، نيسان ـــــ حزيران 1939). ففي هذه المقالة يقف البستاني موقف المُحايد والمُعجب بأدب جبران، ويلمّح (ص. 265) إلى احتمال وفاته كاثوليكيّاً، ويتحدّث عن صداقته ببعض رجال الإكليروس (ص. 263) (من دون دليل، على طريقة طارق الشدياق الذي أشاد بنوّاب بشرّي في حلقة البحث عن جبران. ولمّا سُئل عن سبب الإشادة، قال إن نوّاب بشرّي هم الذين دعوا كارلوس سليم إلى لبنان. ونِعمَ الإنجاز).
لقد كان نعيمة في سيرته، وجبران نفسه في كتاباته، واضحين جداً من حيث علاقة الأخير بالإكليروس. كذلك فإن الإكليروس كان واضحاً في علاقته بجبران أثناء حياته (يُذكر أن موقف شيخو من جبران والريحاني وفرح أنطون كان موقفاً طائفيّاً صارخاً، إذ رأى فيهم أناساً باعوا دينهم. وقد أطلق شيخو على الريحاني لقب «محمّد الريحاني» («المشرق» السنة الحادية والعشرون، العدد 6، حزيران 1923، ص. 488،)، وزاد أنه ذو «رائحة منتنة» (ص. 491).
لكن جبران يصبح شخصاً آخر بعد أن ينضج المرء وتنضج قراءاته. أين يصبح كتاب «النبي» بعد أن يقرأ المرء كتاب نيتشه «هكذا تكلّم زرادشت»؟ حسناً فعل حسين صفي الدين في الحلقة المذكورة عندما اعترف بأنه ليس لجبران فلسفة خاصّة به، وإن أضاف أن له رؤية فلسفيّة. الواقع أن جبران كان يفتقر إلى الفلسفة والرؤية الفلسفيّة معاً. تستطيع أن تتبيّن مقاس جبران وحجمه بعد أن تأتي إلى الولايات المتحدة. ماذا تكتشف؟ خلافاً لأباطيل سمير عطا الله الذي يؤكّد أن الكلّ يعرف جبران خليل جبران في أميركا، وأنه مُقدّر هنا أكثر ممّا هو في بلاده، الرجل غير معروف إلا من القلّة التي تحب الشعر المنثور والكلام المُنمّق (ألم يصفه الريحاني في حديث نقله نعيمة بـ«العواطفيّة غير المُستساغة» (التعبير بالإنكليزيّة وليس من السهل ترجمته). جبران كان غير معروف، إلا أنّ مجتمع الهيبيين في الستينيات، على أنغام موسيقى الروك وتحت تأثير ما تيسّر من المخدّرات، أعاد اكتشافه ووجد في كتاب «النبي» ضالته. وقع تحت تأثير عبارة «أولادكم ليسوا لكم». الإنشاء الجبراني المُتكلّف بالإنكليزيّة كان خفيف الوقع على متمرّدي الماريجوانا آنذاك. روّجوا لكتاب «النبي» وكانت بعض عباراته تُردّد.
لكنّ جبران يا ناس لا يُدرّس في أي جامعة غربيّة في باب الأدب الإنكليزي. لا ترتقي كتابات جبران إلى مصاف الأدب، بالمعيار الأكاديمي. كتابات جبران الإنكليزيّة تُعدّ كثيرة الجديّة والتكلّف والصرامة في التعبير (على عكس كتاباته العربيّة، للمناسبة، هل لأنه أجادها أكثر؟). كتابات جبران لا تُستعمل حتى في صفوف التعليم الثانوي، بل في بطاقات «هولمرك» للمعايدة. أي لديها مذاق شعبي عام وغير مُمَيِّز. لكنني أردت أن اختبر نظريّة سمير عطا الله بشأن شيوع اسم جبران في أميركا، فسألتُ في يوم واحد ما يقارب مئة من تلاميذي إذا كان أحدٌ منهم (ومنهنّ) قد سمع بجبران أو بـ«النبي». لم يسمع واحد منهم ومنهن بجبران أو بكتاب «النبي». استيقظوا يا قوم.
لا تحاولوا البحث عن الفكر في كتاب «النبي». إنه كلام مرصوف (وجميل أحياناً) وليس أكثر. من يقرأ «هكذا تكلّم زرادشت» ويعود ويقرأ «النبي» يجد أن الفرق بين الكتابيْن هو مثل الفرق بين مجلّة «الشراع» ومجلّة «الإيكونومست». هناك أفكار إصلاحيّة لجبران وبعضها مفيد وجريء للغاية، وخصوصاً في التعرّض للإكليروس في «خليل الكافر» أو الملامح الاشتراكيّة التي درسها فواز طوقان في «أسرار تأسيس الرابطة القلميّة وعلاقة أعضائها بالفكر الاشتراكي». وكتابات جبران كانت جاذبة لأنها خرقت جدار الإنشائيّة التقليديّة التي نفّرت الناشئة من الأدب العربي. لكنّ فكر جبران السياسي والاجتماعي اعتراه تناقض ما (علاقاته بالطائفي والاستعماري، أيّوب ثاتب، لم تتوضّح بعد). كان جبران يستطيع أن يتعاطف مع المرأة المظلومة في «أجنحة متكسّرة»، لكنه لم ينتفض على المعايير والمقاييس والقيم التي ترسّخ قمع المرأة في مجتمعاتنا. في أسئلة منشورة لنسيب عريضة (لماذا يُهمل هذا الشاعر الموهوب؟)، رأى جبران أن أهم فضيلة للمرأة هي «العفّة»، وهل ألحق بالمرأة المتوسطيّة من ضرر أكثر مما لحقها من خلال تقديس العفّة؟ وكتابات جبران تتعامل مع الحب من خلال النظرة الرجعيّة التقليديّة، وهو مثل زهد نعيمة يحذّر من «الأغراض» في قصيدة «المواكب» (غير المُترابطة).
لكن إرث جبران تعرّض لتشويه فظيع. فالقوى نفسها التي نبذته وكفّرته في حياته، عادت وقرّرت أن تُلبننَه وتنصّرَه بعد وفاته. كاد رئيس لجنة جبران الوطنيّة يجعل من جبران قياديّاً في «القوّات اللبنانيّة». لكنّ أكاذيب القوى الوطنيّة اللبنانيّة ظهرت بوضوح في البحوث الاستقصائيّة التي أجراها جان داية ـــــ الذي لا يكلّ ـــــ في كتابه «لكم جبرانكم ولي جبراني». جميل جبر وأمين الغريّب وهنري ملكي، كما بيّن بالتدقيق داية في كتابه، حوّروا وغيّروا من كلمات جبران من أجل جعل الإشارات إلى سوريا إشارات إلى لبنان ـــــ مسخ وطنهم الحبيب ـــــ. بالتزييف والكذب جعلوا جبران لبنانيّاً. والطريف أن جريدة «نيويورك تايمز» جعلت من مسقط رأس جبران (التي كانت تشير إليه بـ«الشاعر السوري») في خبر وفاته الصغير «جبل لبنان، فلسطين» (راجع عدد 11 نيسان، 1931). جان داية حرّر جبران من الأكاذيب الوطنيّة اللبنانيّة وأبرز الجانب السوروي في كتاباته. وداية، خلافاً للقوميّين اللبنانيّين، لا يتلاعب بالأدلّة.
لم يترك جبران فكراً سياسيّاً واضحاً، لكنه بالتأكيد لم يكن من أنصار الإكليروس الذين اعتنقوه بعد وفاته، ولا من أنصار الوطنيّة اللبنانيّة. لقد تحدّث في نقده عن «الأضراس المسوّسة» في فم الأمة السوريّة. كان يشكو من وطأة الرجعيّة والتخلّف من دون أن يغوص في الفكر السياسي في أي من جوانبه. وكتابات جبران عن الحريّة لا معنى لها، لأنه لا تعريف للحريّة فيها. هي شيء جميل، فقط. لا تسألوا (وتسألن) أكثر. ومن اللافت أن الكتّاب العرب في مصر أخذوا جبران على محمل الجدّ قبل أن يفعل ذلك كتّاب لبنان. جبران خليل جبران كان مُجدِّداً وكان مُبتكراً وكان إصلاحيّاً وكان شاعراً بارعاً ويجب أن يُقرأ نثره كشعر، لا أن يُقرأ كفكر سياسي مُبكّل. لم يعنَ جبران بوضع برنامج إصلاحي أو فكر مُحدّد. الشدياق كان أكثر إقداماً من جبران، حتى لو عاش قبله، وكان مشروعه في اللغة أكثر عُمقاً من جبران، وكان مقذعاً مثل جبران وأكثر في نقده للإكليروس. وكان الشدياق طريفاً في سخريته، فيما كانت كتابات جبران تشكو من جديّة قاتمة، مع أن شخصيّته في الحياة كانت ساخرة. لا يجب الاستهانة بجبران أو إهماله في المناهج الدراسيّة، لكن مثل كل عناصر نظريّات التفوّق اللبناني، يحتاج الأمر إلى إعادة نظر لتنقيته من الخزعبلات (يقول سمير عطا الله الذي كتب مرّة مديحة في حق الأمير مُقرن بن عبد العزيز، إن الشعب اللبناني هو «أحد أكثر الشعوب ذكاءً» (سمير عطا الله، «مقال الأربعاء»، ص. 434).) قد يكون الاهتمام اللبناني بجبران منبعه الظن أنه شاغل الرجل الأبيض في الغرب، وأن على الشعب اللبناني، كعادته، اقتفاء آثار الرجل الأبيض في هذا الموضوع مثل غيره. لكن جبران كان أكثر تنبّهاً. تذمّر من نظر ذلك الفريق من

تذمّر جبران من النخبة النيويوركيّة ورفض تمثيل دور القرد للترفيه عن الغربي

النخبة الفنيّة النيويوركيّة الذي واكب صعوده، وقال في رسالة أوردها قريبه (خليل جبران) الذي كتب أوفى سيرة له، إنه لا يريد أن يمثّل دور القرد المَربوط بحبل من أجل الترفيه عن الغربي. لكنّ الوطنيّة اللبنانيّة أصرّت عند إعداد عناصر نظريّة التفوّق اللبناني على إعلاء شأن كل مهاجري لبنان ووسمهم بالعبقريّة التي يبدو أنها تصيب اللبناني (يبدو أن اللبنانيّة بعيدة عنها في نظر ذكوريّة الوطنيّين اللبنانيّين) بمجرّد أن يغادر وطنه. يعني لو أن فريد حبيب أو خالد زهرمان غادرا لبنان لأصابهما شيء من الذكاء. الوطنيّة اللبنانية أرادت أن تثبت بالملموس أن لبنان عظيم وأن أهله عظام. وبسرعة البرق، تحوّل جبران إلى واحد من أهم عظماء التاريخ، ويدرجه المنهج الدراسي اللبناني على أنه «فيلسوف». لكنّ الثقافة في لبنان تستسهل دوماً إسباغ صفة الفلاسفة على أمثال صحافيّين وكتّاب، مثل سعيد عقل والريحاني وكمال الحاج وربّما نقولا فتّوش في ما بعد ـــــ قد يطلع الأخير بنظريّة فلسفيّة في أثر الكسّارات على الوجوديّة. من يدري؟
ليست هذه دعوة إلى نفي جبران من المنهج الدراسي. على العكس، هذه دعوة إلى دراسته بجديّة، لكن بعد أن يوضع في موقعه الحقيقي والطبيعي. لا نريد من المهاجرين من لبنان أن يُصابوا بالإحباط مثلي: تربّيت على فكرة أن جبران شأن أميركي وعالمي، لأجد أنه لا أحد يسمع به، وإن سمعوا فكونه شاعراً غير معروف. أما مسألة المبيع، فهي ليست بذي بال. كانت كتب إحسان عبد القدّوس تبيع أكثر بكثير من كتب طه حسين وتوفيق الحكيم. جبران يجب أن يبقى في الثقافة العربيّة على أن يُنزع منه ما علّق عليه مريدو الفينيقيّة اللبنانيّة من أوساخ وأكاذيب. يحقّ لنا أن نطالب بعودة جبران الحقيقي، لا جبران المُتخيّل. ويجب أن نستطيع تقدير كتّابنا وفنّانينا (ذكوراً وإناثاً)، حتى لو لم يُعجب بهم الرجل الأبيض. هذه العقدة تشوب الثقافة السياسيّة والشعبيّة، وتؤثّر على مسار السياسة الخارجيّة لمسخ الوطن. ثم ماذا لو عارضنا مقاييس الرجل الأبيض ومعاييره؟ من تورّع عن تنقية جبران (أو «خليل الكافر») من كفره؟.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)