خالد صاغيةيحمل الشاب أمّه على ظهره، ويمضي بها في الرحلة الأخيرة إلى الجبل. تلك الرحلة المفروضة على كلّ مَن يبلغ السبعين. فالبلاد لا تتّسع للجميع. وعلى العجزة أن يخلوا المكان. ينتهي درب الجلجلة في ساحة تملأها العظام البشريّة، وتحلّق فوقها الغربان الجائعة، وهي تنعق بانتظار كتلة جديدة من اللحم. يجهش الشاب بالبكاء. أمّا الأمّ، فتفرش حصيرتها بصمت، وتومئ إلى ابنها كي ينصرف إلى القرية، قبل أن تضمّ يديها لتبدأ بالصلاة لإله الجبل.
وحدها السينما تستطيع تكثيف قسوة الحياة في مشهد واحد. وهذا بالضبط ما فعله المخرج الياباني شوهيه إيمامورا في فيلمه «أنشودة ناراياما» الذي عُرض للمرّة الأولى في 1983، بعد عام على الاجتياح الإسرائيلي لبيروت. الأمّ نفسها، التي تصعد إلى حتفها قانعةً، اطمأنّت إلى عائلتها بعدما خطّطت لمجزرة أجهزت على العائلة الأفقر في القرية.
كأنّ «أنشودة ناراياما» تتردّد هنا. كلّ ربع قرن، يقود جيل جديد الرحلة الأخيرة إلى قمّة الجبل. منّا من يصعد إليها بصمت كتلك الأمّ المؤمنة، ومنّا من يصرخ رافضاً الرضوخ للعنة القدر. لكنّ الجميع ينتهي طعاماً للغربان التي تنتظرنا واحداً تلو الآخر.
لأيّ إله سنصلّي وسط ذاك الركام من الجثث؟ لإله المقاومة؟ لإله المحكمة الدوليّة؟ لإله الطوائف التي ينهش بعضها بعضاً في مواسم الجفاف؟ وماذا لو صعدنا جماعات لا فرادى، كما يحدث عادةً في الحروب الأهليّة؟ هل ستتّسع الجبال لبقايانا؟
كأنّ «أنشودة ناراياما» تتردّد هنا. على هذه البقعة، لا صوت إلا للغربان. ولا شيء يزيل رائحة الموت التي تملأ الذاكرة. لكنّه موت غاوٍ، لا نكاد نرجمه حتّى نندفع إليه كالذاهبين إلى رحلة حقاً، إلى نزهة في البراري. نحمل الزوّادة بيد، ونرفع هويّتنا كخطيئة أصليّة باليد الأخرى.
أرشدْنا أيّها الغراب. إلى أيّ جبل سنصعد هذه المرّة؟ جبل 1975؟ جبل ما بين النهرين؟
أرشدْنا أيّها الغراب. ها قد هيّأنا كلّ شيء. بانتظار صفارة النعيق. وكأيّ عجوز في تلك القرية اليابانيّة من القرن التاسع عشر، سنصعد إلى الجبل بلا تردّد. رجاؤنا الوحيد هو أن ندرك القمّة في ليلة يتساقط فيها الثلج، فتكون نهايتنا أقلّ شقاءً.