Strong>بدر الإبراهيم *يظهر تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي لقياس الفجوة بين الجنسين هذا العام، حلول السعودية في المرتبة 129 بين 134 دولة على مستوى العالم، وهو يؤكّد المؤكّد في ما يخص استمرار تغييب المرأة السعودية وتهميشها في المجالات المختلفة رغم كل الدعايات الإعلامية التي تحاول إيحاء العكس.
ما زالت المرأة السعودية تعاني، وما زالت قضيتها محوراً للنقاش الحاد والاستقطاب بين التيارات الفكرية. فخلال العقد الأخير، مثّلت قضية المرأة وحقوقها مادة دسمة للاشتباك الفكري بين النخب الليبرالية التي صعدت إلى الواجهة الإعلامية ورأت في حقوق المرأة جزءاً من قضية الحريات العامة ومعركة التحرر من القيود السلفية، وبين التيار السلفي المهيمن الذي رأى في القضية ذاتها حرباً على العقيدة وأخلاقيات المجتمع تشنّها حملة التغريب وأدواتها المحلية وتستدعي الاستنفار الشامل.
اشتبك الفريقان في نقاشات حادة وطويلة، وغابت المرأة عن تصدّر النقاش مكتفية بالانحياز إلى هذا الفريق أو ذاك، وغرق الفريقان في تفاصيل صغيرة واستغرقا في النقاش حول هوية المرأة الأنثوية مهملين آدميتها وهويتها الإنسانية، كما في النقاش حول قيادة المرأة للسيارة والاختلاط بين الجنسين في الأماكن العامة.
تبقى أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر نقطة محورية بالنسبة للمرأة السعودية. فبعد هذه الأحداث، باتت مواضيع التعليم وتهميش المرأة والمناهج الدينية في السعودية حديث الإعلام وبعض الساسة في الولايات المتحدة والغرب الذين رأوا أن هذه القضايا أسهمت بفاعلية في تفريخ العناصر الجهادية التي ضربت في مانهاتن، وبدأت الضغوط من أجل إعادة النظر في هذه القضايا.
وجد التيار السلفي نفسه في موقف دفاعي بعد هذه الأحداث، ورفعت النخب الليبرالية الصوت عالياً لاستثمار هذه الفرصة وضرب النفوذ السلفي. وبدأ الحديث في الإعلام عن الإصلاح في المجالات كلها، كما بدأ العمل على تحسين الصورة خارجياً. فقام الإعلام السعودي بدعاية مضادة أظهر فيها منجزات المرأة السعودية دليلاً على تطور وضعها، وقدّم العديد من النساء السعوديات اللواتي حاربهن المتشددون في مراحل سابقة بصفتهن نماذج مشرقة، وأُرسلت الوفود النسائية إلى المؤتمرات الدولية لإظهار صورة مغايرة لما يبثه الإعلام الغربي. ومع تولي الملك عبدالله الحكم عام 2005، وصلت المرأة إلى مناصب قيادية بارزة، فعُيّنَت السيدة نورة الفايز في منصب نائب وزير التعليم لشؤون البنات، ووصلت السيدة أروى الأعمى لمنصب نائب أمين مدينة جدة.
كلّ هذا لم يغيّر حقيقة بقاء المرأة السعودية حالةً فريدة بين مثيلاتها في العالم العربي ودول الخليج المجاورة. ففيما تتمتّع المرأة في الخليج بكثير من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية وبطفرة نوعية على صعيد الحقوق السياسية أعطتها فرصة الانتخاب والترشح في أكثر من دولة خليجية، تعاني المرأة السعودية حرماناً حقوقياً شاملاً في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
في المجال السياسي، وصلت المرأة لمنصب نائب وزير، لكنها لم تتمكن بعد من دخول مجلس الشورى، واكتفى المجلس بتعيين مستشارات معزولات في غرفة خاصة لا يجلسن مع الأعضاء في القاعة ليؤخذ رأيهن في القضايا ذات الطابع الأسري، ويستفاد منهن في المشاركات البرلمانية الخارجية عبر اصطحابهنّ ضمن الوفد السعودي. كذلك لم تمنح المرأة حق الانتخاب فضلاً عن الترشح في انتخابات المجالس البلدية التي حدثت عام 2005، وبالتالي بقيت المشاركة السياسية للمرأة محصورة في الإطار التجميلي.
وعلى الصعيد الاقتصادي بقيت نسبة البطالة عالية بين النساء بما يعني تعطيلاً حقيقياً لنسبة عالية من أفراد المجتمع (يؤلف النساء ما يقارب نصف سكان البلاد)، وما زالت المرأة ممنوعة من مزاولة الكثير من الوظائف. ولعل من أبرز الأمثلة القرار الذي أصدره وزير العمل الراحل غازي القصيبي بحصر البيع في محال الملابس الداخلية النسائية بالعنصر النسائي، والذي جوبه بممانعة سلفيّة قويّة شلّت القرار وأنهته. كما تثار الضجة حالياً حول توظيف النساء صرّافات (كاشييرات) في الأسواق التجارية فتصدر الفتاوى عن عدة شيوخ سلفيين (رغم حصرها في هيئة كبار العلماء) بحرمة هذا العمل والتحريض على المحال التجارية التي توظف الصرّافات.
يشير هذان المثالان إلى ممانعة سلفية شديدة للاختلاط بين الجنسين في أماكن العمل، مما يحد من قدرة سوق العمل في البلاد على استيعاب النساء، ويستثنى القطاع الصحي الذي يشهد اختلاطاً قديماً ومتعارفاً عليه من دون أن يسلم من تصويب سلفي بين فترة وأخرى، وهو ما يجعل النقاش حول الاختلاط من زاوية المصلحة الاقتصادية وعملية تعويمه التي بدأت منذ فترة ضرورة لإنعاش الاقتصاد وتقليص حجم البطالة النسائية للدفع بعملية التنمية.
وحده القطاع الصحي يشهد اختلاطاً قديماً ومتعارفاً عليه من دون أن يسلم من تصويب سلفي بين فترة وأخرى
تعاني النساء السعوديات أيضاً حرماناً ومشاكل في المسألة الاجتماعية، ولعل أهونها حرمانها من قيادة السيارة، وهو الموضوع الذي أُشبع بحثاً وتحليلاً في الإعلام السعودي. فالأهم من ذلك أنها مقيدة الحركة عموماً. ففضلاً عن كونها لا تتحكم بوسيلة المواصلات شبه الوحيدة، فهي أيضاً لا تستطيع السفر أو استصدار الوثائق الخاصة بها من دون إذن وليّ أمرها، ووليّ الأمر يمكن أن يكون أباً أو زوجاً أو حتى ابناً صغيراً يمكنه التحكم بأنفاسها.
وبالإضافة إلى ذلك، ما زالت المرأة تعاني في قضايا الأحوال الشخصية بغياب قوانين تنصفها، وما زالت تحرم من الإرث في بعض المناطق. ومع أنّ السكن في الفنادق بدون محرم قد أقرّ في فترة سابقة، إلا أنّ الوصي/ الذكر ضرورة لا تستغني عنها المرأة في المجتمع السعودي.
كذلك تغيب أماكن الترفيه النسائية عموماً، ويحظر على النساء ممارسة الأنشطة الرياضية (إذا استثنينا المشي!). بل تُمنع الطالبات من ممارسة الرياضة في المدارس، رغم أنها مدارس خاصة بالبنات فقط. لذلك تصبح حركة المرأة محدودة بالأسواق والمطاعم، وهناك لا بد لها من الالتزام بـ«الزي الشرعي» وإلا واجهت غضب هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، رغم أن طابع هذا الغضب بات أقل حدة في السنوات الأخيرة.
ولا تنتهي معاناة المرأة في القضايا المتعلقة بالجنس. ففي مجتمع تعكس ثقافته صورة المرأة بصفتها أداة لذّة جنسية، لا بد أن يكون للجريمة الجنسية بأنواعها حضور كبير. فكان النقاش مثلاً قبل فترة في الإعلام السعودي حول زواج القاصرات وضرورة وضع سن قانونية للزواج بعد تزايد حالات «بيع» الآباء لبناتهن بتزويجهن في سن صغيرة في انتهاك واضح لطفولتهن، ولم يصل النقاش إلى نتيجة، وحالت الممانعة السلفية دون صدور تشريع يحمي القاصرات.
وتتزايد أيضاً حالات العنف الأسري وجرائم الشرف التي بدأ الحديث عنها يظهر على السطح. كما تنتشر ظواهر التحرش الجنسي في الأماكن العامة وأماكن العمل وحالات الاغتصاب بغياب قوانين حقيقية تحمي وتردع، وذلك في تناقض عجيب مع الشعارات المحافظة المرفوعة حول حماية شرف المرأة وأخلاقيات المجتمع.
في المجال الثقافي والفني، تحقق المرأة السعودية حضوراً قوياً، وتبرز في الصحافة والإعلام كما في الأدب والرواية والفنون التشكيلية. وقد تمكنت العديد من النساء من استثمار الطفرة الإعلامية الفضائية لدخول مجالات التمثيل والغناء وتقديم البرامج التلفزيونية.
لكن هذا لا ينفي الهيمنة الذكورية على المجال الثقافي والإعلامي، وهي هيمنة تتجسد في الصحافة والأندية الأدبية والأنشطة الثقافية – على قلّتها – وتغيب فيها المرأة بقوة مع بعض الاستثناءات. كذلك تُحرم المرأة من اعتلاء المسرح للتمثيل رغم ظهورها في التلفزيون، فيضطر صنّاع المسرح لوضع مسرحيات تخلو من العنصر النسائي، وتحرم أيضاً من اعتلاء المنصة لإلقاء محاضرة أو قصيدة، ولا يُسمح لها بمواجهة الجمهور فتضطر لإلقاء ما لديها من وراء حجاب.
هذه القضايا وغيرها تمثّل همّ المرأة السعودية المتواصل، والذي يحيله البعض إلى الثقافة الاجتماعية المتشبعة بالمفاهيم الوهابية المتشددة حيال النساء. ويتحدث هؤلاء عن غياب الاستعداد لدى المجتمع لتقبل التغيير، وهو ما يعني بالنسبة إليهم أن تحقيق الإصلاحات المطلوبة في قضايا المرأة وغيرها مرهون بتغيّر ثقافة المجتمع، وبالطبع لا يتبرع أي منهم ليشرح كيف تتغير هذه الثقافة، وعوضاً عن ذلك يلجأ بعضهم إلى شتم المجتمع من باب التثبيط ونشر الدعاية المضادة للإصلاح.
إن النخبة السياسية والنخب المثقفة مسؤولة عن تكوين ثقافة المجتمعات. وفي الحالة السعودية، تمثّل الوهابية مكوّناً أساسياً للثقافة المحافظة في المجتمع إذ إنها جزء من أيديولوجيا الحكم في البلاد، وهنا يصبح من الطبيعي تكوّن عداء اجتماعي ضد المرأة وحقوقها وضد أمور أخرى، ممّا يجعل عملية التغيير مرهونة بتغيير هذه الأيديولوجيا تحديداً أو تطويعها لإجراء التغييرات الملائمة، وهو ما يحدث عادةً عندما تقتضي المصلحة السياسية هذا التغيير.
لذلك يحتاج الإصلاح والتغيير الاجتماعي والثقافي إلى قرار سياسي يعطي الشرعية لتغيير كهذا، وأي كلام خارج هذا الإطار لا يعطي حلولاً. النماذج على هذا كثيرة، فقرار تعليم البنات وإدخال التلفزيون إلى البلاد في ستينات القرن المنصرم كان يتعارض مع الثقافة السائدة، ومع الوقت استوعب المعارضون القرارين لدرجة الاندماج فيهما. وقبل سنوات صدر قرار باستخراج بطاقة هوية للمرأة (كانت المرأة بلا بطاقة تثبت هويتها، وما زال استخراج البطاقة غير إلزامي حتى الآن!) وكانت معارضةٌ انطفأت بعد حين.
مشاريع الإصلاح بحاجة إلى قرار سياسي يحيلها واقعاً ويذلل العقبات التي تعترضها، ولعل أبرزها رؤية السلفيين المتشددين وبعض المسؤولين الإصلاح بشقيه السياسي والديني عدواً مشتركاً يطيح المكاسب والنفوذ بما يجعل تعطيل الخطوات الإصلاحية جزءاً من تبادلٍ منفعي يحفظ المواقع والأيديولوجيا معاً.
لا بد من الإشارة إلى أن هذا التغيير السياسي/ الثقافي يحتاج إلى دفع قوي من قبل النخب النسائية المثقفة المتطلعة للتغيير، والتي عليها أن تتصدر حملات المطالبة الحقوقية من خلال خطاب واع وذكي يستطيع التعاطي بإيجابية وعقلانية مع الشرائح الاجتماعية المختلفة لتحقيق الهدف المأمول.
أن تكون المرأة مسؤولة بارزة في الدولة أمرٌ له دلالة رمزية مهمة، لكن الأهم أن تكون المرأة مسؤولة عن نفسها خارج إطار وصاية الرجل عليها، وأن تتمكن من تسيير أمورها كما تريد هي لا كما يريد الآخرون. التغيير يبدأ من القاعدة لا من القمة، فالمنصب لامرأة واحدة، وحق الحياة بكرامة للنساء جميعاً.
* كاتب سعودي