strong>خليل عيسى *تشوب الأساطير حياتنا اليومية. نعتقد أننا قابضون تماماً على زمام الأمور وأننا نختار تماماً ما يحصل من حولنا. إلّا أنّ مقدار الأوهام والصور والأفكار الجاهزة التي تُفرض علينا يومياً يجعلنا معظم الوقت غير قادرين على التفكير. تدخل معلومات جاهزة عقولنا تحت لبوس الموضوعية لتطبع تفكيرنا الواعي واللاواعي، فتظهر الأمور على غير ما هي عليه. نتكلّم عن السياسة فتساهم الصحافة اليومية وتحاليل الأخبار عادة برسم تلك المعلومات لتحوّلها إلى أساطير كاملة فنتخيّل أننا بتنا «نفهم» الآن كلّ شيء في العلاقات البشرية كما في العلاقات السياسية. تُركّب الصورة و ببطء شديد حول الواقع في أذهاننا شيئاً فشيئاً ليصبح فهمنا أفضل. تصبح المواءمة أسهل بين الصورة التي في أذهاننا وبين ما يحدث من حولنا. حينها نختار من الواقع ما يناسب أفكارنا المسبقة لنُظَهِّر «الصورة» التي تريحنا وننسى ما يؤرق عملنا اليومي. لكن تلك الراحة نفسها التي نطمئن لها يوماً بعد يوم، هي التي تُذهب قدرتنا على استيعاب الظواهر الخارجة تماماً عن مألوفِنا وتعليلها. تكون أصعب الأيّام عندما يأتي الواقع مناقضاً لما عملنا على إنتاجه ذهنياً طوال أشهر أو حتّى سنوات. يلجأ حينها الناس إلى الإنكار لعدم تقبّلهم الحقيقة المرّة، أو إلى التفكير الغيبي لتبرير ما كان، مفضّلين كلّ احتمال آخر عدا تكسير الصورة التي اختاروا تصديقها.
كانت تلك الأيام الصعبة بعد نشر وثائق «ويكيليكس» الأسبوع الماضي لجمهور عريض تعوّد تحليلاً سياسياً بسيطاً و«مهضوماً» لأكثر من 6 سنوات عندما تعلّق الأمر بـ«الشرق الأوسط». هي شاشة فيلم بالأسود والأبيض. هناك مشروع «الشرق الأوسط الجديد»، الأميركيون، «الاستكبار» العالمي وما لفّ لفّه من جهة، وهناك «الممانعة»، سوريا وإيران ومن لفّ لفّهما من جهة أخرى. كلّ شيء في المنطقة يأتي مظهّراً عبر هذه العدسة.
ننظر في البدء الى لبنان فتأتي الصورة مطابقة للوصف. هناك حزب الله المقاوم تدعمه سوريا وإيران بلا حدود، وهناك إسرائيل على الطرف الثاني من الحدود. طبعاً ينقطع حبل التفكير بلا تردّد ليعلن أيّ عربي هنا وقوفه صفّاً واحداً مع إيران وسوريا. الخيارات أساساً محدودة بالنسبة لك على الجبهة اللبنانية من مشروع الممانعة. ننظر بعدها إلى الجنوب أكثر، فنرى فلسطين المحتلّة حيث العدسة تظهِّر الفسطاطين نفسهما: الممانعتان تدعمان حركة حماس المقاوِمة في غزّة، مقابل إدارة كولونيالية موظّفوها أعضاء سابقون في حركة تحرّر وطني، أصبحوا اليوم ينسّقون أمنياً واقتصادياً مع استيطان احتلاليّ تتجلّى عنصريته بأبشع الممارسات اليومية وتدعمه بعض الأنظمة العربية بطريقة شبه علنية ودائمة. هنا أيضاً الفيلم بالأسود والأبيض. لا يمكن إلّا أن تكون هنا وبكل المعايير الإنسانية والأخلاقية والثورية، مع حماس والممانعتين... ومع العدسة التي تظهّر الفيلم لك كلّ يوم.
وقوف إيران كلياً ضد المشروع الأميركي في المنطقة ليس سوى أسطورة
أما إذا نظرنا شمالاً نحو العراق، فالوضع مختلف. نريد أن نرى الفيلم نفسه بالأبيض والأسود لنفهم ماذا يحدث لبلاد الرشيد المستعمَرَة من الإمبراطورية الأميركية، لكننا لا نرى إلّا الخيالات المختلطة. نلاحظ في البدء أنّ العراق تحوطه الممانعتان جغرافياً وسياسياً، لكن هذا لا يبدو أنّه يزعج الأميركيين كثيراً. هناك حكومة منتخبة من خلال قانون مذهبي – إثني فتّت المجتمع العراقي، ولا تزال من دون رئيس منذ أكثر من سبعة أشهر. الفيلم نفسه الذي يتكلّم عن المقاومة في لبنان وفلسطين لا نسمع منه في العراق إلّا كلاماً عن القاعدة وما يسمّى العملية السياسية. يجب ألّا نقرّ بمقاومة هناك أو بحق المقاومة في العراق، فالموضوع يصبح خياراً بين سنّة وشيعة وأكراد. يُراد لنا الخيار بين عميلَيْن للاحتلال، الأوّل نوري المالكي المدعوم إيرانياً والثاني إيّاد علّاوي المدعوم أميركياً. لكن كسرت تلك العدسة بشدّة «الجزيرة» حين تحدّثت ليل السبت الماضي بعد نشر وثائق «ويكيليكس» الأربعمائة ألف، عن أدلة تشير إلى «تورّط رئيس الوزراء العراقي المنتهية ولايته نوري المالكي في إدارة فرق للقتل والتعذيب. فيبدو رئيس الوزراء المنتهية ولايته شخصاً طائفياً منحازاً بقوة إلى طائفته الشيعية على حساب مواطنيه السنّة، كما تصوّر هذه الوثائق وجها خفياً للمالكي وهو يقود فرقاً عسكرية تنفذ أوامره في الاغتيالات والاعتقالات».
أما إيران، فقامت بتهريب السلاح التقليدي لإمداد «الأحزاب والمنظمات الشيعية الموالية لها وخصوصاً جيش المهدي التابع لمقتدى الصدر، ومنظمة بدر التي كانت الجناح العسكري للمجلس الأعلى الإسلامي العراقي بقيادة عائلة الحكيم». وهما منظمتان تتعاملان مع الاحتلال في مقابل امتيازات طائفية. فمنظمة بدر، مثلاً، أعلنت نزع سلاحها والتحوّل للعمل السلمي عقب الاحتلال، أي أن السلاح كان لـ«مقاومة» العراقي، أما وقد جاء المحتل فقد آن أوان العمل السلمي، وهي في النهاية لم تنزع سلاحها بل وجهته نحو صدور أبناء شعبها.
هناك إذاً في العراق، إيران «الممانعة» التي تدعم الميليشيات الشيعية التي تتحالف طبيعياً مع مرتزقة الصحوات الذين جنّدهم الأميركيون لضرب المقاومة العراقية عام 2006 والتي أعطت وثائق «ويكيليكس» المنشورة أدلّة شبه قاطعة على ذلك. ويصرّح نائب وزير الخارجية الإيراني رؤوف شيباني في 19 من هذا الشهر بأن اختيار المالكي رئيساً للوزراء «هو أحد الخيارات المناسبة للعراق» لما وصفه «بخبرته في قيادة العراق». دعوة واضحة تصبح أكثر من مجرّد احتمال إذا عرفنا أنّ صحيفة «الغارديان» البريطانية أشارت الإثنين الماضي إلى أن إيران توصّلت مع الدول المجاورة إلى اتفاق لتأليف حكومة مؤيدة لها في العراق، وذلك «عبر تحالف بين المالكي والصدر في صفقة شاركت فيها سوريا ولبنان وحزب الله اللبناني والمراجع الشيعية العليا».
تطبّق إيران اذاً سياسة طائفية بحتة في العراق لتفاوض الإمبراطورية وتتّفق معها ومع دول الجوار على المالكي رئيساً للوزراء. لا إيران «ممانعة» هناك ولا من يحزنون. الرئيس محمود أحمدي نجاد نفسه نصح الامبراطورية بـ«الصداقة» بدلاً من العداوة في حديث صحافي يوم 22 آب الماضي. إذاً، تواجهنا مشكلة عدم مواءمة صورة «خطان مستقيمان لا يلتقيان» السهلة التطبيق على الواقع اللبناني والفلسطيني عندما نتكلم عن العراق... فماذا نفعل؟ هل ننكر كلّ تلك الدلائل لنصرّ على شمولية صورة العدسة أو ندخل في تعليلات غيبية أقرب إلى التنجيم من أجل الهروب من الواقع؟ لا خيار لدينا أمام كلّ ذلك غير الاعتراف بأنّ الكباش الإيراني – الأميركي في المنطقة محدود ومرسّم بالمصالح الآنية التي يجنيها كلّ من الطرفين حسب جغرافية الصراع. هذا يعني أنّ علينا تغيير عدستنا من أجل الحصول على صورة كاملة أكثر مطابقة للواقع. تغيّر الصورة في رأسنا لا يعني أنّ إيران ليست ضد إسرائيل في لبنان وفلسطين، بل هذا يعني الإقرار بأنّ وقوف المشروع الإيراني في المنطقة بشكل سرمدي وكامل ضد المشروع الأميركي ليس اليوم سوى... أسطورة! فهو يلتقي مع المشروع الأميركي اليوم على حساب الشعب العراقي ويختلف معه في أمكنة أخرى. يجب الاعتراف بذلك بصراحة. كما يعني ذلك الحاجة الملحّة الى بلورة استراتيجية عربية مقاوِمة ضد الإمبراطورية الأميركية وضد إسرائيل مع أخذ كلّ ذلك في الحسبان.
عندما تنتهي الأساطير، لا يبقى منها إلّا الرمز – المقدّس. فهي ليست إلّا سرديّات مقدّسة تشرح الوجود وعمل الكون. لا يجوز أن تجسّد نظرتنا الى العراق أسطورة بيجماليون، الذي أغرم بتمثال صنعه، فأحيت الآلهة التمثال من أجله. اليوم ليس هناك من آلهة ستحيي تمثال بيجماليون «العراق الجديد»، بل إنّ تلك الآلهة دمّرت كل شيء له علاقة بالعراق. الرمز – المقدّس هنا هو مقاومة الظلم والطغيان أينما كان. فلا يصحّ استبدال الرمز بالواقع وحصر الواجب الأخلاقي في مقاومة الاستعمار عبر فعل ترداد تعاويذ «الممانعة» بدلاً من المقاومة الفعلية.
* باحث لبناني