تأخّرت حرب أكتوبر عن موعد ضربه لها جمال عبد الناصر في أيار/ مايو 71، عامين ونصف عام. وحاول أنور تفاديها والتهرب منها عبر تقديم بعض ما هو مطلوب منه أميركيّاً. فأخرج 8000 عسكري سوفياتي من مصر طيلة عامي 71 ــ 72، لقاء تغطية واشنطن له بما يحفظ ماء وجهه داخليّاً وعربيّاً... لكن، ما من مجيب
كمال خلف الطويل*
أرادته مدرسة التصلّب ـــــ كيسنجر ـــــ في المؤسسة الأميركيّة معصوراً للآخر، بيقين أنّ جيشه غير قادر على القيام بعمل حاسم لتغيير موازين القوى... ثم إنها قدّرت أنّ مزيداً من الضغط والعصر كفيلٌ بتوفير العلّة له للاستسلام التام، فيما تشبّث بأن مقتضيات الاستسلام تمرّ عبر قناة المراعاة والملاقاة في منتصف الطريق... من هنا فَشلُ لقاءِيْ مستشاره حافظ إسماعيل مع كيسنجر في شباط/ فبراير وأيار/ مايو 73.
كان في ذهن أنور عمل مشابه خريف 72، لكن قيادته العسكريّة أيامها عارضت في غالبيتها خوض حرب محدودة، مفضلة الانتظار أطول حتى يتم التجهيز لحرب أوسع.
كان موقفها، في صلبه، تهيّباً أكثر منه حذراً... وبرهان ذلك إصرار قائدي الجيشين الميدانيين وقادة فرقهما ـــــ عند اكتوبر 73 ـــــ على إلحاق لواء مدرع بكل من فرق المشاة المخصصة للعبور انتُزعوا من احتياطي الخط الثاني، علّ ذلك يهدّئ من روعهم وهم يؤمَرون بعبور القنال.
والحاصل أن التنسيق الجدّي بين أنور وحافظ الأسد بدأ مع نهايات 72، حين اتفقا على عمل عسكري مشترك موعده 15 أيار/ مايو 73... ثم ما لبثا أن أجّلا الموعد لعدم اكتمال تجهيز قوّات الدفاع الجوي بصواريخ سام 6 بعد.
وقتها عرفت إسرائيل من أشرف مروان بموعد العمليّات، فاستدعت الاحتياط جزئياً، ثم ما لبث أن أخطرها في تموز بتلقّي مصر وسوريا صواريخ سكود، ليمضي عند نهاية إيلول إلى إبلاغهم بدء العد التنازلي للحرب.
سبق مروان حسين الأردن الذي أبلغ غولدا مائير بنفسه يوم 25 أيلول بقرب شن مصر وسوريا حرباً مسلحة في غضون أسبوعين، ثم إلحاقه الإخطار إياه بآخر أكثر تحديداً. ففي 1 أكتوبر، حدد مهلة الانتظار بالأيام، وإن قصُرَ عن تحديد اليوم والساعة.
خدع أنور حافظاً بوعده له بالوصول بقواته إلى ممرات سيناء، فيما نيّته الحقيقيّة كانت الاكتفاء بعمق جسر من 10- 12 كم على طول القنال (تواطأ معه في الكذب قادته العسكريون، مخالفين أبسط مبادئ الشرف العسكري).

تسابق أشرف مروان وحسين الأردن على إبلاغ غولدا مائير بقرب شنّ مصر وسوريا حرباً مسلحة
استقرّت القيادتان على موعد 6 أكتوبر (هو بالصدفة تاريخ ميلاد حافظ)، لكن الخلاف استمرّ حول الساعة: السوريون راغبون في الفجر والمصريون مصرّون على الغروب.
بدأت التكليفات للقادة في الارتشاح نزولاً بدءاً من 1 أكتوبر، فيما لم يكن هذا الخلاف قد حسم بعد. طار أحمد إسماعيل يوم 3 أكتوبر الى دمشق ليتفق مع حافظ الأسد على حل وسط هو الثانية بعد الظهر. أبلغ حافظ الأسد السفير السوفياتي نور الدين محيي الدينوف يوم 4 أكتوبر بموعد الحرب، فعاجل السوفيات بسحب عائلات خبرائهم من مصر وسوريا للتوّ.
لو عدنا قليلاً بالذاكرة لوجدنا أن التوتر في الشمال كان على أشده منذ كمين طرطوس الجوي يوم 13 سبتمبر/ أيلول (إسقاط 13 ميغ سوريّة)، لذا، فإن القرار السوفياتي كان مبرراً إعلاميّا، ولا سيّما أن احتمال الاشتباك الواسع في الشمال كان كبيراً. أراد بريجنيف أن يقول إن قرار الحرب ـــــ إن أتت ـــــ محلّي وإن إدارتها محليّة.
وصل ارتشاح التلقين أشرف مروان، سكرتير الرئيس للمعلومات، يوم 3 أكتوبر، فسارع الى إقناع أنور بضرورة القيام باتصال تنسيقي أخير مع القذافي في طرابلس، بحجّة أن طائرات الميراج المشتراة ليبيّاً داخلة في نسق القتال.
أذِنَ أنور، فسافر مروان في زيارة ساعات إلى طرابلس، ليتوجّه منها الى لندن (ليل 4 أكتوبر) حيث اتصل عبر مشغّله الموسادي في لندن بتسيفي زامير، مدير الموساد، طالباً منه القدوم فوراً للتبليغ عن أمر جلل.
تقابلا في لندن في الساعات الأولى من يوم الجمعة 5 أكتوبر، حيث عمد مروان الى إخطار زامير بيوم الحرب، ولكن بساعة صفر هي السادسة مساءً، إذ لم يكن يعرف عن تقديم الموعد في دمشق ساعات أربع.
شفّر زامير الى تل أبيب تبليغه في الثالثة من فجر الجمعة، ثمّ استقل طائرته عائداً ليزاوجه بالشفهي.
بددت القيادة الإسرائيليّة يوم الجمعة 5 أكتوبر وهي تستَبيِن صحّة معلومات مروان، فضلاً عن اعتراض إيلي زعيرا مدير (أمان) على المعلومات بالشكّ بأن مروان غير موثوق تماماً، بل ربما عميل مزدوج، ثمّ استهتار الجميع بقدرة المصريين والسوريين على شن هجوم ناجح، وكلّه كان معطوفاً على بدء عطلة الغفران.
صباح يوم 6 أكتوبر، أرسلت الاستخبارات المركزيّة الأميركيّة تأكيداً قاطعاً بصحّة معلومات مروان، وبأن المسألة رهن ساعات، وطلبت التأهب لملاقاة الهجوم.
هنا ابتدأت اجتماعات المطبخ الإسرائيلي... فكرة شن هجوم جوي مضاد كانت ممنوعة أميركيّاً لسبب بسيط وهو اقتناع واشنطن التام بقدرة إسرائيل على صد الهجوم وكسره... وبالتالي تفضيل ذلك على إجهاضه، إذ إنّ الصد والتحطيم يفضيان إلى فقدان العرب الأمل مرّة وإلى الأبد انتهاج سبيل المقاومة، نظاميّة كانت أو غير نظاميّة، وبالتالي تسليمهم بالهزيمة ونتائجها السياسيّة.
ثم إن السماح بضربة إجهاض سيصعب من قدرة واشنطن على إنجاد إسرائيل إن عصفت بجيشها المقادير.
والحال أن فرضية إبلاغ أنور المسبق لواشنطن بموعد الحرب وأسلوبها ليست صحيحة ولا منطقية... فهو كان يريد تحسين موقعه الجيوستراتيجي لتعتمده واشنطن حليفاً صغيراً بمستوى الشاه في الإقليم، وذلك يستلزم مخاطرة محسوبة تتفهمها واشنطن ما دام الحصاد السياسي سينتهي وفق هواها ويزيد.
وهي، بالمقابل، اعتقدت أن ذهابه الى الحرب خير وبركة لأنّه سيُهزم، وبالتالي سيتحرّر من ضغوط خيار القتال لاحقاً، ويسهل أخذ مصر، وربما العرب من خلفها، الى ساحة الاستسلام.
ما «لخبط» التوقعات كان الأداء المميّز للمهاجمين طيلة أيام 6 - 8 أكتوبر: كسّروا عظام الطيران الإسرائيلي بالدفاع الجوي أساساً... ومفاصل الدروع الإسرائيليّة بالدفاع المضاد للدبابات أيضاً، ثمّ اجتازوا الجولان بنسق المدحلة، متلمّسين عتبة جسر بنات يعقوب، وعبروا القنال ساحقين على ضفّتها الشرقيّة كل موجات الهجوم المضاد يومي 7 و8 أكتوبر.
على القنال: ما إن أشرق صباح الثلاثاء 9 أكتوبر، حتى كان الطريق الى الممرات مفتوحاً بلا عوائق تذكر، بل إنه كان شبه معبد منذ ظهيرة الثامن.
أدرك موشي ديان ذلك منذ السابع، فيما أرسل بريجنيف في الثامن إشارة إلى أنور بأن انطلق شرقاً رعاك اللّه، لكنّ أنور كان قد وعد كيسنجر في السابع بعدم تعميق الهجوم، إذ حصل على ما يكفي لأن يغدو شاهاً... في رأيه.
في الجولان: ثمة عوامل عدّة ساعدت الإسرائيليين على أداء أفضل بكثير ممّا في القنال:
أ ـــ وجود توتر كبير منذ أواسط أيلول/ سبتمبر، وبالتالي استعداد إسرائيلي مسبق للمواجهة.
ب ـــ تركيز إسرائيل على تأمين الشمال قبل القنال لقربه من العمق الإسرائيلي... مصحوباً بقصر خطوط الإمداد في الشمال، والقدرة على سرعة التصدّي.
ج ـــ شبه عشوائيّة في طريقة الهجوم المدرّع السوري الشامل بـ 1000 دبابة، تاركة خلف اندفاعها جيوباً كبيرة ومتفرّقة من الدفاعات المعاديّة استطاعت إعاقة الهجوم ووقفه، ثمّ ردّه والقيام بهجوم مضاد ناجح بدءاً من السبت التالي 11 أكتوبر.
ولعل يوم 8 أكتوبر كان الأصعب للقوات البرية السورية... تشهد عليه معركة الخشنية، وفيها دمرت 400 ــ 500 دبابة سورية شكّلت ملاك الفرقة المدرعة الأولى ولواءين مدرعين مساندين.
د ـــ بدء الطائرات الإسرائيلية بقصف العمق السوري الثلاثاء 9 أكتوبر (أنا شاهد على قصف دمشق) رغم الخسائر الموجعة التي تلقّاها في الأيام الثلاثة الأولى... بل وبعدها وطيلة أيام الحرب.
والشاهد أن حديثاً جرى للمرة الأولى يوم 7 أكتوبر داخل المطبخ حول التأهب لرد نووي شامل... ثمّ تكرر ثانية صباح 9 أكتوبر بعد تكسّر الهجمات الإسرائيليّة المضادة على صخرة قوات ضفّة القنال الشرقيّة...
كان مبعث حديث كهذا رعب المطبخ من تأخر واشنطن في تعويض الخسائر المهولة في الطائرات والدبابات، وانهياره النفسي أمام توقع وصول القوات المصريّة للممرّات، وانفتاح الطريق بعدها الى خط الحدود الدوليّة وربما أكثر... فضلاً عن اقتراب السوريين من سفوح هضبة الجولان واحتمال نزولهم الى الجليل... كلّه لتناثر الطائرات الإسرائيلية في السماء ولتلاشي قوّة الصد بالدروع (تكرر الحديث مرة ثالثة يوم 17 أكتوبر عندما وافق كوسيغين، وهو في القاهرة، على تجهيز منظومة صواريخ السكود المنصوبة في مصر، والمدارة سوفياتياً، للإطلاق في سعيه لتحسين الموقف الميداني المصري عند بدايات الثغرة).
لقد وصل بؤس الحال بالمطبخ أن فكرت ربّته غولدا مائير مرتين بالانتحار ما بين السابع والتاسع. واللافت أن واشنطن لم تبدأ بنصب جسر جوي ملهوف ينقل العتاد أو الذخيرة لإسرائيل بحمولة 20 ألف طن إلا السبت 11 أكتوبر، إذ بقيت لحد التاسع وهي تظنّ أنّ إسرائيل قادرة على النفاذ من الورطة وقلب الموازين، ومن هنا إصرارها على أن يكون قرار وقف إطلاق النار مشروطاً بالعودة الى خطوط 5 أكتوبر بنصبها الجسر. وبتغيّر الوقائع من تصوّر ما قبل 6 أكتوبر الى ما بعده، اتخذت واشنطن قرارها بضرورة تغيير الموازين ليتحول نصر البداية العربي الى هزيمة الختام لهم، وبما يكفل نزع آثار النصر الجزئي واستعادة الردع الإسرائيلي وهيبته.
ساعدها في النجاح توقف أنور عند عمق 12 كم منذ 8 أكتوبر، ثمّ قراره بالاندفاع شرقاً بواسطة فرقتي الاحتياطي الاستراتيجي المدرعتين (4 و21) المرابطتين غرب القنال، كلٌ في نطاق الجيش الثاني والثالث يوم 14 أكتوبر.
لم يطل الأمر ساعات إلا تهمشت الفرقتان تحت وطأة تفوق محلّي مدرّع (ساعده تحسن أوضاع الشمال، وتحريك بعض قوّاته جنوباً، وتعويض خسائر الأسبوع الأول أميركياً)...
انفسح المجال أمام العدو لعبور مضاد كان يتحيّن فرصته منذ التاسع، ويتهيب من شنّه طالما أن الفرقتين في مرابضهما.
بدأ العبور في 15 أكتوبر بقوة فرقتين، واكتمل في 19 أكتوبر بقوّة فيلقين (8 فرق).
كان النجاح الإسرائيلي عارماً والتهاوي المصري فادحاً: بطاريات الدفاع الجوي تصطاد من الأرض، لا الجو، بوسائط مدفعيّة... قائداه الأعلى والعام يرفضان سحب بعض قوّات الشرق الى الغرب لسد الثغرة عند منتهاها... القادة العظام يتجمدون في الصمت أمام قائدين هزيلين... سجلُّ الأول في السياسة لا يتجاوز وكالة البلح، فيما الثاني هو أفشل رئيس أركان مرّ على مصر (زعفرانة ــ 69) ... أداء قادة الميدان تنقصه الكفاءة، وهم قابعون في انتظار أوامر المركز، متجاهلين كل ما تدرّبوا عليه لجهة التكيّف مع المستجدّات والاستجابة للمتغيرات... طيران تساوى وجوده مع عدمه في الجانب المصري: لم ينجح في الضربة الأولى ولا في أيّ هجمات لاحقة، بل رفض الانخراط في أعمال تعرضيّة واسعة حتّى مع الثغرة...
أمّا سوريّاً، فكان الفشل في الشمال جسيماً، لحقه تخبّط في الوسط (معركة الخشنية مثالاً)، تبعه اختراق عميق لامس أطراف دمشق الجنوبيّة على مسافة 30 كم... أضف الى فوضى العون العراقي وعسرة تمفصله مع شريكه السوري، أقلّه عند مطالعه.
وما إن وصلنا الى يوم 21 أكتوبر، إلا كانت الهزيمة المصريّة تامة: أنور الذي رفض طلب زائره السوفياتي كوسيغين قبول وقف النار يوم 16 أكتوبر، بات الآن مستعدّاً لِلَعق قدمي كيسنجر، موافقاً على كل ما يؤمَر به، ومستنجداً في الوقت نفسه ببريجنيف كي ينجيه من هذا اليمّ.
كان كيسنجر أيامها في موسكو رافضاً الوصول مع بريجنيف الى كلمة سواء بخصوص تسوية الأزمة، فنصب عينيه ضرورة هزيمة السلاح السوفياتي باباً يلج منه الى إخراج السوفيات بالكامل من المنطقة.
كيف ردّ السوفيات؟ بإرسال لواء مدرّع كوبي الى سوريا وتحضير لواء آخر كوري شمالي للانضمام اليه... ثمّ بتجهيز فيلق سوفياتي مجوقل للانطلاق الى مصر لإنجاد الجيش الثالث المحاصر من خلفه وأجنابه.

فضّل الأميركيّون صدّ الهجوم بدلاً من إجهاضه كي يفقد العرب الأمل مرّة وإلى الأبد
رد نيكسون بإعلان حالة التأهب النووي القصوى، موصلاً التوتر الى حافة أزمة كونية حادة الخطورة.
كان السوفيات، طيلة الأسبوعين الثاني والثالث للحرب، يرسلون جوّاً وبحراً 22 ألف طن ذخيرة وعتاد لمصر وسوريا، بما فاض حتّى عن منسوب البدء.
ليس هذا فقط، بل ردّوا على حالة التأهب النووي الاسرائيلي (7 ــ 9 أكتوبر) بتحليق قاذفاتهم الاستراتيجية، محمّلة بأسلحة نووية، فوق الأسطول السادس العائم شرق المتوسط بغية إشعار الراعي الأميركي بحتمية لجم الربيب.
هم بالمقابل أقنعوا حافظ الأسد ليلة 22 ــ 23 أكتوبر بوقف القتال خشية اتساع الفتق على الراتق. هي أيام أربعة شلّت فيها إسرائيل وأضحت ملقاة على قارعة الطريق... هكذا بالفعل.
لقد وصلت إسرائيل فترة 7 ــ 9 أكتوبر الى حافة الهاوية: انسحابها الى الممرات محتوم... طائراتها ودروعها توشك أن تصبح خارج التغطية... هيبتها الردعية في خبر كان... وجليلها في المتناول.
لو أنصت أنور لبريجنيف ـــــ وللعقل قبل غيره ـــــ لكانت القوات المصرية على الممرات، بل منداحة تنهب صحن سيناء ونصب ناظريها النقب، ولكانت القوات السورية، رغم خرق القطاع الشمالي ورداءة إدارة الأوسط، في أوضاع قتالية أكثر توازناً تسدّ معها ثغرها، وتتمسك بجلّ الجولان إن لم يكن كلّه.
ما أقنع غولدا بالعدول عن الانتحار إبّان تلك الفترة كان أنور الذي مكّنها من التقاط الأنفاس جرّاء سقم تفكيره ووضاعة مقاصده وشرّ طويّته وتداعي قادته.
لولاه لكنا الآن قد اختصرنا عقوداً أربعة من الكوارث...
* كاتب عربي