strong>سعد الله مزرعاني*لم يأخذ «سينودس الشرق الأوسط للأساقفة الكاثوليك» حقه الطبيعي في الحقل الإعلامي. فهذا اللقاء الذي عُقد في الفاتيكان ما بين 10 و22 الجاري، تابعته فقط بعض وسائل الإعلام المكتوبة. ربما يعود السبب الأساسي في تجاهله، إلى بعض ما توصّل إليه من خلاصات، وقبلها ما دار فيه من نقاشات حول الشرق الأوسط وحول النزاعات فيه وحول المعالجات المطلوبة. والمقصود هنا بالتجاهل هو ما أقدمت عليه وسائل إعلامية عالمية معروفة (ومعروفة الارتباطات) من الإشاحة بكاميراتها ومراسليها عن السينودس. أما الخلاصات التي أُذيعت في نهاية السينودس وفي رسالة مطوّلة، فكان أبرزها الإعلان أنّ «مواطني دول الشرق الأوسط يناشدون المجتمع الدولي، وخصوصًا الأمم المتحدة، العمل بصدق من أجل حلّ سلمي ونهائي في المنطقة وذلك من خلال تطبيق قرارات مجلس الأمن واتخاذ التدابير القانونية اللازمة لوضع حدّ لاحتلال الأراضي العربية المختلفة من جانب إسرائيل».
وفي مكان آخر من رسالة السينودس الختامية، تمّ الذهاب إلى عمق الماضي للإشارة إلى أنّ ما ورد في «الكتاب المقدّس لا يمكن استخدامه أداة لتبرير الظلم»... ذلك أنّ «أرض الميعاد التي وردت في العهد القديم» قد سقط «الوعد الذي ارتبط بها بعد مجيء السيّد المسيح، حيث بتنا كما يقول النص «نتحدّث عن أرض الميعاد باعتبارها ملكوت الرب الذي يشمل الأرض كلّها وهو ملكوت سلام ومحبة ومساواة وعدل». وأضافت الرسالة: «لم يعد هناك شعب مفضّل أو مختار، لأنّ النساء والرجال في كلّ البلدان أصبحوا شعب الله المختار»!
لا يمكن أن يسقط هذا الكلام بردًا وسلامًا على «الفرّيسيّين» القدماء والجدد، ولا على وسائل الإعلام التي تخضع لنفوذهم كليًا أو جزئيًا. وهو لن يستحق إلا الحقد والازدراء بالطبع، من جانب متطرّفي الحكومة الإسرائيلية الراهنة الذين يعملون بكلّ الوسائل والطاقة، من أجل إضفاء صفة عنصرية صريحة ووقحة ومباشرة على دولتهم التي قامت على الاغتصاب والتشريد وتستمرّ في العدوان المدعوم من الغرب الأميركي والأوروبي، وبالتواطؤ المعيب من جانب معظم الحكّام العرب.
لا شكّ أنّ خلاصات السينودس جاءت إيجابية عموماً في شقّيها الديني والسياسي. ورغم ذلك فإنّه لا بدّ من تسجيل عدد من الملاحظات بشأن الحلول التي ظلّت مع ذلك، تراوح في القديم من الصيغ والعلاقات والمعالجات. من ذلك مثلاً، ما جاء في سياق التوصية الرقم 9 من تمنّ بأن «يظلّ لبنان نموذجًا للتعايش بين المسيحيين والمسلمين». قد يُقال إنّ هذه استعادة تقليدية لرغبة متكرّرة في «تقوية الوحدة الوطنية»، غير أنّ الأمر ليس على هذا النحو تمامًا: فقد ذكر رئيس أساقفة قبرص للموارنة جوزيف سويف أنّ «المجلس استخدم لبنان كنموذج لدى دراسته الحلول للتعايش بين أتباع العقائد المختلفة». ومعروف في هذا الصدد أنّ توترات دموية غالبًا، متلاحقة ودورية، قد طبعت الوضع في لبنان. ولا يقصد الآباء بالتأكيد، الإشادة بهذا «النموذج»! ما تجري الإشادة به هو نظام المحاصصة الطائفي اللبناني والضمانات المزعومة التي يوفّرها. والفصل الذي يجري، تكرارًا، بين طبيعة النظام السياسي الطائفي في لبنان، والتوترات والحروب الأهلية التي تلاحقت وتعاظم أثرها إلى ما يتجاوز الموت والدمار، إنما هو فصل متعسّف إلى أبعد الحدود. وكان الأجدى بالآباء أن يتدارسوا في هذا الصدد أيضًا، أثر نقل «النموذج» اللبناني الذي به يشيدون إلى العراق بعد الغزو الأميركي لهذا البلد في نيسان من عام 2003. يومها تباهى الغزاة المحتلون والمتعاونون معهم باعتماد هذا النموذج أداة لتكوين السلطة ولتوزيع مراكز النفوذ والحصص فيها، ودائمًا من خلال «قاسم الجبنة» الأجنبي الأميركي وتابعه الإنكليزي. إنّ مثل هذه الاستعادة ستقود، أو هي يجب أن تقود إلى كشف الأذى والضرر الهائلين اللذين لحقا بشعب العراق، كل شعب العراق: بمسلميه السنّة والشيعة، وبعربه وكرده، وبمسيحيّيه على وجه الخصوص. معروف تمامًا لكلّ العراقيين، أنّ السيارات المفخخة التي استهدفت الجوامع والحسينيات، كانت واحدة من أدوات الصراع السياسي ـــــ الطائفي والمذهبي، الذي توسّل كلّ وسائل القتل والتهديد بالقتل والاضطهاد والقمع والتهجير القسري أو الوقائي... والذي شمل قسم أساسي منه أبناء العراق من الطوائف المسيحية.

الفصل الذي يجري بين طبيعة النظام الطائفي والتوترات والحروب الأهلية إنما هو فصل متعسّف

وفي امتداد ذلك، كان الأحرى بالمشاركين في السينودس أن يتذكّروا أيضًا (والذاكرة ما زالت طريّة بعد)، المشروع الأميركي الذي اتخذ نفس اسم السينودس، أي مشروع الشرق الأوسط الجديد أو الكبير. فقد حمل هذا المشروع كتصعيد لنزعة الهيمنة الأميركية بوسائل الغزو والقتل، الكثير من المآسي لشعوب المنطقة، وخصوصًا منها الشعب العراقي الشهيد! ويزيد من ضرورة اعتماد هذا الفهم، الدور السلبي الخطير الذي ما زالت تمارسه واشنطن، سواء بسياساتها المباشرة أو من خلال دعم العدو الصهيوني ونهجه في الاحتلال والعدوان.
لا بدّ، بالتأكيد، من إدانة حازمة لكلّ سياسات استهداف المواطنين بسبب انتماءاتهم أو قناعاتهم الدينية. لكن لا بدّ من وضع ذلك في سياق سياسة تدين بلا هوادة أيضًا، كلّ أشكال التمييز بين المواطنين أو ضدّهم، لأسباب فكرية أو عرقية أو طبقية أو سياسية...
لا بدّ إذاً من التوصّل إلى اعتماد رؤية شاملة وصائبة للحلول والمعالجات. وهذا لا ينطبق على سينودس الشرق الأوسط وحده. إنّه ينطبق أيضًا على كلّ محاولات معالجة التوترات بالمسكّنات التي تتجه إلى النتائج وتتجاهل الأسباب. ففي دمشق أيضًا عُقد لقاء لقادة روحيين مسلمين، لم يتجاوز، هو الآخر، «تبادل التحيّات» بشأن مواقف حديثة تدين شتم إحدى زوجات الرسول السيّدة عائشة من جانب فريق، وشتم عدد من الصحابة والخلفاء الراشدين من جانب جهة ثانية. هذا أيضًا ضروري لكنّه، حكمًا، غير كاف على الإطلاق!
إنّ المسألة أعمق وأخطر من ذلك. والمطلوب من «مرتا» وأخواتها الذهاب إلى أصل المشكلة، وهو يكمن في خطأ بناء الكيانات السياسية والسلطوية على أساس طائفي أو مذهبي، فكيف إذا كان هذا الأمر جزءًا من «شبكة الأمان» التي تستخدمها قوى المتروبول الدولية، أو الأنظمة القمعية لتأمين مصالحها في الهيمنة على السلطة والثروة والبشر... ودون حدود!
«إنّ النظر إلى تلك البقعة من العالم من منظور الله يعني أن نرى فيها مهد مشروع شامل للخلاص... يتحقق في الحرية». هكذا تحدّث قداسة الباب في مستهل السينودس. ويلحّ المطران جورج خضر، الذي حضر السينودس كمندوب، على أنّ: «محبة الحقيقة تأتي من محبة الوطن التي لا تعلو عليها قضية فريق أو قبيلة أو جماعة دينية... قد لا تكون الدولة في لبنان مشكلتنا الوحيدة لكنّها المشكلة الأولى. لا ريب في ذلك. تنقية الدولة في كلّ بلدان العالم دعوة إلى النهوض بالأمة كلّها».
في كلام كلّ من قداسة البابا، وهو كلام عام، وكلام المطران جورج خضر وكلامه محدّد وواضح، دعوة إلى خيارات جديدة. هذا هو الأمر الذي يجب الأخذ به وتعميقه وتطويره. حتى ذلك التاريخ، لم يعد كافيًا أن نغضب إسرائيل التي تنافس حكّامها على إعلان خيبة أملهم من السينودس ورفضهم لخلاصاته. يجب أيضًا، بناء علاقات مجتمعية تكون نقيضًا للعنصرية الصهيونية من خلال المساواة والسعي إلى بناء دولة الحرية والعدالة واحترام حقوق الإنسان دون تمييز كما نصّت عليه شرعة حقوق الإنسان والمعاهدات الدولية.
* كاتب وسياسي لبناني