سعد الله مزرعاني *لم يأتِ حادث «برج أبي حيدر» من خارج المتوقّع. إنّه المولود الطبيعي لتناقضات متعدّدة ومتنوّعة ينتظمها الصراع الدائر في لبنان وعليه، الذي استعر وتصاعد منذ أواسط عام 2004 حتى يومنا هذا. العامل الأكبر والأبرز في تأجيج ذلك الصراع كان الغزو الأميركي للعراق في ربيع عام 2009. والطرف الأكثر مصلحًة في استمرار هذا الصراع وفي محاولة استمراره متأجّجًا، هو الطرف الإسرائيلي، الذي يقع تعطيل المقاومة أو تدميرها في رأس أولوياته.
في صياغة أخرى، أكثر مباشرة، نستطيع القول إنّ النزاع بالزيّ الطائفي، فالمذهبي، هو إفراز تقليدي من إفرازات النظام السياسي اللبناني، لتغيير توازناته أو ممارساته، أو للمحافظة عليهما. تاريخنا المعاصر حافل بالتوترات والاشتباكات السياسية والأمنية وصولًا إلى الانزلاق نحو الحروب الأهلية المديدة والمدمّرة كما حصل بين عامي 1975ـــــ1990. من جهة ثانية، لا يمكن أبدًا فصل حادث «برج أبي حيدر» أو عزله عن محاولات إغراق اللبنانيّين في صراعات دموية تتطوّر إلى مستوى الفتنة الشاملة. ذلك هدف مكشوف يحاول بلوغه الإسرائيليّون وحلفاؤهم، ولا يتردّدون في تكرار الكلام عن أسبابه ومواعيده وأشكاله!
في امتداد تاريخه المعاصر كما أسلفنا، كان لبنان ينزلق إلى الحرب الأهلية الشاملة، بمقدار ما كانت تنعقد تناقضاته المحلية على التناقضات الوافدة. هكذا حصل في أزمة عام 1958 حين تفاعل وتكامل الجنوح نحو الاستئثار الداخلي مع انطلاق «حلف بغداد» برعاية الولايات المتحدة الأميركية. وهكذا حصل عام 1975 حين عاند نهج التشبّث بالامتيازات الفئوية، الرغبة الواسعة في الإصلاح والمشاركة. ومن ناحية ثانية، تناغم أصحاب هذا النهج مع إعداد مناخات «كامب دايفيد» الذي اقتضى، كما قال الرئيس المصري الراحل أنور السادات، «أن تسيل دماء كثيرة في لبنان»!
بهذا المعنى، وبعيدًا عن المسايرة، ليس حادث «برج أبي حيدر» حادثًا عابرًا أو «فرديًّا». إنّه حادث «طبيعي» في مناخ التوتر السياسي والمذهبي اللبناني، والتصعيد الإقليمي. وهو في المقابل، حادث يعطي صدقية وواقعية تنفيذية، لما أشير إليه مرارًا لجهة الإعداد للفتنة، أو التحذير منها.
قد يصل التحقيق إلى شيء قليل ممّا ذكرنا. سيكون ذلك ممتازًا وخارقًا للعادة! وقد تقتضي التوازنات أو التسويات أو المساومات، إقفال التحقيق على اللاشيء، كما اعتدنا في حوادث وأحداث مماثلة. ورغم أهمية كشف المسؤوليات والأهداف والأدوات الحقيقية، فإنّ ما رافق الأحداث ويرافقها من تصعيد ومن تعبئة ومن تأجيج، يكشف لكلّ متتبّع موضوعي وظيفة حادث «برج أبي حيدر» على نحو ساطع وفاضح وحاسم، قبل التحقيق وبعده: أي منذ انطلاق الرصاصة الأولى حتى تفاقم الحادث إلى ما يشبه النزاع المذهبي الواسع!
إنّه استهداف المقاومة إذاً، هو ما يخطّط له، وبوسيلة الفتنة المذهبية، بالدرجة الأولى. وهنا يجب القول بصراحة، إنّ بعض المنطلقات التعبوية للمقاومة رغم ما وفّرت لها من عناصر القوة والدعم تستولد في الجانب الآخر ردود فعل سلبية: عفوية أو مقصودة لدى فرق ومذاهب أخرى. والبيئة اللبنانية هي بيئة «مجرّبة» في هذا الصدد، لدرجة أنّ الأميركيين وحلفاءهم من البريطانيين أصحاب نظرية «فرّق تسد»، بكّروا في نقل «الصيغة» الطائفية اللبنانية إلى العراق الغارق في دماء أبنائه حتى الموت والتفتيت والضياع!
بكلام أوضح، فإنّ اندراج «بيئة» المقاومة في تناقضات التركيبة اللبنانية وأمراضها هو نقطة الضعف التي يجري الآن استثمارها، بعدما تمكّنت المقاومة استنادًا إلى العوامل التعبوية الدينية، تباعًا، من بناء عناصر قوة ألحقت بالعدو الصهيوني هزيمة غير مسبوقة في تاريخ الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي.
لن يستثني الصهاينة وسيلة للضغط على نقطة الضعف هذه. فرصتهم الثمينة في «القرار الظني» المتوقع صدوره عن المحكمة الدولية في الأشهر القادمة. وشركاؤهم كثر! من واشنطن إلى عرب «الاعتدال». وأدواتهم متنوّعة: من شبكة الجواسيس الناشطة في لبنان، إلى أمراض الوضع اللبناني الكثيرة، ومنها الاستقواء بالخارج لتحقيق شعارات من بينها «الحرية والسيادة والاستقلال»، أو لبناء مراكز نفوذ وجني مكاسب على حساب البلد والقوى الأخرى.
هذا كلام مكرّر. وهو يصبح أقرب إلى التبشير ما لم يدفع نحو استنتاجات جديدة من جانب القوى المستهدفة، وفي مقدّمتها «المقاومة الإسلامية» خاصًة. إنّ الموضوع مطروح إذًا على مستوى أعمق من ذلك وأخطر بكثير. إنّه مستوى تطوير الأداء والأدوات وفق ما تمليه شروط الحفاظ على الإنجازات وتطويرها من مستلزمات، ومقاربات جديدة.
بكلام آخر، إنّ العلاقة ما بين المنطلق الجهادي والمواجهة ذات الطابع الوطني، هي مسألة لا يمكن أن تستقيم وتتواصل على شكل واحد في كل الظروف وفي كلّ المراحل، وخصوصًا في بلد كلبنان. نقول هذا الاستنتاج، ليس بمعزل عن التجربة المحقّقة، ونفترض، بدءًا، أنّ الهدف الوطني بطرد العدوّ المحتل والغاصب من أرضنا، وتحريرها وتحرير مقدّساتنا وثرواتنا من دنسه ومطامعه، هو الأولوية العامة التي لا تتقدّمها أيّ أولوية خاصّة!
وفي هذا السياق، أي سياق التجربة نفسها، نذكّر بأنّ سياسة تقديم التنازلات وبذل التطمينات في نطاق المحافظة على النظام الطائفي ـــــ المذهبي وتوازناته، لم تقابل بتنازلات مماثلة لمصلحة استمرار المقاومة ودورها وسلاحها. على العكس من ذلك، فقد جرى تغذية حملة دائمة، وبسلاح الطائفية والمذهبية إياه، ضدّ المقاومة وسلاحها ودورها، وبالتناغم مع الأعداء والمستفيدين الخارجيين، على نحو مطّرد ومتفاقم وخطير!
هل يعني هذا الكلام إهمال العامل العقائدي والديني في التعبئة بوصفه بالنسبة إلى المقاومة الإسلامية، أحد مظاهر حرية الاعتقاد والتعبير والتعبئة أيضًا؟ ليس هذا هو المقصود أبدًا. المقصود تحديدًا، هو تحرير نظام علاقات اللبنانيين في ما بينهم، وبينهم وبين الخارج، من الأثر السلبي الناجم عن اندراج العوامل المذهبية ـــــ وهي عوامل خلافية دائمًا ـــــ في صلب النظام السياسي والسلطات المجسّدة له.
إنّ تاريخنا المرهق حتى المرض بوزر الممارسات الطائفية والمذهبية، حافل حتى التخمة أيضًا، بخطابات وشعارات وإعلانات لعن الطائفية ومساوئها. ويصادف وليس من دون سبب (أو نتيجة أيضًا!) أنّ الرئيس رياض الصلح هو أبلغ من تناول هذا الموضوع في البيان الوزاري لحكومة الاستقلال. خاطب الصلح النواب قائلاً: «إنّ

رياض الصلح ورفيق الحريري تطلّعا في بيانيهما الوزاريّين إلى إلغاء الطائفية


الساعة التي يمكن، فيها إلغاء الطائفية هي ساعة يقظة وطنية شاملة مباركة في تاريخ لبنان». أما الرئيس الشهيد رفيق الحريري، فقال، هو الآخر، في بيان حكومته الأولى في تشرين الأوّل عام 1992: «إنّنا نتطلّع إلى وطن تنصهر فيه الطوائف ولا تستبدّ به الطائفية... التي استقرّ الرأي في الطائف على أنّ إلغاءها يمثّل هدفًا وطنيًا أساسيًا... وجزءًا من دستور لبنان. وقد لحظت المادة 95 من الدستور آلية لتحقيق هذا الهدف»!
لم تقترن الأفعال بالأقوال. ينطبق هذا الأمر على الجميع: «لمَ تقولون ما لا تفعلون»؟! أو ليست النتائج المرّة، فضلاً عن موجبات المواجهة مع العدو، سببًا لمطالبة الجميع بمطابقة الأقوال للأفعال، وتطبيق «الطائف» والدستور؟
الطائفية والمذهبية، هما على الأقل، سلاح ذو حدّين. وإذا كان ثمّة إيجابية تُنسب واقعيًا إلى الحدّ الأوّل لجهة الدفاع، في مرحلة ما، عن الذات، عبر استحضار عنصر الانتماء الأوّلي، فإنّ الحدّ الثاني، قد تحوّل إلى بؤرة من العصبيات ذات المردود السلبي الصافي والمدمّر، على النحو الذي عاناه اللبنانيون منذ عقود: حروبًا وعدم استقرار وتشرذماً وتبعية...
إنّ مستلزمات تطوير المواجهة، تستدعي، باختصار وبالضرورة، إضفاء طابع شامل على الهدف وعلى الوسيلة في الوقت عينه. يمكن أن يحصل ذلك بالتدريج وضمن خطة مرحلية أيضًا كتلك التي أشارت إليها المادة 95 من الدستور اللبناني!
هل تكون المقاومة وقيادتها الراهنة، أقلّ حرصًا على تحرير المواطن من تحرير الوطن. المهمتان أصبحتا، إلى حدّ كبير مهمة واحدة!
* كاتب وسياسي لبناني