إعداد وترجمة ديما شريفرسمياً، انتهت حرب العراق منذ يومين، مع رحيل آخر الجنود المحاربين من البلاد، وبقاء أقل من خمسين ألفاً «سيساعدون» العراقيين، دون الخروج من قواعدهم، في المبدأ، إلا في الحالات الطارئة وبطلب من الحكومة العراقية. لكن الولايات المتحدة الأميركية، بعد سبع سنوات على إدخالها عنوة إلى العراق على يد الرئيس السابق جورج بوش الابن، ستبقى هناك كشبح يحوم فوق بلد مدمّر لم يستطع تأليف حكومة بعد ستة أشهر على إجراء الانتخابات. خطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما ليلة انتهاء الحرب لم يرضِ الجميع. فقد كان، وفق بعض المحلّلين، قاتماً، يغطّي جرائم واشنطن، ولا يحتوي على ما يشفي غليل ضحايا هذه الحرب في أميركا والعراق، على حد سواء

يريدون منّا أن ننسى دروس الحرب



آندرو باسيفيتش *
حرب العراق؟ انسوا الأمر. «حان الوقت لقلب الصفحة». على الأقل، هذا ما ينصح به القائد الأعلى للقوات المسلّحة. فقد قال الرئيس باراك أوباما السبت الماضي «نهاية الأمر هو أنّ الحرب تنتهي». للأسف، ليس الوضع كذلك. على العكس، الصراع ببساطة يدخل مرحلة جديدة. وقبل أن نتسرّع لقلب الصفحة، وهو أمر يريد معظم الأميركيين أن يفعلوه، تتطلّب اللياقة العامة أن نفكر في كل ما حصل قبل وصولنا إلى هذه اللحظة. بدون هذا النوع من التفكير، يصبح التعلّم مستحيلاً.
دعونا نزوّد كل الأميركيين، الذين لا يزالون مقتنعين بأنّ كل شيء تغيّر من اللحظة التي دخل فيها أوباما إلى المكتب البيضاوي، بعض القرائن. الحدث الذي سيقدّسه علماء التاريخ هو تاريخ البدء الفعلي لحرب العراق في 1990، حين اجتاح صدام حسين الكويت، جار العراق غير المحبوب، الذي لا يستحق الحب. خلال معظم العقد الذي سبق ذلك، عدّت الولايات المتحدة صدام نوعاً من حليف، أي حصناً علمانياً ضد التهديد الوشيك للتطرف الإسلامي الذي كان مركّزاً آنذاك في طهران. حرب صدام العدوانية ضد إيران، التي بدأت في 1980، لم تحبط واشنطن، التي عرضت على الديكتاتور العراقي المساعدة حين بدا أنّ جنوده على وشك الهزيمة.
لكن حين انقلب صدام بعد ذلك على الكويت، تخطى حدوده. رسم الرئيس جورج بوش الأب خطاً في الرمال، وشبّه الديكتاتور العراقي بهتلر، وأرسل نصف مليون جندي أميركي إلى الخليج العربي. كانت الخطة تقتضي توبيخ صدام جيداً، والتأكّد أنّ كل المتورطين يعرفون من هو المسؤول، والعودة إلى المنزل.
لم تجرِ عملية «عاصفة الصحراء» على هذا المنوال. فالنصر الكبير ظاهرياً، فتح المجال أمام تعقيدات أكبر. ورغم أنّ القوّات الأميركيّة وقوّات التحالف قد أنجزت ما أُرسِلت من أجله عبر طرد الجيش العراقي من الكويت، فقد تملّك واشنطن الهوس من أنّ دحر العدوان لم يعد كافياً. وفي بغداد، بقي عدو بوش على قيد الحياة ومستمرّاً في التحدي. لذا، فإنّ ما بدأ حرباً لتحرير الكويت، تحوّل إلى هوس بعزل صدام. استمرت حرب أميركا ضد العراق خلال التسعينات مع ضربات جوية، هجمات بالصواريخ، مكر ومخططات وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه) وعقوبات مدمّرة. ووصلت الحرب إلى ذروتها مع قرار جورج بوش الابن بعد 11 أيلول 2001 بوضع صدام، قبل أسامة بن لادن، على لائحة الأشرار الذين يجب التخلص منهم.
الاعتداء الذي قادته الولايات المتحدة على بغداد في 2003 أنهى أخيراً العمل غير المنتهي في 1992، هذا ما بدا على الأقل. هنا كان النصر حاسماً، اختتم بإلقاء القبض على صدام حسين، في كانون الأوّل 2003. أعلن بول بريمر، المندوب الأميركي إلى بغداد، «أيتها السيدات والسادة، لقد أمسكنا به».
لكن حين تحدث بريمر، كان العراق قد تمكّن منا. لم يعنِ أسر صدام (وإعدامه لاحقاً) أيّ شيء. كانت المرحلة الثانية من حرب العراق قد بدأت، فأعطت الحرب ضد صدام (1990 ـــــ 2003) مكانها للاحتلال الأميركي (2003 ـــــ 2010). أعلنت المرحلة الثانية بدء الحرب لإعادة تكوين العراق بصورة أميركية.
مع وجود مسؤولين كبريمر في الطليعة، بدأت الولايات المتحدة رحلتها لتحويل العراق إلى «المدينة المثالية» في الخليج، تكون منارة لديموقراطية ليبرالية ذات توجهات غربية منيرة وملهمة لباقي العالم العربي والإسلامي. حين قوبل هذا الجهد بمقاومة، فإنّ القوات الأميركية، المعتادة استخدام القوة بإفراط، ردت بقسوة لم تميز أحداً. سمّى الرئيس بوش المقاربة «ركل المؤخرة». لكنّ القسوة ارتدت على مطلقيها، ونجحت فقط في إغراق العراق في الفوضى. في الوطن، كانت النتيجة واحدة وهي ردّ فعل عنيف ضد ما أصبح يسمّى حرب بوش.
منذ تسلّمه منصبه، كان أوباما وفيّاً للمسار الذي وضعه سلفه
سعت إدارة بوش العاجزة عن الربح وغير المستعدة لتقبّل الهزيمة، إلى خلق شروط تسمح بخروج مشرّف. فكان «الإغراق» الذي سُوّق لأسباب سياسية داخلية على أنّه «طريق جديد إلى الأمام»، وكان له أهمية استراتيجية تضاهي وجبة فطور مخصصة لكلب. ضغط الرئيس بوش على نفسه لاستهلاك المزيد من الدم والثروة الأميركية في الوقت الذي قلّل فيه من التوقعات بشأن ما يمكن الولايات المتحدة أن تنجزه في الواقع. حظيت التكتيكات الجديدة التي صُمّمت لقمع التمرد العراقي بموافقة بوش، وكذلك الممارسة القاضية برشوة المتمردين لتسليم سلاحهم. ونتيجة ذلك، خفّ منسوب العنف الذي جعل من العراق جهنّم، لكنّه لم يختفِ.
في هذا الوقت، انهارت الحقائق الفارغة. توقف المسؤولون الأميركيّون عن الوعد بأنّ سقوط صدام سيطلق موجة من الإصلاحات الليبرالية عبر العالم الإسلامي. وتوقفت مقالات الرأي التي تشهد على الالتزام الأميركي بحقوق النساء العراقيات، عن الصدور في أهم صحف الأمة. تنصّل الجنرالات الأميركيون المحترمون من أيّ إمكان للنصر، وهم الوحيدون الذين كانوا بحلول 2007 يتمتعون بقليل من الصدقية بشأن العراق. في الأوساط العسكرية، أصبح من الرائج القول إنّه «لا وجود لحل عسكري».
مع وصول باراك أوباما إلى الرئاسة، كانت المرحلة الثانية من حرب العراق، التي تحوّلت من الاحتلال إلى الإنقاذ، قد تقدمت كثيراً. منذ تسلّمه منصبه، كان أوباما وفياً للمسار الذي وضعه سلفه، ومعتمداً على نجاح الرئيس بوش. (في وضع العراق أصبحت كلمة «نجاح» عبارة مطّاطة، تستطيع التوفيق بين القنابل التي تنفجر في المدن العراقية والاعتداءات من جانب المتمردين ضد القوات العراقية والمنشآت الحكومية).
نصل إلى زمننا الحاضر. بعد أكثر من سبع سنوات، انتهت عملية حرية العراق. تبدأ اليوم عملية الفجر الجديد، التي يوحي اسمها بأنّها مرهم للوجه أو سائل لتنظيف الصحون (ماذا حصل لعادة استخدام عبارات مثل مشعل أو السيد الأعلى أو التنين لوصف الحملات العسكرية؟). ورغم بقاء ما يقارب الخمسين ألف جندي أميركي في العراق، فإنّ مهمتهم ليست أن يحاربوا، بل ببساطة نصح ومساعدة نظرائهم العراقيين. خلال سنة أخرى، إذا سارت الأمور على ما يرام، فستختفي كلّ هذه البقايا العسكرية الأميركية.
إذاً الأميركيون ينسحبون، بعدما حقّقوا جزءاً يسيراً من الأهداف الطموحة التي أُُعلنت في أعقاب نشوة سقوط بغداد. الإغراق الذي يجري تذكره اليوم كعرض فذّ للأسلحة، يعمل كشاشة عازلة تخفي وراءها مشهداً من الإهمال، والخطأ في الحسابات، والهدر، لدرجة أنّ السياسيّين والجنرالات ومثيري الحروب العديدين يريدون نسيانه.
في هذا الوقت، لم يُحَلّ شيء في العراق ولم يستقر الوضع. أنتجت المرحلة الأولى من حرب العراق هيجاناً كبيراً فاقمته المرحلة الثانية. وفيما تتدحرج قوافل العربات الأميركية المسلحة جنوباً نحو الكويت، وبعد ذلك إلى الوطن، يُترَك المسرح معدّاً للمرحلة
الثالثة.
فلنطلق على هذه المرحلة (2010 ـــــ ؟) اسم حرب العراق لتقرير المصير. في الوقت الذي تبعد فيه الولايات المتحدة نفسها عن المشهد، سيستغل العراقيون الفرصة لتقرير مستقبلهم، وهي عملية ستترافق مع سفك الدماء لأسباب عرقية، مذهبية وقبلية. لا أحد يستطيع توقع النتيجة، لكنّها لن تكون جيدة.
نستطيع قول شيء واحد بكل ثقة: في ما يتعلق بالأميركيين، أصبح العراقيون يمتلكون حربهم. قال الرئيس أوباما أخيراً «العراق كأيّ دولة سيدة ومستقلة، حر في رسم طريقه الخاص». قد يكون المكان في فوضى عارمة، لكنّها الفوضى الخاصة بهم لا بنا. بهذا المنطق فقط، فإنّ حرب العراق «انتهت».
انسحبت القوات الأميركية انسحاباً منظّماً. في رأيهم، بقوا غير مهزومين ولا يهزمون. ومع انسحاب القوات، يتخطّى الشعب الأميركي ما جرى. حتّى في هذه اللحظة، أخذ الأفغان من العراقيين اهتمام الأميركيين ومساعداتهم. بشكل غريب وربما مزعج، يبدو معظمنا راضياً عن النتيجة، مع ذاكرة قصيرة وبراءة سليمة. تغادر الولايات المتخدة العراق، وهي لم تتعلّم شيئاً.
* عن «ذا نيو ريبابليك»، مجلة نصف شهرية

لا نصر



سعدنا لمشاهدتنا الرئيس باراك أوباما يزور «فورت بليس» [مركز للجيش الأميركي في تكساس] الثلاثاء قبل خطابه عن العراق في المكتب البيضاوي، ليشكر الأميركيين الذين تحمّلوا أكثر من غيرهم أعباء حرب مأسوية لا طائل منها. لقد مثّل ذلك شعاع أمل في هذا الصراع الذي شهدته أميركا منذ حرب فييتنام، حين جرى ازدراء الجنود الأبرياء بسبب قرارات السياسيّين. حاول الرئيس جورج بوش أن يجعل حرب العراق خفيّة وغير مكلفة. رفض أن يحضر مآتم الجنود، وأخفى عودة نعوشهم عن شعبه. لذلك، كان مناسباً أن يكرّمهم أوباما، الذي حسّن وضع قدامى الجيش الصحي، وجعل ميزانية وزارة الدفاع أكثر عقلانية.
قال ليلة الثلاثاء «في كل منعطف، رجال أميركا ونساؤها بالزيّ العسكري خدموا بشجاعة وتصميم». وأضاف «كان هناك وطنيون ساندوا هذه الحرب، ووطنيون عارضوها. وكلنا موحّدون في تقديرنا لجنودنا وأملنا في ما يتعلق بمستقبل العراق».
وجعلنا الخطاب نفكر أيضاً في القدر القليل الذي حقّقه بوش عبر اجتياحه العراق بدون ضرورة لذلك في آذار 2003، وإعلانه، بسخافة، النصر بعد شهرين على ذلك.
جعلت الحرب الأميركيّين أقلّ أماناً، وخلقت منظمة جديدة من الإرهابيّين
تبيّن أنّ أسلحة الدمار الشامل الخاصة بصدام حسين كانت مجرد بروباغندا من إدارة بوش. لم تخلق الحرب عهداً جديداً من الديموقراطية في الشرق الأوسط، أو في العراق. هناك بعض الممارسات الديموقراطية في العراق التي تعطينا الأمل، لكن لم تؤلَّف حكومة بعد ستة أشهر على الانتخابات العامة.
بطرق عدّة، جعلت الحرب الأميركيين أقل أماناً، إذ خلقت منظمة جديدة من الإرهابيّين وحوّلت موارد البلاد العسكرية والإرادة السياسية عن أفغانستان. وبعد سلبها عدوّها الرئيسي، أصبحت إيران أكثر حرية في متابعة برنامجها النووي، وإدارة وتمويل مجموعات متطرفة والتدخل في العراق.
قال السيد أوباما، بطريقة لطيفة، إنّه حان الوقت لوضع الخلافات حول العراق وراءنا. لكن من المهم ألّا ننسى كم سبّب بوش من أضرار عبر غشّ الأميركيين بشأن الأسلحة الغريبة، واستقبال الجنود الأميركيين بالورود وخلق ديموقراطية نموذجية في بغداد.
لهذا، كان مهمّاً ما قاله أوباما عن أنّ الولايات المتحدة لم تتحرّر من هذا الصراع، إذ سيعاني الجنود الأميركيون المزيد من سفك الدماء. نأمل أنّه سيحقق وعده بالعمل مع الحكومة العراقية بعد انسحاب القوات العسكرية.
لم يكن هناك نصر لإعلانه الليلة الماضية، وكان أوباما محقّاً في عدم محاولته القيام بذلك. إن كان من نصر ممكن في هذه الحرب، فهو لم يحصل قط، ولا تزال أميركا تواجه التحديات الشاقة من الحرب الأخرى، تلك التي تدور في أفغانستان.
توجه أوباما إلى من لا يؤمنون أنّه ملتزم بالحرب في أفغانستان، وأولئك الذين يعتقدون أنّه لن يغادرها. وقال إنّ الأميركيين «يجب ألّا يخطئوا»، فهو سيلتزم خطته القاضية ببدء انسحاب الفِرَق في آب المقبل. يبقى عليه أن يفسّر بوضوح، وقريباً، كيف سـ«يوقف، يفكّك ويهزم القاعدة» ويلتزم بهذه المهلة الزمنية.
حين سمعنا أوباما يتحدث من مكتبه بهدوئه وفصاحته المعتادين، أملنا أن نسمع منه أكثر عن عدد من القضايا. نحن حائرون لماذا لا يتحدث مباشرةً إلى الأميركيين إلّا نادراً، وبعدم رغبة واضحة جداً. كان ذلك خطابه المباشر الثاني من المكتب البيضاوي خلال أكثر من 19 شهراً من الأزمات المتتالية. تحتاج الأمة خصوصاً إلى أن تسمع منه عمّا يسمّيه، بطريقة صحيحة، المهمة الأكثر إلحاحاً، أي «تحسين وضع اقتصادنا وإعادة الملايين من الأميركيّين الذين فقدوا وظائفهم إلى سوق العمل».
في هذا اليوم، كان مهمّاً التركيز على هذا الحدث الجلل في العراق، وعلى بعض الأرقام المحبطة: أكثر من 4400 قتيل أميركي، وحوالى 35000 جريح، عدد كبير منهم فقدوا أطرافاً. وكذلك على رقم يكره السياسيون الأميركيون ذكره: مئة ألف عراقي قتيل... على الأقل.
* افتتاحية «نيويورك تايمز» في أوّل أيلول 2010