لم تنتهِ أزمة نهر البارد بعد. المخيّم المدمّر ظاهر للعيان مهما عملت الدولة على إخفاء معالم الجريمة، فيما تشكّل الأبنيّة الحديثة كارثة إنسانيّة بحق. المشكلة في نهر البارد ليست فقط في أن كارثة إنسانيّة لا بل مجزرة أكيدة حصلت بحق الشعب الفلسطيني هناك، بل كون السلطة ومن ورائها شعب لبنان غير العظيم يصرّان على استقاء البطولة والمجد من الحدث الذي أدّى إلى مقتل نحو خمسين من المدنيّين والمدنيّات (فيما كان أحمد فتفت يؤكّد في الإعلام أن مدنيّاً فلسطينيّاً واحداً قُتل في نهر البارد، بسيطة بالنسبة لفتفت صاحب إنجاز ثكنة مرجعيون التي ستقبّح وجه تاريخ لبنان إلى الأبد)

أسعد أبو خليل*
سبب العودة إلى الكلام عن نهر البارد هو عرض فيلم «وثائقي» عن نهر البارد على شاشة «أو. تي. في» الشديدة الاعتزاز بالفينيقيّة (والاختصاصيّة بالبذاءة والسوقيّة الجنسيّة في برنامج «لول» غير الظريف). الفيلم شكّل في عرضه استفزازاً صارخاً للشعب الفلسطيني أينما كان، ولمشاعر كل من يناصر قضيّة شعب فلسطين. الفيلم لا علاقة له بالنوع الوثائقي من حيث الإعداد، ودخل في باب الدعايّة السياسيّة من نوع الأفلام «الوثائقيّة» التي تبثّها محطات آل سعود ومحطات آل الحريري. ومديريّة التوجيه في الجيش بدت كأنها هي المخرج والملحّن والمنتج والممثّل في الفيلم. لكن الموضوع يتعلّق بجيش لبنان، لا بالماريشال للّو المرّ الذي يعتبر أي انتقاد له من تدبير العدوّ الإسرائيلي وبمثابة إهانة للجيش وكرامته.

هل كان على لبنان أن ينتظر عقوداً كي تعادي قيادته إسرائيل؟

الجيش اللبناني هو من تدبير الحكومة الفرنسيّة وإنشائها، وقد لعب فيه فؤاد شهاب (المتمتع بتقدير ومديح إعلامي وثقافي لا يستحقّهما) الدور الأكبر، وقد رسم حدود دور الجيش بالتنسيق مع السلطات الفرنسيّة، التي كان على وئام تام معها. فؤاد شهاب كان من أكثر اللبنانيّين انبهاراً وإعجاباً بالرجل الأبيض، وخصوصاً إذا ما نطق بالفرنسيّة. معلوم أن مستشاره الفرنسي كان يحضر اجتماعات مجلس الوزراء في عهده، وكان الوزراء لا يجرأون على معارضته أو مخالفته (كما روى فؤاد بطرس في مذكّراته). وكانت أحاديث شهاب عن اللبنانيّين والعرب تستقي ما عندها من تعميمات الرجل الأبيض العنصريّة عن العنصر الإثني «المتوحّش». أما في مجال السياسة العسكريّة للجيش، فقد رسم له شهاب دوراً واضحاً في إبعاده عن كل التزامات الصراع العربي الإسرائيلي وكل مترتّبات المواثيق الجامعة في العالم العربي. ولنتذكّر أن دول المواجهة مثل سوريا ومصر (وحتى الأردن في عام 1967) قدمت تضحيات جساماً من جيوشها ومالها وترابها في الحروب العربيّة الإسرائيليّة رغم فشل ذريع في أداء الأنظمة هناك. وحده لبنان بقي متفرّجاً وصامتاً كأنه في كوكب آخر، وكأن معاناة شعب فلسطين لا تعنيه. كان يوقّع على اتفاقات الدفاع العربي المشترك ويتجاهلها قبل أن يجفّ حبر التوقيع. من يجرؤ على الزعم أن لبنان الرسمي استبسل في حرب 1948؟ من يصدّق أن المير مجيد ردّ العدوان الصهيوني ببَعْكُوره؟ على العكس. فلبنان خالف الخطّة العربيّة الموضوعة عام 1948 ورفض أن يدخل أرض فلسطين لينجد شعبها. كان شهاب واضحاً في أن لا علاقة للبنان بالصراع العربي الإسرائيلي وأن الشعب الفلسطيني في لبنان يُحكم بحذاء المكتب الثاني.
نعلم اليوم أن الجيش اللبناني قبل الحرب اللبنانيّة كان يُعاني أزمات عميقة: طائفيّة وبنيويّة وسياسيّة (يُراجع كتاب فؤاد لحّود في هذا الصدد). العدوّ لم يكن إسرائيل بالنسبة للجيش. على العكس، العدوّ بالنسبة للجيش آنذاك كان أعداء إسرائيل في لبنان: هؤلاء اللبنانيّون والفلسطينيّون الذين واللواتي أصرّوا على أن يدفع لبنان قسطاً ولو بسيطاً من تحرير فلسطين، أو على الأقل الدفاع عن لبنان. تعرّض الجيش اللبناني لاعتداءات متكرّرة من إسرائيل، وكان الحكم اللبناني مصرّاً على الانحناء أمام عدوان إسرائيل، وتجاهله. تقرأ في عدد 8 حزيران 1949 من الـ«بالستاين بوست» (سلف «الجيروزالم بوست») مثلاً أن الجيش الإسرائيلي والجيش اللبناني لعبا مباراة كرة قدم وديّة في المنطقة الحدوديّة. هذا فيما كانت الجيوش العربيّة في مصر وسوريا تُعدّ للحرب المقبلة. يكفي أن تتذكّر أن إسرائيل اعتدت 140 مرّة على لبنان بين 1949 و1964. عام 1959، خطفت إسرائيل ثلاث طائرات لبنانيّة (واحدة عسكريّة واثنتيْن مدنيّتين) وأجبرتها على الهبوط في الأرض المحتلّة (راجع كتاب أمين مصطفى، «المقاومة في لبنان»). تفرّج لبنان الرسمي على أفعال إسرائيل وأرسل إشارات عبر لجان الهدنة طالباً السترة ومؤكّداً نيّاته الابتعاد عن الهموم القوميّة آنذاك. ومساهمة في حماية (بصورة مباشرة أو بالنتيجة) ظهر إسرائيل فيما هي تستعدّ لمواجهة مع جيران لبنان العرب، فرضت السلطة اللبنانية القمع في كل مخيّمات اللاجئين. وكان بمستطاع الجيش آنذاك التسلّح بأحدث المعدّات وكان له طائرات حربيّة استعملها في إلقاء الصواريخ على المخيّمات الفلسطينيّة، فيما التزمت تلك الطائرات النوم عندما كانت إسرائيل تستطلع وتقصف فوق لبنان. يكفي أن نذكر أن إسرائيل شنّت أكثر من 3000 اعتداء على لبنان بين 1968 و1974 وقتلت أكثر من 880 مدنياً ومدنيّة بين لبنانيّين وفلسطينيّين (راجع كتاب محمود سويد «الجنوب اللبناني في مواجهة إسرائيل»). اعتبرت السلطة أن لبنان غير معني بالصراع العربي الإسرائيلي، وما نُشر عن أوّل اجتماع للجنة الهدنة بين لبنان وإسرائيل بالعبريّة ذكر أن الوفد اللبناني عاجل إلى تطمين الوفد الإسرائيلي بـ«أننا لسنا عرباً»، وبالتالي غير معنيّين بمسوؤليّات صدّ إسرائيل وتحرير فلسطين، كان هذا شعاراً عربيّاً رسميّاً كاذباً آنذاك.
وتضخّم دور الجيش في لبنان بعد محاولة انقلاب الحزب القومي وتفرّغ الجيش إما لأهداف القمع الداخلي الموجّه ضد اليسار (لأسباب بعضها محلّي سياسي وبعضها الآخر يتعلّق بخدمة الحكومات الغربيّة الحنونة طبعاً، حنان «العزيز جيف») وإمّا لتكبيل الطاقة الثوريّة لأهل المخيّمات. وعندما ازدادت الاعتداءات الإسرائيليّة على لبنان، زاد قمع الجيش اللبناني ضد الثورة الفلسطينيّة ومؤيّديها من اللبنانيّين. كرّس الجيش عقيدة ابتعاد لبنان عن كل مترتّبات المساندة لثورة شعب فلسطين. والكلام عن تغيير عقيدة الجيش في لبنان في التسعينيات مهين للدولة اللبنانيّة والجيش لأنه يقرّ بعدم عداء لبنان ضد إسرائيل في معظم التاريخ المعاصر (هذا إذا صدّقنا أن الدولة هي معادية لإسرائيل اليوم فيما تذكر بعض المراجع عن حرب تمّوز أن السنيورة كان يُرسل عبر الفرنسيّين نصائح وإن غير مباشرة للإسرائيليّين حول أفضل الطرق للتخلّص من حزب الله).
يمكن تكوين فكرة عن عقيدة الجيش اللبناني في مرحلة ما قبل (وأثناء) الحرب من خلال كتاب طارق عبد الله «المستنقع» وفيه الكثير عن الطائفيّة وعن الجهر بالعداء لمناصرة القضيّة الفلسطينيّة. لم يمثّل عقيدة عدم معاداة إسرائيل أكثر من إسكندر غانم الذي شغل منصب قيادة الجيش في حقبة سليمان فرنجيّة. كان هو الذي نفّذ الأمر بتسليح الميليشيات اليمينيّة وتدريبها، وكان هو الذي مثّل التغاضي عن الاعتداءات الإسرائيليّة على لبنان على مرّ سنوات العهد المذكور. إن إصرار سليمان فرنجيّة على إبقاء إسكندر غانم عام 1973 بعد فضيحة وصول كوماندوس إسرائيلي إرهابي إلى قلب بيروت واغتيال ثلاثة من خيرة قادة المقاومة الفلسطينيّة في لبنان، أشعل أزمة حكوميّة أدّت إلى استقالة صائب سلام. تلا ذلك انقضاض الجيش على المخيّمات الفلسطينيّة المكتظّة وقصفها بطائراتي الهوكر هونتر اللتيْن تحلّقان في احتفالات الجيش مع تخاذلهما عن الدفاع عن لبنان بوجه اعتداءات إسرائيليّة متكرّرة. (لكن الماريشال للّو المرّ يعد باستيراد طائرات ورقيّة من روسيا قريباً). فشل الجيش فشلاً ذريعاً عندما حاول في مهمّة ذات دوافع وحوافز خارجيّة لا تخفى على الأخرق تقليد مجازر أيلول الأسود. منع مقاتلو الثورة الفلسطينيّة الأشدّاء في لبنان الجيش اللبناني من محاكاة الجيش الأردني الذي تنعَّمَ بمؤازرة أميركيّة وإسرائيليّة في مهمته الشنيعة. عندها، سلّمت السلطة السياسية الأمر للميليشيات اللبنانيّة التي كانت مرتبطة مبكّراً بدولة العدو الإسرائيلي وتتلقّى منه المعونات الماديّة والعسكريّة (أما آن الأوان كي يكفّ جوزف أبو خليل عن أكذوبة المركب في عرض البحر، وكيف أنه يممّ وجهه نحو فلسطين المحتلّة وكيف هبط عفواً على الشاطئ ليجد أمامه إسحق رابين وشمعون بيريز وغيرهما من القادة. يمكن تطوير الكذبة أو تحسينها).
لم يقف الجيش اللبناني على الحياد أثناء الحرب الأهليّة. على العكس، كان يساهم بصورة فعّالة وقويّة إلى جانب ميليشيات إسرائيل في لبنان (من الطريف أن أدوات العدو الإسرائيلي في لبنان هي الأكثر تغنّياً بشعارات السيادة والاستقلال). كانت حركة «جيش لبنان العربي» المدعومة من أبو جهاد تعبّر عن نقمة ضبّاط وعناصر في الجيش ضدّ انحياز قيادة اليرزة الصارخ (طائفيّاً ووطنيّاً). وقد حدثت انشقاقات في صلب الجيش وكان بعضها غير بعيد عن وجهات النظر الصهيونيّة (عاد الجيش وأرسل بعض نماذج من قادته كملحقين عسكريّين في عواصم مهمّة). شارك الجيش في قصف المخيّمات الفلسطينيّة وكانت قيادته رديفة لقيادة القوّات اللبنانيّة بالرغم من بروز صراع بين الطرفين في عهد سركيس بسبب إصرار بشير الجميّل، أسوأ لبناني على الإطلاق، على فرض نفوذ ميليشياه الإسرائيلي على نفوذ الجيش، بالإضافة إلى تعدّياته واغتيالاته. كان ميشال عون، مثلاً، مستشاراً لبشير الجميّل وساندت مدفعيّته ميليشيات إسرائيل في قصف مخيّم تل الزعتر وتدميره. وعندما اجتاحت إسرائيل لبنان عام 1978 وعام 1982، لم يطلق الجيش اللبناني رصاصة واحدة. ومن ساهم أو ساعد في فعل مقاومة، فعل ذلك تمرّداً. أما منزل رئيس الشعبة الثانية جوني عبده، فقد شكّل بيت ضيافة غير رسمي لآرييل شارون. كانت العقيدة غير المعادية لإسرائيل سائدة آنذاك: كانت العقيدة هي التنسيق مع إسرائيل. مثّلها جوني عبده. ولم تكن حركتا سعد حدّاد وأنطوان لحد (السيّئتا الذكر) بعيدتيْن عن القيادة السياسيّة (يروي فؤاد بطرس بعضاً من مداولات مجلس الوزراء في هذا الشأن وكيف وقف سليم الحص بوجه سركيس وبطرس اللذين عارضا معاقبة جيش لحد). وتذكر المصادر العبريّة أن سعد حدّاد بدأ علاقته بإسرائيل عام 1972 عندما كان يشغل منصباً رسميّاً في الجيش اللبناني.
أما في عهد أمين الجميّل، فقد تحوّل الجيش إلى ميليشيا رديفة لحزب الكتائب وشارك في قهر بيروت الغربيّة والضاحية. وقد ذاقت مناطق مدنيّة سكنيّة في بيروت الغربيّة وضاحيتها الجنوبيّة من حمم الجيش وصواريخه التي لم تكن تلاحظ يومها أن لبنان تحتله إسرائيل. ما علينا، انتهت الحرب (وَوَعدنا زكي ناصيف بإعادة إعمار لبنان) وتغيّرت عقيدة الجيش وتغيّرت البنية الطائفيّة للجيش. وهذا أمر حسن. صحيح أن الجيش لم يعد يعتمد عقليّة طائفيّة في النظر إلى مهمته، مع أنه بقي أسيراً للكوتا الطائفيّة المفروضة والتي لا يهرب منها جهاز في الدولة أو دائرة. اختطّ الجيش لنفسه موقفاً (خطابيّاً) معادياً لإسرائيل. أكثر من ذلك، ساند المقاومة سرّاً. لكن هل على الجيش أن يساند مقاومة بالسرّ وهي تسعى لتحرير أرض يُكلّف الجيش نفسه الدفاع عنها في قسمه الرسمي؟
هذه هي الإشكاليّة. تغيّرت عقيدة الجيش الرسميّة واللفظيّة والخطابيّة، وصعد إلى قيادة الجيش ضباط مُعادون للصهيونيّة (وكأنه كان على لبنان أن ينتظر كل تلك العقود كي تعادي قيادته إسرائيل). تغيّرت عقيدة الجيش ولم تتغيّر ممارسته العسكريّة. يقولون: لكن الجنود سيُقتلون لو واجهوا إسرائيل. الجواب: أليست هذه هي مهمة الجيش؟ الدفاع عن لبنان بوجه المُعتدي التاريخي الذي لم ولا يتوقّف عن الاعتداء، وحتى الموت هو واجبهم؟ ثم، إذا كان صبية من المقاومة قد قاوموا إسرائيل بأسلحة أدنى من مستوى أسلحة الجيش، ألا يجب على الجيش المساهمة؟ يقولون: لكنه سقط للجيش شهداء في عدوان تموز. هذا صحيح، لكنهم سقطوا في قواعدهم من دون قتال. الجيش ساند المقاومة بالسرّ وهذا حسن، وإن كان الماريشال للّو المرّ غائباً عن السمع، وإن كان قد أصدر تهديداً بعدما بدأت إسرائيل بالقصف (وبعدما تمنّع الجيش عن التدخّل) بأن الجيش لن يقف مكتوفاً عندما تدخل قوّات العدو الأراضي اللبنانيّة، وهدّد بأن الجيش سيلقّن العدو «درساً لن ينساه». ودخلت قوّات العدو واختفى للّو المرّ عن السمع، وتم تلقين العدو درساً لن ينساه من قبل المقاومة.
وتعالت بعض الأصوات بمجرّد انتهاء الحرب (من يذكر أن أول صوت مشبوه صدر مُطالباً بنشر الجيش في الجنوب لحماية ظهر إسرائيل صدر عن مُفتي صور المطرود، علي الأمين، وفي جريدة «النهار»؟) تشدّد على دور الجيش مع أن الحرب، إن دلّت على شيء، فعلى عدم صلاحية الجيش في مواجهة إسرائيل.
لكن الصفاقة هي في عرض ذلك الفيلم بعنوان «نار البارد». الفيلم مفروض أن يكون مستقّلاً، لكنه كان واضحاً أنه معدّ بالاشتراك مع مديريّة التوجيه في الجيش. أولاً، ما هذا الاستسهال في استعمال كلمة «إرهاب» في كل ما يتصل بالمخيّمات الفلسطينيّة، فيما يتمنّع الجيش والدولة عن وصف جرائم إسرائيل بالإرهاب؟ لماذا درج رئيس الجمهوريّة والجيش اللبناني وباقي الإعلام على الإشارة إلى الإرهاب فقط في ما يتعلّق بالشعب الفلسطيني وحركاته؟ لا مجال اليوم لإعادة البحث في موضوع نهر البارد، ولو كان لبنان بلداً ديموقراطيّاً لوجبت الدعوة إلى تشكيل لجنة تحقيق في أسباب ما حدث وعن قدرة عصابة مسلّحة (فتح الإسلام) على الانتقال المدجّج بالسلاح من عين الحلوة إلى نهر البادر. هذا السؤال يرد على ألسنة سكّان نهر البارد باستمرار.
نفهم أن الجيش اللبناني يحتاج إلى رفع معنويّاته بسبب التخاذل التاريخي بوجه العدوان الإسرائيلي المتكرّر على لبنان، وبسبب قدرة ميليشيات مسلّحة على منافسة الجيش في عقر داره. لكن أفضل وأوّل طريقة لرفع معنويّات الجيش تكون بوضع خطة جديّة (لا يشرف عليها الماريشال الهزلي للّو المرّ) من أجل مواجهة إسرائيل، ومن أجل استيراد السلاح من أي مصدر مُتاح. وعندما أعلن قائد الجيش هذا الأسبوع بعد اجتماعه بفرديرك هوف أن المعونات العسكريّة الأميركيّة للجيش ستستمرّ، فإن في ذلك إيذاناً بتفاهم ما سرّي ومتين يطمئن الأميركيّين ويضمن عدم استعمال الجيش ضدّ إسرائيل. إذا كان الأمر عكس ذلك، فلتعلن قيادة الجيش أساس التفاهم الذي أدّى إلى استمرار «العون» العسكري الأميركي.

مطلوب لجنة تحقيق في كيفيّة انتقال عصابة مسلّحة من عين الحلوة إلى البارد


فيلم «نار البارد» إهانة لذكاء المشاهد وإهانة لضحايا المخيّم الذين واللواتي لم ينتموا لعصابة فتح الإسلام. ما معنى أن تزهو مديريّة التوجيه بحجم الصواريخ التي كانت تُرمى من الطوّافات فوق المخيّم؟ هل يدرك المتحدّث مدى عدم دقّة الإصابة في هذا الاستعمال المُستحدَث؟ وما معنى أن يقول المتحدّث إن خبراء «عالميّين» أبدوا إعجاباً بقدرات الجيش؟ ألا يتوقّف هذا الهوس اللبناني البائس بطلب شهادات وجوائز لا وجود لها عند الرجل الأبيض من أجل رفع المعنويّات الوطنيّة؟ ثم، ألم يكن مشهد تصوير قارورة غاز كنموذج عن الأسلحة الخطيرة في المخيّم مضحكاً (أو مُبكياً)؟
أنا زرت نهر البارد في تمّوز وسمعت شهادة الناجين والناجيات. أبرز الذين تحدثت إليهم كانوا من اليسار العلماني قبل أن يُتهموا بدعم الأصوليّة. إذلال أهل المخيّم يبدأ على حواجز الجيش حيث شاهدت أكبر نقطة عسكريّة في كل تجوالي في لبنان من الشمال إلى الجنوب هذا الصيف. هل اختلط الأمر على الدولة بين الشمال والجنوب؟ ثم إن المنازل المُعلّبة (وهي أشبه بعلب في الحقيقة) تعامل السكان مثل الحيوانات، والحرّ يصل إلى درجة أن الناس تبيت بين المنازل وفي العراء. والناس في البارد لم يسكتوا على الضيم: قصص معاناتهم تُروى وتنتشر في أوساط الشعب الفلسطيني. ومعرض الصور في المخيّم يختصر القصّة.
القول إن تدمير البارد تمّ بقرار سياسي هو صحيح، لكن الجيش بقيادته وعناصره يتحمّلون مسؤوليّة ما جرى أيضاً، وخصوصاً أن أهل البارد تعرّضوا لممارسات من الإذلال والضرب، كما أن المنازل تعرّضت للسرقة وهناك صور كثيرة عن شعارات بذيئة ومهينة كتبها البعض على جدران المنازل. ويتساءل أهل المخيّم عن السبب الذي دفع بالجيش إلى تدمير المخيّم بعد انتهاء القتال رغم الكثير من المنازل كان لا يزال صالحاً للسكن. كان القرار السياسي (المحلّي والإقليمي والدولي) متخذاً، ولم يُقبل أي جدال فيه. طبعاً، يمكن أن نزيد الكثير عن الوعود الكاذبة والمواعيد الخياليّة التي أطلقها السنيورة، لكن الحديث يقتصر على دور الجيش هنا. مَن حاسب ومَن ساءل هؤلاء الجنود الذي أهانوا ضحايا نهر البارد؟ ولماذا سارعت الثقافة اللبنانيّة إلى تبنّي تدمير البارد واعتنقت النظرة الصهيونيّة باعتبار كل فلسطيني إرهابياً (قال ريمون جبارة ذلك جهاراً في ملحق «النهار» الذي يعمل على أساس أن حقوق الإنسان تتعرّض للخرق في دولة عربيّة واحدة، ثم عاد ونسي خرق الحقوق في تلك الدولة عندما زار الشيخ سعد سوريا، إنها المبدئيّة يا ناس، يا هوه).
نار البارد لم تُخمد والجراح لم تبرد والدموع لم تجفّ. ومجد الجيش ليس في البارد، وليس في أي مخيّم فلسطيني. وجهة السعي نحو المجد هي جنوبيّة. إلى الجنوب در.
* أستاذ العلوم السياسيّة
في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)