تهيمن تيمات محدّدة عند تناول العراق اليوم في الفضاء الإعلامي العربي عبر النسج البلاغي حول تعابير مثل «العملية السياسية في العراق» أو «إعادة إعمار العراق» أو «بناء الديموقراطية» من جهة، وكبت كل تحليل كولونيالي للوضع في العراق من جهةٍ أخرى. فقلّما نرى اليوم كلمات مثل «الإمبريالية الأميركية» أو «الاستعمار الأميركي الجديد» أو «المقاومة العراقية» في كتابات المثقفين العرب بالذات. يشير هذا الواقع إلى أنّ كثيراً من النخب العربية ـ معظمها يساري مرتد ـ تخلّت عن الأساس المادي في دراسة المظهر الإمبريالي الأميركي المتغلغل في المنطقة العربية، ليجري استعمار عقولها بالخطاب الإيديولوجي المهيمن عن نشر قيم الديموقراطية وحقوق الإنسان والسوق الحرّة
خليل عيسى*
اختفت على ما يبدو، أيّ حاجة إلى تحليل ينطلق من أسس مادية محدّدة كالموارد النفطية في العراق، وتوحّد مصالح الشركات الأميركية الكوربوراتية Corporation مع المصالح السياسية لإمبراطورية الولايات المتحدة الأميركية هناك، واستُبدل بلغوٍ مثالي مجرّدٍ عن الحرية والديموقراطية. يتزامن هذا مع ما يُكتب ويُقال اليوم عن «انسحاب» أميركي مزعوم من العراق يتعارض مع ما يجري حقاً على الأرض. يكشف ذلك عدم قدرة العديد من المثقفين العرب على مقاربة الواقع الذي تعيشه المنطقة بتحوّلهم إلى لغةٍ هي أقرب الى التمتمات السحرية الملغّزة منها إلى أيّة مقاربةٍ ماديّةٍ وتاريخيةٍ للأمور. فلنبدأ بهذيان الواقع العراقي من أجل أن ننتهي بهذيان المثقفين العرب...

إيديولوجيا الاستثنائية الأميركية وإيديولوجيا الاستثنائية «العراقية»

إنّ نخب الإمبراطورية الأميركية كانت دائماً وما زالت تتفاخر بما يُعرف «بالاستثنائية الأميركية»، أي استئثار الولايات المتحدة الأميركية بمنابع القيم الديموقراطية الحقّة وحقوق الإنسان. يخبرنا المؤرّخ الأميركي مايكل اغناتييف في كتابه «الاستثنائية الأميركية وحقوق الإنسان» (2003)، كيف أنّ هذه الاستثنائية تتضمّن إعطاء الولايات المتحدة الأميركية لنفسها الحق في نشر تلك القيم وتحقيق مهمتها الإعدادية في العالم بالقوة للتمويه الإيديولوجي لممارساتها الاستعمارية. لكنّ المقاومة الشعبية المسلّحة كانت ولا تزال الجواب الوحيد للاحتلال الإمبريالي العسكري المباشر في كلّ

بعض المثقّفين العرب لا يريدون أن يروا في حالة العراق أو أفغانستان استعماراً مباشراً
أنحاء العالم وفي كلّ الأزمنة سواء كان ذلك في العراق، أفغانستان أو هاييتي. إلا أنّ بعض المثقّفين العرب لا يريدون أن يروا في حالة العراق أو أفغانستان استعماراً مباشراً، حتّى بات يمكننا الكلام عن مصطلح «الاستثنائية العراقية»، حيث الوجود الأميركي في العراق استثناءٌ في التاريخ، لا يندرج تحت مسمّيات الاستعمار، بل هو صدفة تاريخية لا تلبث بعدها القوات العسكرية الأميركية أن تنسحب مخلّفةً وراءها مخلوقاً هجيناً اسمه العراق «الجديد»، الذي لا جديد فيه إلّا كلمة جديد. إنّ هذه الاستثنائية العراقية هي في واقع الأمر تقبّل ضمنيّ لاستثنائية الولايات المتحدة الأميركية واستنتاج ضمنيّ لكلّ مسبّقاتها: إذا كانت الولايات المتحدة الأميركية لا ترى نفسها مستعمِرةً للعراق ـــــ أو أيّ مكان آخر ـــــ فإنّ رفض اعتبار الوجود الأميركي في العراق استعماراً مع كلّ ما يترتب على ذلك من مواقف، يعني ببساطة انتصاراً آخر للإمبراطورية على المستوى الإيديولوجي.
«الفجر الجديد» الأميركي في العراق
في محاولةٍ لفهم ما يحصل في المشهد العراقي الملتبس بعد الانتهاء من عملية «العراق الجديد» وبدء عملية «الفجر الجديد» كما سمّاها الأميركيون، نتفحّص الوضع العراقي الاجتماعي والاقتصادي بالأرقام في ضوء هذا «الفجر» من دون أيّة مسبّقات فكرية. نحن نتكلم عن بلد يحتوي وحده على أكبر مخزون نفطي في العالم يقدّر بحوالى 500 مليار برميل، بينما الكميّة المكتشفة حتى اليوم هي 115 مليار برميل فقط تعطيه المرتبة الثالثة في العالم. لكن الحقيقة هي أنّ نصف السكان لا يزالون يقفون في طوابير طويلة كلّ يوم للحصول على حاجتهم من المحروقات (كاز وبنزين). يقع عراق اليوم تحت السيطرة العسكرية المباشرة للإمبراطورية، فهي لديها أكثر من 50000 عسكري أميركي رسمي ـــــ بعد الخفض الجزئي لأعداد القوات وإعادة تموضعها ـــــ و100000عسكريّ آخر وهم مرتزقة من مختلف دول العالم «الثالث». ينسى كثير من «المثقفين» العرب ـــــ الذين يبرّرون الاستعمار الأميركي بحجة التخلّص من الديكتاتورية السابقة ـــــ أنّ الشعب العراقي قدّم جرّاء الوجود الأميركي منذ 2003 حتى اليوم أكثر من مليوني ضحية، خمسة ملايين جريح، مليون أرملة، 4 ملايين لاجئ خارج العراق، 2.8 مليون مهجّر داخل العراق، سبعة ملايين عراقي تحت خط الفقر (2.2 $ في اليوم) أي ما يعادل مجموعه ثلث السكّان من أصل 28 مليوناً. كل ذلك بينما نصف الشباب العراقي يتمنّى الهجرة ونصف الشعب لا يحظى بالأمان. خلال شهر رمضان هذا مثلاً، وصل سعر قالب الثلج الذي يزن 10 كيلوغرامات، والذي يكفي عائلة من 3 أشخاص إلى 10000 دينار عراقي (8.5 $) من أجل التنعّم بمياه باردة في حرٍّ تخطّت فيه الحرارة الـ50 درجة مئوية خلال النهار. أما الوضع المعيشي اليومي، فمريع للغاية، إذ يصل تقنين الكهرباء في بغداد إلى ساعتين في اليوم، والمياه النظيفة تتوافر لنصف العراقيين فقط، فيما يحصل 30% فقط من العراقيين على الخدمات الصحية الأساسية. القطاع الصحّي منهارٌ أصلاً مع مغادرة 20000 من أصل 34000 طبيب العراق نهائيّاً منذ عام 2003 حتى هذا الشهر. وتعاني المستشفيات العراقية قلّة الموارد البشرية وانعدام التمويل والغلاء الفاحش للأدوية. كما عانت بغداد انقطاع المياه النظيفة خلال هذا الشهر بسبب الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي. لقد جرى أيضاً العبث بالمقدّرات الزراعية لبلاد ما بين النهرين، حيث مُنعت الزراعة باستخدام البذور الطبيعية التي يخزّنها الفلّاحون العراقيون من سنة إلى سنة، وفُرض شراء حبوب وبذار معدّلة جينياً يشترونها كلّ سنة من كوربوريتيّات مثل Monsanto وCargo Hill مما أفسد إلى درجة غير معروفة حتى اليوم مخزون البذار الزراعي الأصلي.
خلال العام الماضي فقط قُتل 4068 شخصاً بينما جُرح 15935 شخصاً ـــــ على الأقلّ ـــــ كما أنه يوجد في هذه اللحظة حوالى 300000 في السجون العراقية ـــــ العلنية منها ـــــ أوقفت قوات الاحتلال أكثريتهم توقيفاً اعتباطياً تحت عنوان «إرهابيّون» ينتظرون المحاكمة، وذلك تبعاً لأرقام وزارة الداخلية العراقية المثيرة للتساؤلات على كلّ حال. لقد اُعدم منذ منتصف عام 2005 حتى اليوم حسب أرقام المفوضية العامة لحقوق الإنسان أكثر من 12000 شخص في العراق، مما يعني أنّ الوضع أشبه بالإبادة الجماعية من خلال السجون العراقية العلنية والسريّة، التي ينتشر فيها التعذيب أشكالاً وألواناً تحت إدارة وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، كما أنّ هناك أدلّة على وجود فرق موت إسرائيلية في العراق تنفّذ الاغتيالات بحق العلماء العراقيّين. وفي عام 2004 في معركة الفلوجة، حيث واجهت المقاومة العراقية الباسلة قوات الاحتلال، استعمل الاحتلال أسلحة مشبّعة باليورانيوم المنضَّب من رصاص وقذائف، وقد أُثبت ذلك في دراسة أنجزها ملك حمدان وجريس بوسبي، ونُشرت في المجلة الدولية للدراسات البيئية والصحة العامة (بازل ـــــ سويسرا) ومفادها أنّ «زيادة السرطانيات ونسبة وفيات الرضّع أكثر إضراراً من الإصابات التي أُعلنت للناجين في هيروشيما وناغازاكي عام 1945، إذ تضاعفت جميع أشكال السرطان من 2005 حتى 2009 أربع مرات». ولا تزال الولادات المشوّهة اليومية لسكّان المدينة تشهد على جرائم الأميركيين.

قتل النخبة ومحو الذاكرة


هناك قتلٌ مُدَبَّرٌ ومنهجيٌّ للنخبة العلمية العراقية لتدمير أي نخبة مقاوِمة للاحتلال، فقد قُتل أكثر من 500 عالم عراقي حتى اليوم، 80% منهم اغتيلوا في الجامعات العراقية وأكثر من نصفهم لديه لقب أستاذ ـــــ بروفسّور أو أستاذ مساعد. أما بالنسبة إلى التحصيل العلميّ، فمن أصل 3.5 ملايين تلميذ عراقي هناك فقط 30% يتمكّنون من متابعة الدراسة اليوم بطريقة منتظمة بسبب الأحداث الأمنية اليومية من خطف وقتل على الهوية وتفجيرات. وتقع تصفية النخبة العراقية في سيناريو مستعاد من تقنيات تصفية ومحاربة الناشطين اليساريين والمعارضين في ديكتاتوريات أميركا اللاتينية. وقد سمّت وكالة الاستخبارات الأميركية ذلك حينها تقنية «محاربة المتمرّدين» counterinsurgency عبر استعمال فرق الموت والاغتيالات وترويع المدنيين في بلدان مثل نيكاراغوا، تركيا، مصر وكينيا. فقد شنّت على سبيل المثال فرقة Duarte شبه العسكرية Paramilitary Group عام 1980 في السلفادور، هجوماً على الجامعة الوطنية في مدينة سان سلفادور ودمّرتها وأحرقت مئة ألف كتاب كما قتلت 30 أستاذاً هناك. ثمة أيضاً محوٌ ممنهجٌ للذاكرة التاريخية والوطنية العراقية Memocide عبر التدمير والنهب. إنّه جانب آخر من الاستعمار الأميركي مشابه لما حدث للسكان الأصليّين في أميركا الشمالية، بدءاً بنهب متحف بغداد، الذي كان يعدّ من أفضل 4 متاحف في العالم، ومكتباتها تحت أنظار العالم. وقد صرّحت باربرا بودين،السفيرة الأميركية حينها، أنّ أوامر محددة من واشنطن قضت بمنع أي إعاقة لعملية النهب. كما تستخدم القوات المحتلّة المواقع الأثرية العراقية مراكز لدباباتها و عتادها مثل مدن أور وبابل وسامراء، وهذا يعدّ تشويهاً لبعضٍ من الآثار الإنسانية المهمّة. ولا يزال هناك 15 ألف قطعة أثرية هُرّبت من العراق لم تُستعَد بعد. وتستمرّ محاولة محو الذاكرة إلى اليوم، إذ دُمّر منزل الأديب العراقي الراحل جبرا إبراهيم جبرا في بغداد في حزيران من هذه السنة.

عراق الكليبتوقراطيّة الطائفيّة ــ العرقيّة

الاستعمار الأميركي في العراق ليس استعماراً «عادياً» إذا ما قورنَ بالحملات الاستعمارية خلال المئة عام السابقة، بل هو نتاج تعلّم الإمبراطورية الأميركية من الدروس الاستعمارية السابقة والتتويج العملي لها: تجريف المجتمعات بشرياً وحضارياً لإعادة تكوينها على قواعد طائفية عشائرية وعرقية وكسر أية محاولة لتكوّن هوية وطنية عراقية جامعة؛ خلق دورة مستقلّة من القتل والقتل المضاد لا تنتهي على أسسٍ من صراعات الهويّة؛ نهب الموارد الطبيعية كالنفط، وخصخصة المياه والكهرباء وحتى فرض الحبوب الزراعية المعدّلة وراثياً لتحقيق الربح السريع؛ تغيير المناهج الدراسية واستعمال الأسلحة المشعّة إلى استخدام البنتاغون لعلماء الانثربولوجيا لتطوير المفاهيم الكولونيالية عن ثقافة و مجتمع السكان الأصليين ـــــ العراقيين في هذه الحالة ـــــ لتعزيز السيطرة عليهم. لقد سُلّمت مهمات الأمن السياسي البوليسي و القمعي لزعماء سياسيين وأمنيين يعتمدون الفساد أوّل عمل لهم في «العراق الجديد»، فقد صَنّفت Transparency International العراق هذه السنة ثالث بلد في العالم من حيث درجة استشراء الفساد فيه. لذلك، فإنّ هذا النظام الكليبتوقراطي Kleptocracy (أي الذي يتّسم بالفساد الشديد للنخب الحاكمة) والطائفي ـــــ العرقي بعد سبع سنوات ونصف سنة عجاف من الاحتلال، وبعد وضع الدستور عام 2005 الذي كتبه بروفسّور القانون الدولي في جامعة هارفرد نوح فلدمان، وهو يهودي أرثوذكسي متطّرف واستشاري في مجلس العلاقات الخارجية، يبقى عاجزاً عن الاتفاق بعد 5 أشهر من انتخابات مزوّرة. فمهمة هذا الدستور بالتحديد هي جعل أيّ اتفاق لتأليف الحكومة شبه مستحيل بدون تدخل خارجي.
لقد استُنسخ الدستور العراقي عن قانون إدارة الدولة، الذي وضعه الأميركيون في عهد المندوب اللاسامي بول بريمر، والذي كان يتدخل ويفرض رأيه على أعضاء مجلس الحكم الذي ألفه الاحتلال منتصف تموز 2003، كما جاء في مذكّرات الأخير. ويكمن الخطر في أنّ هذا الدستور يذهب إلى إعطاء الثروات للأكثريات ـــــ الطائفية الآن قانوناً ـــــ حسب الرقعة الجغرافية كما أعطى الحق للأكراد بالانفصال ضمن صيغة فدرالية من خلال حجم الصلاحيات للإقليم وضعف الارتباط بالمركز. آخر تبعات ذلك هو أنّ الحزب الديموقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني رئيس إقليم «كردستان العراق»، قد يطرح في مؤتمره الثالث عشر المزمع عقده نهاية العام الحالي شعار «حق تقرير المصير» ليصبح شعار عمله السيّاسي بدل الفدرالية. إلّا أنّه بينما تُهدّم أسس المجتمع العراقي، فإنّ الكوربوريتيات الأميركية هي التي تقوم بالنهب المنظّم فيما نحن نحاول حلّ ألغاز «العملية السياسية» في العراق.

البلوتوقراطية والكوربوريتيات الأميركية

ترى الباحثة ناومي كلاين في كتابها «عقيدة الصَدْم» (2007) Shock Doctrine، أنّ الاحتلال الأميركي للعراق هو تعبير عن شكلٍ أكثر وحشية من أشكال النيوليبرالية الحالية واسمه «رأسمالية الكوارث». يقوم هذا الطور الرأسمالي على استعمال التدخل العسكري المدمِّر باجتياح بلد أو الاستفادة من كارثة طبيعية في مكان ما لـ«تنظيف» كلّ شيء موجود وجعل الأمور جاهزة لنهب الكوربوريتيّات الأميركية. هذا ما حصل بالتحديد في العراق بعد دخول القوات الأميركية، فقد وُضع عام 2004 بنك التجارة العراقي تحت سيطرة J.P Morgan ليجري رهن أموال الصادرات النفطية مستقبلاً مقابل كلّ العقود التي أُبرمت مع الشركات الناهبة الأميركية لإعادة «إعمار العراق». وأُوقف في الوقت نفسه أيّ دعمٍ أو تحويل أموال لمرافق القطاع العام العراقي، البالغ عددها مئتي مرفق، والتي كانت تؤمن الحياة اليومية للعراقيّين وتُدفع من خلال العائدات النفطية. لقد حصلت الكربوريتيات الأميركية على عقود هائلة هي بمثابة النهب الصريح للموارد النفطية العراقية مثل هاليبورتن ( 17.3 مليار دولار) وDyne Corp (1.44 مليار دولار) و Washington Group International (931 مليون دولار) بين عقود أخرى. وللتوكيد على ذلك، فإنّ لبريمر جهداً قانونياً في الموضوع تلخّص في ما بات يعرف «بأوامر بريمر المئة»، التي جرى التعتيم عليها في الإعلام العربي ـــــ قناة الجزيرة مثلاً لم تعد تذكر أيّاً من ذلك بوضوح ـــــ والتي أصدرها بين أيّار 2003 وحزيران 2004 لعدم العراقيين للاتفاقيات الموقّعة بحجة وقوعها تحت الاحتلال. الأمر 39 مثلاً (صدر في 20 كانون الأوّل/ ديسمبر 2003) ينصّ على: 1. خصخصة المرافق العامة المئتين في العراق؛ 2. إمكان الملكية الكاملة للشركات الأجنبية في العراق؛ 3. إلغاء أيّ أفضلية للشركات العراقية المحلية على الشركات والمقاولين الأجانب؛ 4. لا ضرائب على أرباح الشركات الأجنبية تدفع إلى الحكومة العراقية؛ 5. إصدار سندات ملكية لأربعين سنة حتى 2042 (لكّل الشركات الأجنبية العاملة في العراق).
أما الأمر 17 (صدر في 27 حزيران 2004)، فإنّه يعفي الشركات والمقاولين الأجانب من أيّة مساءلة أمام القانون العراقي، ونقرأ في الأمر المذكور «حتى لو أنّهم (أيّ الطرف الأجنبي) قتلوا شخصاً أو تسببوا بكارثة بيئية، فإنّ الطرف المتضرر لا يستطيع اللجوء إلى النظام القضائي العراقي، بل يمكنه اللجوء إلى المحاكم الأميركية فقط». إنّ الحدود بين القطاعين العام والخاص في البلوتوقراطية الأميركية تلاشت منذ زمن. ومثال على ذلك زلماي خليل زاده، السفير السابق للولايات المتحدة في العراق، الذي يعود اليوم عضواً في مجلس إدارة شركة DNO التي تنقّب عن النفط في كردستان، ويملك شركة استشارية Khalilzad Associates تقدم خدماتها إلى مستثمرين مهتمين بالعراق. لا تزال أوامر بريمر سارية حتى اليوم، وهذا النوع المدمّر من الاستعمار لا يمكن أن يبني عراقاً جديداً، بل على العكس فإنّ كلّ ما يريد فعله هو المحافظة على أرباح هاليبورتون وبكتيل Bechtel وكارلايل Carlyle عبر أسوأ أنواع القمع الميليشيوي الممكن.

كلّ شيء لأمان الاستعمار

من يزُر بغداد اليوم يصل... إلى فلسطين. هذا ما يقوله الحائط الخرساني الغزّاوي المحيط ببغداد والمزمع الانتهاء منه منتصف عام 2011، أمّا الكتل الخرسانية المستعملة فقد استوردت من الدولة العبرية. يخنق اليوم مدينة الرشيد سورٌ ارتفاعه 4 أمتار ونصف متر ليمتد على طول 112 كيلومتراً حول العاصمة، كما سيكون للمدينة ثمانية مداخل فقط ـــــ خوفاً من الغزاة؟ ـــــ بينما الأسوار الأصغر لا تنتهي، وهي تنتشر اليوم بين الأحياء ذات الأغلبية الشيعية والأغلبية السنّية وبين الأحياء نفسها وما يسمى «المنطقة الخضراء». إنّها عسكرة الفضاء المديني كما أوصت بذلك الدراسات العسكرية الأميركية بشأن تقنيات مكافحة التمرّد. بغداد اليوم مقسّمة إلى 40 قطاعاً طائفياً مع 1500 نقطة تفتيش. في مدينة السلام اليوم، شركات أمنية أميركية تدخل وتخرج من المنطقة الخضراء، وتقتل من تشاء، وهي محميّة من خلال القانون 17 لبريمر. لقد غيّرت أخيراً شركة بلاكووتر اسمها إلى اسم «تشي» Xe للتخلّص من متاعبها القضائية، وعادت لتحصل من البنتاغون على عقد بـ120 مليون دولار في21 حزيران 2010 لتوسيع مهماتها في أفغانستان، كما دفعت لها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية 125 مليون دولار أخرى كمستحقات لتسلّم «مهمات جوية» ـــــ على الأرجح طائرات بلا طيّار ـــــ في العراق. كما تنوي الشركة نقل مكاتبها إلى دولة الإمارات العربية، لأنّ الدولة المذكورة لا تملك اتّفاقية لتسليم المجرمين مع الولايات المتحدة. ويصل عدد موظفيّ 125 شركة أمنية هناك إلى مئة ألف متعاقد تريد هيلاري كلينتون زيادتهم 5000 مرتزقة جدد، منهم ميليشيويون لبنانيون سابقون، قادة فرق موت تشيليون حصلوا على خبرتهم الثمينة خلال حكم بينوشيه وضبّاط فرق خاصة من نتاج فترة حكم الأبارتهايد الجنوب أفريقي. نفهم تماماً عبثية معنى كلمة الانسحاب الجزئي من العراق Drawdown عندما نعرف أنّ الخمسين ألفاً من الجنود الأميركيين الباقين سيتوزّعون على 96 قلعة عسكرية في العراق لـ«تدريب ومساندة القوات العراقية» المبنية على أسس طائفية وإثنية، يبلغ عددها 700000 جندي اليوم ـــــ نصف مليون هم من الشرطة ـــــ من شبّان ضاق بهم العيش في ظلّ نسبة بطالة تبلغ %60. أما السفارة الأميركية التي تُبنى في بغداد، فهي في حجم دولة الفاتيكان و مساحتها أكثر من 5000 كيلومتر مربع، أيّ نصف مساحة الجمهورية اللبنانية، ومن المنتظر أن تحوي أكثر من ألف دبلوماسي.

النفط... لعنة العراق!

هو المبتغى والمُراد. إنّه دم السومريّين الأسود. الإمبراطورية تريد السيطرة على احتياطات الطاقة للقرنين المقبلين لإدامة عزّها، وهي لا تتورّع عن فعل أيّ شيء من أجل ذلك. كان الاحتلال من أجل النفط فقط ولا يزال. هذا ما كتبه آلان غرينسبان رئيس الاحتياطي الأميركي السابق في كتابه نهاية عام 2007 «أنا حزين لأن أعترف بما يعرفه الجميع الآن... إنّ الحرب على العراق كانت من أجل النفط». الحرب على العراق لن تنتهي إلّا بتجفيف حقول نفطه أو بنجاح المقاومة العراقية العسكرية بتأميم النفط من جديد. أوّل مثال على ذلك كان قانون الهيدركاربون الجديد، الذي حاولت الإدارة الأميركية إمراره في مسودّة أولى كتبتها شركات متمركزة في هيوستن في الولايات المتحدة في شباط 2007 ولم تناقشه مع العراقيين، وقد جرى ذلك من خلال البنك الدولي، الذي ربط المساعدات وتخفيف الديون بإمرار القانون المذكور في مجلس النواب. نصّ القانون على أنّ هناك 27 من أصل 78 حقل بترول سيبقى تحت سيطرة الشركة الوطنية العراقية، وأنّ للشركات الأجنبية أن تسيطر على الحقول الأخرى لمدّة قد تصل الى 25 سنة وعلى أيّة احتياطات نفطية جديدة قد تُكتشف. تُعدّ هذه هرطقة قانونية لا مثيل لها في عالم الاتفاقيات النفطية لكنّها... هرطقة مدّرة لأموال البعض، فاستخراج النفط العراقي هو الأقلّ الكلفة في العالم (دولاران للبرميل المُستخرج) ما يعني أنّه النفط الأكثر ربحية في العالم. أما التوزيع العادل للعائدات النفطية، فيجري بعد أن يأخذ المتعاقدون حصتهم. لكن سرعان ما ظهرت للعلن خلافات جوهرية بين حكومة المالكي والمسؤولين الأكراد، إضافةً إلى الأصوات المعارضة لخبراء النفط العراقيين ونقابات النفط وعدد من الكتل السياسية والمنظمات الشعبية. أمّا المسودة الثانية التي أخرجها مجلس الشورى مع بعض التعديلات الطفيفة في حزيران 2007، فيرفض وزير النفط العراقي حسين الدين الشهرستاني من كتلة «دولة القانون» إحالتها على مجلس النواب لمناقشتها حتى الآن، ولا أحد بالتحديد يعرف على ماذا تنص المسودّة الجديدة لقانون النفط والغاز العراقي. كلّ ذلك بينما يظلّ عدم تشغيل العدّادات على المنشآت البحرية والبرية أمراً مقصوداً من جانب الاحتلال والأجهزة العراقية بدءاً من آبار النفط إلى المستودعات والمصافي وأنابيب النقل وموانئ التصدير، إذ فُقد (أو نُهب) 125 مليون برميل عامي 2006 و2007 (6.6 مليارات دولار) فقط. إلّا أنّ الوزير الشهرستاني الذي يقيس طموحه على قدر طموح شركات النفط العالمية، يريد الوصول الى إنتاجية 12.5 مليون برميل يومياً عام 2017 ـــــ وبالمناسبة لا تنتج السعودية أكبر مصدّر للنفط في العالم أكثر من 8 ملايين برميل في اليوم ـــــ وهو أعطى عقوداً بقيمة 100 مليار دولار يأخذ منها العراقيون النزر اليسير من الأرباح. وتحصل الحكومة العراقية، التي تعاني عجزاً في الموازنة هذا العام قدره 19.5 ملياراً من أصل 72.3 مليار دولار، على 30% من الأرباح فقط في عقدها مع شركتي شل الأنغلوهولندية، وبتروناس الماليزية. ولزيادة سعة الإنتاج على هذا المدى الطويل وإدامته (أي كلفة تطويره)، حسب محمد علي الزيني، وهو خبير و استشاري في شؤون النفط والغاز، وعمل في وزارة النفط العراقية، تبعات كارثية، إذ إنّه «خلال 25 عاماً من الزمن يمكن «شفط» كل ما لدى العراق من نفط مكتشف، وخصوصاً إذا علمنا أنّ الشركات اختارت حدوداً مبالغاً فيها بالنسبة إلى مستوى الذروة الأفقي للإنتاج أو هضبة الإنتاج (المستقبل العربي، تموز 2010). أمّا حسابياً وعلى أساس إنتاجية 6 ملايين برميل يومياً (فقط) في عام 2030، فإنّ كلفة إدامة الإنتاج والتطوير تعني خسائر هائلة للشعب العراقي قدرها 75 مليار دولار. وفي بلاد شريعة حمورابي اليوم، فإنّ القضاء أيضاً أصبح في خدمة مصّاصي الدم الأسود، بعدما خسرت نائبة عراقية تدعى شذا موسوي دعوى رفعتها في لا قانونية العقد النفطي الذي عقدته الحكومة العراقية مع شركتي British Petroleum والكوربوريتية الصينية الوطنية النفطية لرفع الإنتاج في حقل الرميلة إلى 2.85 مليون برميل يومياً. إلّا أنّ النائبة موسوي تلقّت تهديدات بالقتل وفقدت محاميها ثم حُكم عليها بأن تدفع ـــــ ولم تستطع ذلك بالطبع ـــــ 275 ألف دولار كلفة جلب الخبراء الحياديين من الخارج! هذا ما يحدث في العراق الحرّ الجديد عندما تقاوم إرادة الإمبراطورية.

صدمة «المثقّفين» العرب... والدعاية للإمبراطوريّة

يرصد البنتاغون ملايين الدولارات سنوياً منذ أعوام من أجل الحملة الإعلامية «لإفهام وجهة نظر أميركا وأصدقائها»، التي تقوم على مدماكين: أولاً، كلّ العمليات العسكرية في العراق هي إرهابية ومن فعل «القاعدة». ثانياً، التركيز على ما يسمى «العملية السياسية» في العراق. أوّل مدماك يريد مسخ المقاومة العراقية، والثاني يريد أن يجعلنا نصدّق أنّ العراق أصبح بلداً سيادياً فيه عملية سياسية «طبيعية» مثل كل البلدان، أيّ من دون وجود للاحتلال خلافاً لكل الأرقام التي ذُكرت. فالاحتلال في العراق «وجود أميركي عسكري»، كما أنّ كل التقارير تؤكّد أنّ أيّ عملية هي دائماً من فعل «القاعدة" ـــــ وهنا كل من يشكك هو بالتالي «قاعدي الهوى» ـــــ وهذه التقارير تصدر عن إعلام أميركي محتل أو عراقي طائفي يجري التعامل معه على أنّه كلام مُنزَل. هذا لا ينفي بالطبع وجود فرق قتل ومتطرفين وميليشيات طائفية في العراق، لكن ماذا نعرف عمّا يحدث هناك غير ما يُخبرنا الأميركيون به؟ و لمَ لا تجري مقارنة ما يحدث في العراق بما حدث في أميركا اللاتينية، ومقارنة تشويه سمعة المقاومة العراقية بما فعله الاستعمار الفرنسي مع جبهة التحرير الوطنية الجزائرية؟
فنحن نرى دائماً على قناة الجزيرة «الخبراء» أنفسهم في الشأن العراقي يرددون كلمة «انسحاب» بينما يجب التعبير عن الوضع بكلمة «إعادة انتشار» القوّات المحتلّة خارج المدن وتمويه دورها العسكري. كما أنّ الدعايات المحدّدة ضد «الإرهاب في العراق الجديد» تنتشر على العديد من القنوات العربية (ANB، البغدادية، السومرية...). هناك الى جانب تلك الحملة الإيديولوجية المتوقعة أمر آخر يجب التدليل عليه. ليس كلّ من كتب ضد المقاومة العراقية يدَفع له الأميركيّون بالضرورة، فهناك بعض المثقفين العرب من العاجزين عن دراسة الواقع العراقي المادي، كما هو، مفضّلين التحليق في تهويمات فارغة عن الديموقراطية و«ثقافة الموت العربية» بما يرضي نرجسيتهم ويعطيهم منزلة تغيير التاريخ عبر كتابة المقالات في الجرائد. حازم صاغية في جريدة «الحياة» لا يتوقف مثلاً عن «هجاء السلاح والمقاومات»، حتى إنّه في مقالٍ مشهود في تاريخ 21 حزيران 2007 أظهر جهداً خاصاً ـــــ لكن غير مقنع بالمرّة ـــــ في تحليل نفسي لمنظّر المقاومة ضد الاستعمار فرانز فانون إذ كتب: «ربّما كان فرانز فانون أكبر العاملين على تحويل المعادلة النسبيّة الى وصفة إطلاقيّة تصير معها المقاومة بذاتها هي الهدف... وهنا تتسابق العدميّة مع وظيفيّة لا تستطيع القداسة المزعومة في المقاومات أن تسترها، أو أن تحجبها». بالطبع فالعراق ليس فقط استثناءً في تاريخ الاستعمار رغم كل ما نعرفه من أحداثٍ تاريخيّة وأخرى تحدث اليوم، إنّما فكرة المقاومة بحدّ ذاتها عدمية! أما محمد أبو رمان («الحياة»، 28 أغسطس 2010)، فيأخذنا في تحليلٍ «لمسارات القاعدة في العراق» إلى حيث المنطق الطائفي هو المهيمن ـــــ كما يريد

بغداد اليوم مقسّمة 40 قطاعاً طائفياً مع 1500 نقطة تفتيش
الاستعمار تماماً تصوير الشعوب المُستعمرة بدون أي هوية وطنية جامعة ـــــ فالقاعدة موجودة «في كنف السنّة العراقيين... وغياب المقاومة السنية ذات الطابع السياسي، التي تتحدّث باسم السنة جعله بعد الانسحاب... في تقاطع المصالح بين القاعدة وإيران في تمديد مرحلة الفوضى السياسية واستعادة الفوضى الأمنية، وبالعودة إلى مربع الفتنة الأهلية». كذلك نرى تحليلات همايونية من دون أيّ سند مادي، عند شيوعي مثل سعد الله مزرعاني من المفترض أن تجعله شيوعيته تلميذاً للتاريخ، إلّا أنّه يبدو أنّه «يقبض» خبريّتَي «القاعدة» و«الانسحاب» مباشرة من صحافيي الإعلام الكوربوريتي الأميركي المزروعين Embedded Journalists مثل «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«فوكس نيوز» حيث في العراق «محتل يسحب قواته متعثّرًا ومهزومًا، ودون أن يتمكّن من تحقيق أهدافه المباشرة وغير المباشرة» («الأخبار»، 27 تموز 2010). أما رستم محمود في عدد تمّوز 2010 من النسخة العربية
لـ«الموند ديبلوماتيك»، فيكتب عن كردستان العراق «بلاد الوفرة والفشل والديموقراطية والانقسام» بدون أيّ ذكر حتى لكلمة «احتلال» في مقاله الكبير. تبدأ المقالات التي تحتفل بالانسحاب بالتوالد من قلب الإمبراطورية حتى الأطراف، ونسهم نحن في زيادة أعدادها أكثر فأكثر. حقاً ما أقوى سحر الكاوبوي!
كلّ هذا يشير إلى شيء محدّد وهو أنّ الكثير من المثقفين الذين تبنّوا كذبة الانسحاب أخيراً، لا يزالون تحت أثر «الصدمة والترويع» الأميركي الإيديولوجي. هم لا يقرأون غير المصادر الأميركية ويكرّرونها مع تحليلات مبسّطة بلاغية تسترجع في جوهرها منطق الإمبراطورية المستعمِرة التي تفعل كلّ شيء لتدمير العراق ونهبه ومسحه تاريخيّاً، اقتصادياً واجتماعياً. هذا ما فعله الاستعمار دوماً، والعراق حتماً ليس باستثناء. ولمن يتقن السمع الى الأميركيين، فإنّ اديرنو قائد قوات الاحتلال أوضح بحزم أنّ «سحب هذا العدد من القوات لا يعني أنها لن تعود مرة أخرى» إلى بلاد الرافدين. فلننظر إلى ما تفعله الإمبريالية الأميركية ثم نستنتج، لا أن ننطلق من أمانينا وأوهامنا ونسقطها عشوائياً على الواقع.
يبدو أنّ هذا لا يزال صعباً على البعض!
* باحث لبناني


ملاحظة: اعتمدت ترجمة Corporation إلى «كوربوراتية» تمييزاً لها عن Company، أي «شركة». إنّ الكوربوراتية هي تجمّع لعدد كبير من الشركات في جسم قانوني أعطيت له صفة الشخص الفرد في القانون الفدرالي الأميركي، وبالتالي خلافاً لصاحب الشركة الذي يمكن محاكمته لقيام شركته بأعمال لاقانونية، لا يمكن تعيين مسؤول قانونيّ عن «تصرّفات» الكوربوراتية لأنّ صفتها القانونية لا يمكن تحديدها بشخص معيّن موجود في الحقيقة.