محمد بنعزيز*بينما تنازع الحكومة المغربية في مؤشرات كونية لقياس الفقر، لأن تلك المؤشرات لا تسمح بترتيب مشرّف للبلد، يخلّد هذا المقال حدثاً جللاً وقع في المغرب، حدث يستحق أن يقام لتخليده نصب عجل رخامي... لقد وصل ثمن كيلو اللحم إلى عشرة دولارات قبل حلول رمضان 2010.
كنت أتمشى لوقت طويل في شارع مكتظ. على واجهة المحال التجارية خفوضات لكل السلع، إلا الأكل. يرتفع ثمنه باستمرار سنوياً. وهذا يجعل مهمة كل رب أسرة معقدة. عليه أن يقلّص نفقات عديدة لينجح في إطعام نفسه وذويه. من فرط الغلاء صار توفير الأكل نجاحاً باهراً. وهذا سقف حلم صار مرهقاً على حساب التعليم والتثقيف.
يتضاعف سعر البندورة فجأة أربع مرات. يشكو الناس. ينخفض الثمن إلى النصف فيحمدون الله. هكذا أفضل. زاد الثمن 100%. والحكومة تزيد الأجور بـ2%.
فكيف حال من لا أجور لهم؟
في المغرب ستة ملايين شخص تحت عتبة الفقر، يكسبون دولاراً في اليوم، أي ثمن 100 غرام من اللحم. عندما سيشتري الفقير هذه الكمية، كيف يأكلها؟ نيّئة، لأنّ طبخها سيضاعف ثمنها. لا خيار لديه آخر غير خيار جحا الذي كان من فرط فقره يعرّض خبزه اليابس لدخان الشواء لأنه لم يكن يشتري اللحم.
في شارع رئيسي لوحة إشهارية إلكترونية تتناوب عليها عدة صور كل 20 ثانية. علقت في ذهني صورتان:
في الصورة الأولى، طفلة تحمل جدياً وخلفها قطيع ماعز في منطقة جبلية. الطفلة تشكر المتبرّعين على كرمهم، بفضلهم أصبحت تحصل على دخل ثابت... لقد كان هذا إنجازاً في حياتها.
في الصورة الثانية، «عرض من عالم آخر»، هذا هو شعار الصورة الإشهارية، عرض يقدم فيلات جاهزة بمراكش ابتداءً من 300 ألف دولار. في هذا العالم الآخر هدوء وراحة وملاعب غولف ومسابح.
في العالم الأول، يُعدّ الحصول على كأس حليب من معزاة مفخرة... في العالم الثاني، السعر لا حدود له. فعندما سيذهب الزبون لشراء الفيلا سيقال له إن الفيلات الباقية هي ابتداءً من 500 ألف دولار.
يعكس هذان العالمان الفوارق الطبقية الصارخة في المغرب. يمكن أن أقدّم إحصاءات جديدة. مثلاً سترتفع كلفة الأكل، حسب رقم حكومي، 18% في رمضان...
أي إن الفقير لن يشتري حتى 100 غرام من اللحم. لديّ إحساس بأن الإحصاءات، بما أنها أرقام مجردة، تضعف من وقع المأساة على الروح. لنترك الصور والأرقام، ولننظر إلى مكانين:
الأول حي سوق جبالة في مدينة سلا قرب الرباط، حي سكنه مهاجرون فقراء تركوا قراهم بحثاً عن نعيم المدن... استقرّوا في مساكن ضيقة على أرض معوجة... بها أزقة متعرجة تكسوها القمامة وتجري فيها مياه قذرة... روائح وغبار... مساكن ضيقة واكتظاظ رهيب... سوق من خيم بلاستيكية لردع الشمس الحارقة... حمير نحيفة تظهر نتوءات عظامها من تحت جلدها.
الثاني هو طريق زعير... فيه فيلات بملايين الدولارات... سيارات فخمة من آخر طراز تجري بحرية في شارع يزيد عرضه على ثلاثين متراً... وحوله مخابز ماركة مسجلة، أسواق تبيع سيجار هافانا... عيادات تجميل تعتني بشحم الأجساد المرفهة... أغنياء يعانون مرض الضجر يبحثون عن تسلية... بالشراء، بعمليات جراحية تجميلية وبسوق دراجات شارلي دافيدسون بسرعة مهولة في شارع أكبر من حي سوق جبالة
بكامله...
هذان مغربان متباعدان، مُغربان... تفصلهما فوارق طبقية صارخة... وضع يترسّخ. فالأغنياء يزدادون غنى في الأزمات أكثر مما يغتنون في سنوات الخصب... قانون الربح لم تأت به الرأسمالية، فالفقراء أيضاً يحبون الربح... في أحلامهم... ينتظرون ذلك اليوم الذي سيوفرون فيه الأساسيات لينتقلوا إلى استهلاك الكماليات... يطول ذلك الانتظار ويصبح إهانة بسبب المقارنة... بين أناس فوق وأناس تحت.
كيف يمكن الإنسان أن يتصالح مع ذاته في وضع كهذا؟ أن يثور؟
لنستعض عن الثورة ببعض العزاء الديني: إن الله يغني من يشاء ويفقر من يشاء، ولا بأس من العزاء الفلسفي أيضاً. يقول أفلاطون إن المال يجعل الأغنياء بلهاء وسمينين. ويؤكد ميكيافيلي أن الفقر يجعل الناس حاذقين. هذا ما يحبه الفقراء... أن يكونوا حاذقين في خدمة الأغنياء وفي كسب عيشهم. عيش يتعكّر باستمرار.
في جلسة عائلية كثرت الشكاوى من تقلّبات الطقس فتدخلت جدتي لتضع السؤال الصحيح. قالت إن «المشكل» ليس هو ارتفاع درجة الحرارة ولكن هو: هل هناك ما
يُمضغ؟
هذا سؤال لا تطرحه وسائل الإعلام، فهي مهتمة أساساً بلون البورصة، أخضر وأحمر... وقد حظيت أزمة البورصات بتغطية إعلامية ومتابعة سياسية مكثقة... بينما بقيت أزمة المطابخ في الظل... وهي أهم... لأن مضاربي البورصة يحركون مدخراتهم.... أي ما زاد على حاجات عيشهم... أما أزمة المطابخ فهي تمسّ القوت اليومي مباشرة...
بالنظر إلى ثبات الأجور وارتفاع الأسعار، ما عاد الناس يشبعون. صار الأكل أمراً صعباً. في عشر سنوات، تضاعف سعر اللحم في بلد فلاحي... ولا يقف الأمر هنا. فالمغرب يحتل المرتبة العاشرة عالمياً في استيراد القمح، بينما تحتل مصر، التي كانت سلة قمح الإمبراطورية الرومانية، المرتبة الأولى باستيرادها 9.3 ملايين طن سنوياً....
مع حرائق روسيا وفيضانات باكستان، ستقفز أسعار الحبوب... وسيزداد استيراد اللحم الهندي... لن تنفع فتاوى تحريم لحم البقر المقدس لأنه لم ينحر بيد أهل الكتاب... وهو لحم مثلج فقد نكهته...

ستة ملايين شخص تحت عتبة الفقر يكسبون دولاراً في اليوم

في المغرب، تعرض الأسواق الممتازة اللحم في ثلاجات زجاجية. لكن في الأحياء الشعبية يعلّق الجزارون قطع اللحم في واجهات محالهم... مع الحرارة الشديدة يتغيّر لون اللحم... يميل إلى الزرقة.
اشتريت لحماً للسحور، وحين طبخته وأكلته قضيت النهار كله في غثيان... كان اللحم على وشك أن يفسد. لم أملك الإرادة والوقت لأقصد الجزار لأحتجّ. لست مثل بحارة «البارجة بوتمكين»، للروسي سيرجي إيزنشتاين، وفيه رفض البحارة تناول اللحم الفاسد، بينما طبيب البحرية يفحص ذيل الثور المتعفّن بنظارته، ولا يرى الدود الذي يراه البحارة بالعين المجردة.
لإثبات سلطته، أمر الأدميرال بطبخ اللحم في حساء وأصرّ على أن يتناوله البحارة... رفضوا، فاندلع تمرّد على البارجة... قتل المحرّض على التمرد ونقل إلى مدينة أوديسا على البحر الأسود وعلى بطنه ورقة كتب عليها «من أجل ملعقة حساء»... هكذا انتقل التمرّد من البحر إلى البر الروسي...
جرى ذلك فعلاً في 1905 وحوّله إيزنشتاين بطلب من القيادة السوفياتية إلى فيلم عام 1925... فيلم طبع تاريخ السينما وبصم تاريخ التحريض السياسي معاً بواسطة الفن الملتزم... كان الفيلم تمجيداً لثورة الشعب ضد الفساد.
في المغرب فسد اللحم والعظم والنخاع. في مدينة الحسيمة شمال المغرب، لجأ الملك إلى إقالات بالجملة لمسؤولين أمنيين أنشأوا دولة داخل الدولة... تزوير وتهريب وتهجير... في مدينة ميدلت، كشف شريط فيديو منتخبيْ حزبين يتقاتلان في العاصمة منذ ثلاث سنوات... لكنهما ـــــ أي المنتخبين اللذين يتحمّلان مسؤوليات في تسيير بلدية المدينة ـــــ متفقان على المساومة في مكان مشبوه للحصول على رشوة... رائحة الفساد تزكم أنف البلد ولا ثورة ضد فساد اللحم والإدارة، لا تغيير في الأفق، ليس هناك إلا تعمّق الفوارق الطبقية التي تتغذى من غياب توزيع عادل لثروات الوطن.
سيثمر الجوع أجساداً عليلة، كرامة ناقصة، وعقولاً منكمشة.
* صحافي مغربي