يانس هانسنمنذ الخمسينيات، كان لكافكا، مع بريشت وبيكيت وكامو، الأثر الكبير على الأدب العربي الطليعي والعبثي. على سبيل المثال، أكّد جمال الغيطاني، أحد أبرز الروائيين العرب اليوم، أنّه «تم التعامل مع كافكا في الستينيات بوصفه شخصية مقدسة سحرتنا». وقد منحت ترجمات عديدة، غالبيتها عن الأصل الألماني، أعمال كافكا جمهوراً أوسع في العالم العربي. وفي الوقت ذاته، بدأ كُتّاب عرب مثل صنع الله ابراهيم باستلهام موضوعات كافكا وأسلوبه في أعمالهم الأدبية الناقدة لدول «ما بعد الرعاية» الاستبدادية. كما أن القصة القصيرة العربية التي كانت الوسط المختار لهذا الالتزام السياسي والاجتماعي، مدينة بالكثير لكافكا من حيث البناء الأدبي.
بعد الهزيمة العربية العسكرية الماحقة للعرب أمام إسرائيل في عام 1967، برز نوع جديد من التفاعل مع كافكا. انخرط نقاد أدبيون في القاهرة وبغداد ودمشق وبيروت في حرب تفسير ما إذا كان كافكا صهيونياً أو لا. بالطبع، هذا السؤال كان مركزياً بالنسبة إلى التلقي اليهودي لكافكا منذ ماكس برود. غير أن التفاعل العربي مع كافكا أصبح جزءاً من المعركة الرمزية عن الأسباب الجوهرية لخسارة فلسطين، التي حُدّدت في فشل النخبة المثقفة إدراك أن التبنّي غير النقدي للثقافة الغربية قد فتح الأبواب أمام الاغتراب الثقافي.
المعسكر الذي زعم أن كافكا كان صهيونياً وحذّر بالتالي من أعماله، أشار الى رغبته في الهجرة إلى فلسطين. أما المعسكر المقابل، فقلب المصادرة اللاهوتية لكافكا بما هو «آخر نبي لإسرائيل» رأساً على عقب، ورأى فيه المحذّر الأول من ظلم المشروع الصهيوني. حاجج هؤلاء الكتّاب بوجوب عدم الخلط بين مصادرة كافكا لمآرب صهيونية، وخصوصاً من جانب ماكس برود، والعمل الأدبي ذاته، إذ إن التسليم بهذا التفسير يصبّ في خدمة الامبريالية الثقافية لإسرائيل. وذهب بعضهم الى حدود وصف كافكا بالمعادي للصهيونية.
ركزت هذه المساجلات الغنية في «الهلال»، «الأقلام»، «المعرفة»، و«الآداب»، على قصة «بنات آوى وعرب» لكافكا. في هذه القصة القصيرة، يمرّ الراوي الأوروبي بجانب واحة، حيث تطارده مجموعة من بنات آوى الفضوليّة التي تتملّقه باعتباره «المخلص» المنتظر من خضوعها للعرب. عبر السباب والشتائم والنحيب والتزلّف، تحاول بنات آوى دفع المسافر المحتجز الى إبادة العرب عن وجه الأرض بعد أن تناوله إحداها مقصّاً صدئاً. هذا المقص، بحسب كبرى بنات آوى، سوف «يطهّر» النسب و«ينهي الصراع الذي يقسّم العالم». أثناء ذلك يأتي رئيس القافلة العربي ليطلب من الأوروبي البدء بتجهيز نفسه من أجل إتمام الرحلة. وحين يرى بنات آوى على مقربة من صديقه، يضرب بسوطه ضاحكاً، ويطلب من بنات آوى إعطاءه «المقص وإنهاء الأمر». ثم يشرح للزائر المتفاجئ بأنه من «المعلوم جيداً» أن تلك «الحمقى» تعرض المقص على كل أوروبي «ما بقي عرب على قيد الوجود». ومع هذا، يصرّ العربي على «أننا نحبّها من أجل ذلك». وعندما يأتي العربي بجيفة جمل، تعود هذه المخلوقات الدموية لتمارس «مهنتها» بنهش الجيفة النتنة. تنتهي القصة بملاحظة العربي الملغزة: «حيوانات رائعة، أليست كذلك؟ وكم تكرهنا».
لقد فسّر النقاد الألمان واليهود بنات آوى بأنها ترمز الى «يهود الشتات»، فيما العربي في القصة مجرد رمز الى الأمم الأوروبية المضيفة لليهود. أما المراجعات العربية، فتعيد موضعة بنات آوى كافكا في فلسطين، ناظرة إليها كصهاينة يسعون إلى الاستيلاء على الأرض من العرب لكنهم عاجزون عن ذلك من دون دعم الأوروبيين. يوضح بطرس أن التلقي العربي لكافكا انقسم حول ما إذا كان الأخير، عبر هذه القصة، قد وافق على الاستعمار الصهيوني لفلسطين أو رفضه. في إعادة رسمه الدقيق للتفسيرات المعادية للصهيونية، يكشف بطرس عن أخطاء في ترجمات عربية للقصة تضمنت «تغييرات دلاليّة متحيزة»، بالإضافة الى الخطأ في نسبة تاريخ صدورها الى ما بعد وعد بلفور الصادر في 2 تشرين الثاني 1917.
وما يفوق هذا خطورة، بحسب بطرس، هو أن التلقي العربي لكافكا كان، في الكثير من الأحيان، مبنياً على جهل بتاريخ اليهود الأوروبيين. فقد تجاهل النقاد العرب خصوصية معاداة السامية الحديثة كما اختبرها كافكا، والتي تحييها نظريات عرقية تختلف عن الكره المسيحي القروسطي لليهود. هكذا، نظر نقاد عرب الى الصهيونية كحركة خلاصية مقدّسة لا كحركة نضال قومي ضد القوميات الإثنية العنفيّة في أوروبا، كما كانت هي عليه.
كافكا كان اليهودي الأول الذي رفض البعد الكولونيالي للصهيونية من دون الادعاء المقزز بالتفوق الأخلاقي
الصورة الخرافية لابن آوى هي، بالطبع، بذاتها إشارة مستهجنة الى الصورة المجازية العنصرية لـ«اليهودي ككلب» في معاداة السامية الأوروبية. غير أن نقد كافكا للثقافة اليهودية لم ينتمِ الى معاداة السامية الألمانية والتشيكية الرائجة ولا الى الصهاينة الذين شعروا بأن اليهود الشرقيين هم طفيليون أعاقوا التحرر اليهودي. على العكس من ذلك، ففي خطاب له عن اللغة الييدشية (اللغة السائدة لدى اليهود في أوروبا الشرقية في ذلك الوقت) ألقاه في 1912 على شرف مجموعة من الممثلين البولنديين، حضّ الجمهور الحاضر من اليهود المندمجين والصهاينة في مركز الجماعة في براغ على تجاوز صورهم النمطيّة ضد الثقافة الييدشية. حتى أنه تمتع بكامل الجرأة ليحاجج بأن اليهود الغربيين هم بحاجة الى اليهود الشرقيين من أجل تجديد ثقافتهم أكثر بكثير مما هو العكس.
عموماً، نظر كافكا الى المؤتمرات الصهيونية التي حضرها على أنها «شؤون تبعث على الحزن»، والى محاضرات أعلام مثل سولوكوف وأوسيشكين وروبين على أنها صاخبة الى حد لا يطاق. حتى أن أعمال مارتن بوبر الذي انجذب اليه ونصوصه، كانت «لا روح فيها» حيث «كان هناك دائماً شيء على خطأ». درس كافكا العبرية وداعبته من وقت الى آخر فكرة الهجرة الى فلسطين؛ مرة للعمل نادلاً في تل أبيب ومرة أخرى مجلداً للكتب. لكن علاقته بالصهيونية كانت متباينة، وأمضى نهاية حياته القصيرة في برلين التي أسماها «إيراتز ــــ فلسطين». بناءً على هذه الخلفية البيوغرافية، تبدو صفة ابن آوى عند كافكا بمثابة نقد للصهيونية الدوغماتية.
لكنّ إدانته الأكثر حدة، وإن شديدة الرمزية، لصهيونية الـ«بالاستينافاهرر»، كما أطلق على المستوطنين الصهاينة في إشارة الى الـ«كروزفاهرر» (الصليبيين)، جاءت في «تحقيقات كلب» في 1922. في هذه القصة القصيرة عن الثقافة اليهودية التي اعتبرها يهود كثر تافهة، خصّص كافكا انتقاداً قاسياً لـ«الشتات» الذين يثور الراوي الكلبيّ على «حياة الكلب الهائمة» التي يعيشونها. تصبح هنا طقوس الطعام اليهودي والخضوع للنصوص المقدسة موضع هجاء مرّ. تفسير صديق الدراسة لكافكا، هوغو برغمان، أن القصة «مليئة بالإشارات الى الحلم الصهيوني بحياة يهودية» هو ذو دلالة. بيد أن هذا التفسير يشوّش إمكانية أن كافكا يهزأ أيضاً من الطريقة التي كان يتحقق بها هذا الحلم. التلميحات في النص الى الهوس الذي يرش به «الكلاب الجدد» التراب، يسمح لكافكا بخاتمة يقارن فيها بين الاستيطان الصهيوني لـ«البالاستينافاهرر» والطريقة التي يحدّد بها الكلاب منطقتهم.
بعدما اختار المؤتمر الصهيوني الأول في 1897 فلسطين وطناً قومياً لليهود، سافرت لجنة تقصي حقائق الى الأراضي المقدسة وأعلنت أن «العروس جميلة لكنها متزوجة من رجل آخر». منذ ذلك الحين، هذا «الآخر»، أي العربي الأصلي، يمثّل «السؤال الخفي» في المشروع الاستيطاني الصهيوني. وقد رسم مؤسّس الصهيونية السياسية ثيودور هرتزل صورة وردية لاستعمار فلسطين في روايته المستقبلية «التنيولاند»، حيث حاجج بأن المشروع سيفيد السكان العرب أيضاً.
لكن الدوائر الصهيونية في براغ كانت أكثر حذراً بكثير. منذ عددها الافتتاحي في 1916، نشرت مجلة «دير يودا» لبوبر عدداً من المقالات التي كبحت اغتباط هرتزل. طالب الحس الواقعي لهذه المقالات بحساب أكثر تركيزاً وأكثر علمية للوقائع على الأرض بغية تحقيق «أقصى برنامج» من «الاستعمار المنظّم لفلسطين». ذلك أن الإحصاءات الجوية، نوعية التربة، استعمال الأرض، مشاكل الري والحصص الغذائية، دلت الى «مصاعب مستخف بها كلياً» للمشروع الصهيوني في فلسطين. وقد اعترف أدولف بوم (محرّر الدوريّة الصهيونية «بالاستينا») في العدد نفسه الذي ظهرت فيه «بنات آوى وعرب» بأن «السكان اليهود يمثّلون فقط سبع المقيمين». غير أن الأغلبية الكبرى من الصهاينة الداعمين للاستيطان كانوا في حالة من النفي التفاؤلي بالنسبة الى «المسألة العربية»، كما خطّها برغمان ابتداءً من 1911.
لم يكن هناك أي اعتراف بوجود السكان العرب الأصليين في الأدب الصهيوني باللغة الألمانية إلا في «بنات آوى وعرب». كان لكافكا اهتمام واضح بالأدب الصهيوني. نستنتج من يومياته أنه أُعجب بمحاضرة لتريتش، أحد روّاد الاستيطان المتحمّسين. كما أنه اشترك في «بالاستينا» التي حمل معه نسخة منها عندما التقى للمرة الأولى خطيبته لاحقاً فيليس بوير. لكنه اعتبر أن الكثير من الـ«بالاستينافاهرر» هم شوفينيون «تكلموا باستمرار عن تقليد الماكابيين». في «بنات آوى وعرب»، يقف العربي، «طويلاً ومتشحاً بالأبيض»، للمرة الأولى في الوسط الأدبي وفي العنوان لمجلة صهيونية بارزة. البطل العربي عند كافكا ليس المتعامل المتشكّر الذي سَخر منه هرتزل في «التنيولاند»، ولا المشكلة المستعصية التي يستمر الفلسطينيون بتجسيدها اليوم. فبالرغم من أن العرب يعذبون بنات آوى بتعالٍ ويُفترض بالأوروبي أن يقتلهم من أجل قضية بنات آوى، إلا أن وجودهم لا يخضع للمساءلة. على العكس، فإن العربيّ، بالرغم من كل شيء، يتسم بكرم معين وقدر جيد من الفكاهة في ظروف تهدّد حياته بالخطر.
لم يكن كافكا من الداعمين لاستعمار فلسطين، بالرغم من جميع محاولات صديقه وراعيه الأدبي ماكس برود لتقديمه كذلك. حلقات براغ التي عرّفته بفلسطين تألفت من المشككين أو من صهاينة من أتباع مذهب اللاأدرية. وقد روّج الكثير منهم لاحقاً لدولة واحدة ثنائية القومية كحلّ للصراع الفلسطيني ــــ الإسرائيلي. أما البعض الآخر فترك الحركة الصهيونية كلياً: أبدى الدكتور هانس كون، وهو «بالاستينافاهرر» بارز وعضو سابق في حلقة كافكا «با كوشبا»، استياءً شديداً من رد فعل الصهاينة الوحشي على الاحتجاجات الفلسطينية ضد الهجرة اليهودية الجماعية في 1929، إلى درجة أنه كتب الى صديقه المقرّب بوبر بأن «صهيونية اليوم غير مقبولة». غير أن مغادرة كون لم تكن من باب التعاطف مع السكان العرب؛ الأحرى أنه شعر بأن الصهيونية قد انتهكت المعايير الأخلاقية العليا لليهود.
وقد شارك المؤرّخ الماركسي إسحق دويتشر كُون رأيه عندما حذّر بعد إعلان دولة إسرائيل من أن بؤس مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين هو بمثابة ديناميت مزروع في أسس الدولة اليهودية. كما أدانت حنة أرندت إسقاط الهولوكوست النازي على العرب في كتابها «تقرير عن عادية الشر» عن محاكمة أدولف أيخمان في القدس. أما فيلم الرسوم المتحركة الوثائقي الأخير لآري فولمان «فالس مع بشير»، الذي يتناول الفظاعات التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في لبنان خلال صيف 1982، فيُفتتح بمشهد لكلاب شبيهة بالضباع تلوذ بالفرار في شوارع تل أبيب الليلية. في هذا الكابوس الذي أقلق الراوي لسنوات، الكلاب هي جثث خدمته العسكرية في حرب لبنان وقد أحييت من الموت.
سوء معاملة الفلسطينيين هو «ظلّ فوق إسرائيل»، كما خلصت أخيراً مارغريت أتوود، الروائية الكندية المعروفة، في مقال لها في صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية. كافكا كان اليهودي الأول الذي عالج هذا «الظل» الفلسطيني ورَفضَ البعد الكولونيالي للصهيونية من دون الادعاء المقزز بالتفوق الأخلاقي الذي استحضره النقاد الذين تلوه. في كتاب عاطف بطرس، يرسم كافكا طريقاً لكيفية رفض الصهيونية الاستيطانية في فلسطين وتقدير أشكال التحرر الوطني اليهودي والييدشي في أوروبا، في آن معاً. كافكا هذا، صاحب الأدب المتعدد الأوجه والنقدي والعالمي الفذ، عصيّ على التصنيف البسيط كصهيوني أو مناهض للصهيونية، وهو بذلك يفتح الباب لنا أمام قراءات متجدّدة وحمّالة أوجه لأعماله. ألم تكن حتى يهوديته وهويته موضع شك وتذبذب وهو القائل: «ماذا يجمعني باليهود؟ بالكاد هناك شيء يجمعني بنفسي».
* أستاذ تاريخ الشرق الأوسط في جامعة تورونتو
(خاص «الأخبار» ــ ترجمة وهيب معلوف)