محمد بنعزيز *على أبواب الذكرى التاسعة لتفجيرات أيلول/ سبتمبر 2001 الإرهابية، وفي الوقت الذي تكشف واشنطن عن قلقها من تنامي الإرهاب في اليمن، وتصرخ حكومة صنعاء بأن أميركا تضخّم خطر القاعدة، تلقّى المغرب تهنئة نادرة تقول: «لقد اعتمد المغرب مقاربة شاملة لمكافحة الإرهاب تقوم على إجراءات اليقظة والأمن، وخاصة من خلال التعاون الدولي ووضع سياسات مجددة ضد التطرف».
وقد كان ذلك تنويهاً من وزارة الخارجية الأميركية بالاستراتيجيا الشاملة لمكافحة الإرهاب التي اعتمدتها الحكومة المغربية، مشيرة إلى أن هذه الاستراتيجيا «مكنت من التقليص بفعالية من التهديد الإرهابي».
وقد أعطت وسائل الإعلام المغربية أهمية خاصة للموضوع، لأنه نجاح في مجال لم تنجح فيه أميركا نفسها... الغريب أن الخبر يتزامن مع جهود حثيثة لتقليص نفوذ مدبر تلك السياسات في جانبها الأمني... فقد صار غياب الجنرال حميدو لعنيكري عن الحفلات الرسمية أمراً تلاحظه الصحف باستمرار، ويفسر ذلك كإشارة إلى العمل لمحو بصماته عن السياسة الأمنية للمغرب... فقد كان لعنيكري مديراً لجهاز الاستخبارات الداخلية ثم عين مديراً للأمن الوطني فأقيل ثم عُيِّن مفتشاً عاماً للقوات المساعدة، وفجأة أصبحت لتلك القوات التي لا تصدر أخبارها في الصحف نفوذ... فصدر قرار بتقسيم تلك القوات إلى فرعين: فرع للجنوب وفرع للشمال. وقد تولى لعنيكري مسؤولية القيادة في المنطقة الجنوبية، وهو الآن سيبدأ من الصفر في القوات المساعدة الجنوبية. لماذا ليس الشمالية؟ لأن في الشمال تهريباً مربحاً وهدوءاً، أما في الجنوب فهناك مستقبل الاحتجاجات، من إيفني مروراً بزاكورة حتى السمارة...
جرى كل هذا والجنرال لعنيكري منضبط يرى ما يفعله به شبان العهد الجديد... يراقب ويكظم غيظه كي لا يعض يده... ينقلونه كي لا يبني مركز قوة... ولكن لماذا لا يتخلصون منه؟
السبب الأول هو أن خطر الاحتجاجات ما زال قائماً، ففقر الشبيبة ويأسها ينذران بمخاطر شديدة. لذلك يحتفظ رجال العهد الجديد بالجنرال العجوز لكي يأكلوا الثوم بفمه، فهو من رجال العهد البائد، وكل تدخل عنيف سيسجل في دفتر العهد البائد، بينما يفترض الشبان الذين صاروا رجالاً أن سجلهم سيبقى بكراً.
السبب الثاني هو أن لعنيكري يمثل عنواناً معروفاً وموثوقاً لمسؤولي الاستخبارات الغربية، يتعاملون معه لأنه يملك خبرة ورؤية وجرأة لتنفيذها. الدليل؟
بعد تفجيرات 2001 في نيويورك، تعاونت الاستخبارات المغربية مع نظيراتها الغربية. حتى أن رمزي بنشيبة، حسب وسائل الإعلام، خضع للاستجواب في سجن مغربي قرب الرباط في 2002.
للتنويه الأميركي طعم الشتيمة لأنه يمس الصورة التي يريدها النظام لنفسه
أما بعد تفجيرات 16 أيار/ مايو 2003 في الدار البيضاء، فقد سادت الصدمة وتسلم لعنيكري العصا، وقام بعمله أمام زملائه في جهاز الدولة بإتقان... اعتقل حوالى عشرة آلاف إسلامي واحتفظ بـ2000 في السجن. كان ذلك تدبيراً وقائياً أكثر منه تهماً ثابتة ضد المعتقلين. تزامن ذلك مع مقتل مواطنين عديدين في مخافر الشرطة أو في الشارع على يد شرطة القرب. غير أن مدير «إف بي آي» الأميركي زار المغرب في 7/2/2006 والتقى مديرَي الأمن الوطني والاستخبارات للتعاون في مكافحة الإرهاب الدولي ومحاربة الجريمة المنظمة وتأهيل رجال الأمن المغاربة... كانت الرسالة واضحة.
لكن حين بردت الصدمة وزال الخوف، بدأت تنكشف حقيقة ما تولاه الجنرال: اعتقالات وتعذيب ومحاكمات سريعة... حينها لم يعد لعنيكري مرغوباً فيه في الواجهة، فبدأت جهود تفكيك نفوذه... وفي عز هذه الجهود يأتي التنويه الأميركي ليذكّر بجدوى منهج لعنيكري وليضع علامات استفهام على جهود تفكيك نفوذه.
التنويه الأميركي مفخرة للنظام على الصعيد الخارجي. فالمغرب نجح في محاربة الإرهاب وسهل على الدبلوماسية المغربية تسويق نفسها... وتكفي المقارنة مع استمرار قتل رجال الجيش في الجزائر ليتضح الإنجاز المغربي حيث لم يقتل أي مواطن مغربي منذ 2003... أما رجال الجيش فبعيدون لأن الشرطة قادرة وحدها على أن تتولى الأمن في الشوارع.
لكن لذلك التنويه طعم الشتيمة على صعيد السياسة الداخلية، لأنه يمس الصورة التي يريدها النظام لنفسه.
أولاً لأنه يحرج الذين يريدون التخلص من الجنرال العجوز، صاحب الخبرة والصرامة، لكنهم لا يستطيعون ذلك، فتبقى نواة السلطة تقليدية في جوهرها ولا تواكب خطابات التحديث والدمقرطة التي يقدمها الملك محمد السادس وفريقه. ثانياً، على الصعيد الداخلي، ينظر للتنويه الأميركي كشتيمة، وكإهانة للمعتقلين الإسلاميين...
ثالثاً، يرى الحقوقيون في ذلك التنويه خطراً... إذ تعتبر تقوية لعنيكري وفلسفته الأمنية تكريساً للإفلات من العقاب وتكراراً لسنوات الرصاص وتهويناً من جهود الإنصاف والمصالحة... ما دام اسم لعنيكري يرتبط بكل امتحان أمني في السنوات الأخيرة، سواء تعلق الأمر بضرب حاملي الشهادات الذين يحتجون أمام البرلمان أو قمع انتفاضة إيفني، وهو الذي سيتولى تدبير أي احتجاج لاحق.
رغم هذه الأصوات المعارضة، يبقى الجنرال ضرورة للخارج والداخل أيضاً. تكمن المشكلة في الصورة فقط. فالذين عملوا طيلة السنوات السبع الماضية لتفكيك نفوذ الجنرال، لا يفعلون ذلك لأنهم يفيضون ديموقراطية، وهم لا يقلقون لأنهم يختلفون عنه في الأساليب وهو متفوق عليهم، بل هم قلقون فقط لأن ذلك قد يمس صورة البلد في الخارج. الصورة هي المشكلة، أما التدبير الأمني فلم يقع فيه تغيير جوهري منذ رحيل الحسن الثاني...
صحيح أن المغرب عرف وزير داخلية واحداً طيلة ربع قرن في عهد الملك الراحل، بينما عرف خمسة وزراء في عشر سنوات من حكم الملك الجديد: أحمد الميداوي فإدريس جطو فمصطفى الساهل فشكيب بنموسى ثم الطيب الشرقاوي حالياً... لكن هذا التغيير في الوجوه لم ينعكس تغييراً في الممارسة.
السبب؟ هناك خطر أن يستولي المتشددون على عائدات تصدير الحشيش، وهي تجارة تدر أرباحاً مهولة. ثانياً، المغرب يصدّر الشابات الجميلات والمجاهدين الشبان، فكثير من المغاربة قتلوا في العراق، ويبدو أن أجر الجهاد يتضاعف في الشرق الأوسط... ثالثاً، جحيم الصحراء الكبرى يشتد وتنظيم القاعدة يقوّي نفوذه في المنطقة ويموّل نفسه بتلقي فدية الرهائن الأوروبيين... رابعاً، خطر الانتفاضات بسبب الفقر ما زال وارداً، وخصوصاً أنّ غلاء الأكل والسكن بلغ مستويات خطرة... أخيراً، الإصلاحات السياسية خرجت من جدول الأعمال...
مع وضع كهذا، يبقى التدبير الأمني أساسياً. وبما أن المقاربة القديمة لم تتغير، فإن ضباط العهد السابق الذين تجاوزت أعمارهم السبعين هم الذين يتولون تطبيقها... في الدرك والسجون وقوات مكافحة الشغب. وأميركا تنوّه بهم في محاربة الإرهاب التي لم تنجح هي فيها.
أين المشكلة؟ في الصورة غير الحلوة التي ارتبطت بأولئك الضباط... هذه هي المشكلة في العالم العربي، وليس الواقع المشوّه الذي قُبِل. لذا تستأجر الكثير من الدول العربية خدمات وكالات لُندنية لتبييض سجلها في حقوق الإنسان.
منطقياً، يجب تغيير الواقع لتتغير الصورة. يجب دمقرطة جهاز الدولة ليتقلص نفوذ جهاز الأمن. لكن الممارسة مقلوبة. ليبقَ جهاز الأمن في يد الشيوخ وأساليبهم، ولتُعدَّل الصورة فقط. وعندما تنوّه أميركا بهذه الممارسة وترضى عن الصورة السائدة عن الحكومات العربية، فإنها تقدم للأنظمة خدمة ثمينة. ولتذهب الشعوب إلى الجحيم إذاً.
* صحافي مغربي