حسان الزينجميل السيّد وسامي الجميّل اسمان لشخصين مختلفين، لكنهما الآن نجما المسرح السياسي اللبناني.
قدرُ اللبنانيين وَضَعَ هذين الاسمين المتقاطعين أحرفاً ووزناً، عند تقاطع ولادة سياسية للرجل والشاب، للمتقاعد والصاعد.
شخصياً، هذا الأمر يخيفني، يدبّ الرعب في عروقي، لا لأن الرجل صاحب سيرة عسكرية وأمنيّة وحسب، ولا لأن الشاب ابن حزب يميني وحسب ـــــ فاللبنانيون اعتادوا العفو والنسيان ـــــ بل بسبب الصورتين اللتين يقدّمانهما كلٌّ عن نفسه. والصورتان تشيان بملامح السياسة حين يستقرّ صاحباهما في مقعديهما العتيدين.
فالرجل والشاب، الجنرال والمنسّق الحزبي، يطلاّن علينا كمنتقِمين، كصاحبي ثورتي حقٍّ «شخصي» وحزبي. والاثنان يتّسمان بكمٍّ من العتاد «الوطني».
فجميل السيد يريد العدالة لنفسه. وسامي الجميّل يريد المساواة. الأوّل رغم المديح الذي يمكن كيله لمؤسّسة الأمن العام في عهده، لا يمكن الجزم بأنّه مارس العدالة حين كان على رأس عمله. والثاني أسهم حزبه، وأسرته، في تبديد فرصة المساواة وفي اختلال قواها، وفي إرباك قيمها وعناصرها الأخلاقيّة.
المظلوميّة التي يعزفان على أوتارها تشوّش على الذاكرة والوعي. وكأن هذا رهان لديهما. ولا ينفصل هذا الرهان عن رهان آخر على كاريزماهما. فكلّ منهما يتحلّى بنظرة عن نفسه كفيلة بصنع زعامة مشدودة إلى عصب الحق الذي يدّعيانه، وتأخذ مجموعات إلى مشاريعهما، متسلّحة بإيمانات تشعل حروباً.
كيف لا والرجل غاضب ويتوعد ويواصل أعماله بعقل المدير العام للأمن العام. ودائماً بهيئة الضابط ونبرته الآمرة ورجل الاستخبارات وملفاته وشيفرته. والشاب متحفّز يستعيد خطاب الجبهات والأيام السوداء وكأنه يحرّض على الذهاب إلى القتال، ودائماً بلغة شعبوية كشفية فاشيّة.
ليس مفارقة غريبة أن يعتادهما اللبنانيّون ويُستقبَلا كلٌّ لدى مجموعة. فالجنرال والشاب يبنيان زعامتيهما في بيئتين قائمتين قابلتين للتفاعل، وإن كان الأمر في مرحلة أوّلية. وهما، في شخصيتهما وخطابيهما طالعان من هاتين البيئتين، وكلٌّ منهما يحاكي بيئته. الجنرال يمثّل البيئة «الشيعية» البقاعية واختراق العوائق الطبقيّة، (وظيفياً وسياسياً) ويحاكي مشاعر المظلوميّة السياسية بعنوانها الآني المحكمة الدولية ويعبّر عن تحدّيها بالانفعال الذكي حتى الأخير، انفعال من خسر الكثير وبات مشدوداً إلى التعويض في السياسة. والشاب يمثّل البيئة التقليدية «المسيحية» التي تهتز كراسيها وتُهدّد بيوتها، ويحاكي مشاعر الإحباط والإدانة الأخلاقية لمسيرتها السياسية، ولا سيما التحالف مع إسرائيل، ويعبّر عن تحدّي نتائج ما بعد الحرب التي انتهت بغالب ومغلوب، قيمياً وسياسياً، بانفعال شعبوي تحريضي.
هذان أبرز ورثة الحقبة، أو الحقب، الماضية المستمرّة. وإذا كان الجنرال لا يحكي إلا عن خمس سنوات مضت، ويستعيد سنوات قبلها في معرض تفاخره الشخصي بمسيرته الوظيفية، فإن النائب الأصغر في البرلمان الحالي، سامي الجميّل، يقفز إلى الوراء سنوات تفوق عمره وخبرته مشحوناً بذاكرة شفهية انتقائيّة وعشوائيّة لم تُفحص بالمعرفة والمجرّبين والملدوغين منها، سواء أكانوا أصحابها أم خصومها.
هكذا، يجد اللبنانيون أنفسهم وعقولهم ومستقبلهم في أيدي زعيمين مقبلين ينهلان من الماضي والحاضر. والأهم أنهما نسختان لزعماء عدّة. جميل السيّد نسخة شخصية عن ميشال عون ونجاح واكيم وعزيز الأحدب، ويجاور في خطابه وأدائه النموذج الصاخب المتوعّد الذي قدّمته قوى المعارضة السابقة في السنوات القليلة الماضية. وسامي الجميّل نسخة شخصيّة عن بشير الجميّل وإبراهيم قليلات، ويسكن في خطابه هشاشة الكشافة وتهوّر الفتيان ومزاعمهم والنموذج المرتبك المراوغ ذو العين الواحدة، الذي قدّمته 14 آذار.
الفروق بين الرجل والشاب كثيرة، ليس أوّلها العمر والتجربة والسيرة ولا آخرها «المصدر» الاجتماعي والبيئة. الرجل، السيّد، يختزن ذاكرة طويلة من عمر النظام ويمسك بخيوط الطاقم السياسي ومنتفعاته وحواشيه وتوابعه وقفّازاته وأقنعته وألاعيبه، وربما يمسك بما هو أسمك وأغلظ من الخيوط. وهذا سرّ من أسرار «قوّته» ومن قوة أسراره. أما الشاب، فطريّ و«ثقافته» أيديولوجيّة أكثر منها سياسيّة، ويتفاعل مع أترابه، يتأثّر ويحاول أن يؤثّر.
لعلّ الحقّ مع الرجل والشاب، إذ يظهران كمقاتلين متطرّفين عاليي النبرة، فبمعزل عن صدق كلّ منهما مع ما يقوله، هذه أسرع طريقة إلى المشهد السياسي وهتافات اللبنانيين.