السجال السياسي اللبناني كان مجنوناً على امتداد أسابيع. تيّار الحريري زعم أن اشتباكات برج أبي حيدر كانت أقسى من حرب تموز على «البيارتة»، و«البيارتة» تعبير تستعين به ماكينة الحريرة الإعلاميّة عندما تريد أن تشحن مذهبيّاً وأن تحنّ إلى زمن لم يكن فيه الشيعة الطارئون قد غزوا بيروت. يتساءل أحمد فتفت عن المذهبيّة في خطاب الحريري: يكفي أنه جلس إلى مائدة واحدة مع محمد علي الجوزو الناشط في الشحن المذهبي والطائفي منذ اغتيال الحريري (نذكره مرشداً لـ«خليّة حمد» لمن يذكر وتذكر). أما حزب الله، فأصرّ على أن القصف والحرق في منطقة آهلة بالسكان كانا «خلافا فرديّاً» لا «أبعاد مذهبيّة وسياسيّة له». يبدو أن الحزب لا يزال يصدّق تلك الاستطلاعات عن أهواء الرأي العام اللبناني التي ساقته إلى الهزيمة في آخر انتخابات

أسعد أبو خليل*
يُقابل الجنون السياسي في لبنان جنون إعلامي لا مثيل له. تشاهد نشرة أخبار «إم.تي.في» وتتيقّن أن الحكومة الإسرائيليّة لن تجد فيها ما تختلف معه أبداً. والمحطة تستهلّ نشرة أخبارها بتصريح لشخص يقود ما يُسمّى «التيار الشيعي الحرّ». التصريح واستهلاله يمكن أن يصلحا في برنامج كوميدي لا في نشرة أخبار. وكما وقف زعيم سياسي ذات مرّة وأشار إلى خريطة بمواقع لشبكة اتصالات حزب الله ببراءة شديدة طبعاً، وقف أخيراً زعيم طائفي من طائفة أخرى ليشير إلى مخازن أسلحة مفترضة لحزب الله ويحدّد مواقعها. كانت جريدة «النهار» تنشر صوراً لمواقع للمقاومة في الجنوب قبل حرب تمّوز. الحق أن «ثورة (حرّاس) الأرز» كانت القابلة القانونيّة لولادة بيئة حاضنة لإسرائيل ولخدمة إسرائيل في عموم المناطق اللبنانيّة وفي أوساط طوائفها كافّة.
سامي الجميّل تأخر كثيراً أكثر من ثلاثين سنة. لا الزمن زمنه ولا المكان مكانه. تغيّرت اللعبة كثيراً عن أيّام جدّه المُعجب بتنظيم هتلر وعقيدته في برلين. كان يمكن سامي أن يكون مؤثّراً أو حتى مخيفاً على كوكب آخر، لكنه لا يقدّم ولا يؤخّر هنا، وتأثيره على الصبية في المتن لا يزيد عن تأثير نقولا فتّوش في زحلة. يحاول أن يقلّد عمّه بشير، أسوأ لبناني على الإطلاق، فيظنّ أن التطرّف سيؤتي ثماره وسيبعد عنه تنافس ابن عمّه، لكنه ينسى أن التطرّف العائلي يعتمد على الطائفيّة المسيحيّة، فيما الطوائف المسيحيّة برمّتها استُبعدت عن اللعبة السياسيّة في لبنان بإرادة محليّة وخارجيّة. لهذا، فلرئيس لبنان المُتسع من الموقع كي يجول على مهل في قصر موسى. تغيّر لبنان كثيراً لكن هناك من يظنّ أن المواقف قادرة على إعادة عقارب الساعة أكثر من ثلاثة عقود من الزمن. خسر آل الجميّل المعركة من زمان: معركة إلحاق لبنان بالمِحور الإسرائيلي. انتقل الدور من آل الجميّل إلى آل الحريري. الحسابات الطائفيّة تغيّرت إلى الأبد. الطوائف المسيحيّة أصبحت تلعب دور الأحزاب الصغيرة في النظم السياسيّة ذات الحزبيْن السائديْن. لا يسأل فريق 8 آذار ولا فريق 14 آذار عن مصلحة المسيحيّين (والمصالح في لبنان طائفيّة فقط، في ظل نظام سياسي لا يسمح للعلمانيّين بالتنفّس).

لا 8 آذار ولا 14 آذار يسألان عن مصلحة المسيحيّين
غاب سامي الجميّل لأسابيع «في دورة» ثم عاد ليفتح ملف العلاقة مع إسرائيل. أحمد فتفت صاحب ملف ثكنة مرجعيون المُشين (والذي لولا النظام الطائفي الذي يحميه لكان اليوم يقبع إما في زنزانة أو كان لا يزال يجلس بذلّ أمام لجنة تحقيق برلمانيّة) أبدى تفهماً لكلامه وطالبه بعدم الردّ. سامي الباحث عن دور لم ولن يجده عبّر عن زهوه بالعلاقة مع إسرائيل (غلّف كلامه كعادة كل متكلّم كتائبي وقوّاتي بكم هائل من الكذب والمزاعم المراوغة): 1) أعاد اجترار أكذوبة محاربة حزب الكتائب للتوطين. لم يكن هناك مخطّط للتوطين، أو بالأحرى إن وقوع الحرب ومشاركة الثورة الفلسطينيّة فيها (والمشاركة كانت محدودة للأسف وكان على المقاومة الفلسطينيّة أن تخوض معركة حسم المعركة ضد القوى الانعزاليّة الإسرائيليّة منذ حصار تل الزعتر، لكن ياسر عرفات تمنّع) كان سبب رفض منظمة التحرير للتوطين. كان عرفات قادراً لو أراد على أن يساوم الولايات المتحدة على لبنان كله، وكان بوسعه أن يرثه، لكنه ـــــ الأمانة تقضي الاعتراف مع كل علات عرفات ـــــ رفض ومن دون مواربة. منظمة التحرير خاضت الحرب اللبنانيّة ورفعت السلاح لأنها لم ترتضِ لفلسطين بديلاً.
2) إن حزب الكتائب بدأ الحرب بقتل المسلمين لا الفلسطينيّين. جبهة عين الرمانة الشياح (التي كانت أوّل جبهة تشعلها القوى الإسرائيليّة في لبنان) كانت حرباً ضد لبنانيّين آخرين، كما أن حملات القتل على الهويّة والتهجير الطائفي التي ابتدعها الحزب لم تكن لمواجهة التوطين، بل لفرض نظام طائفي عنصري ولكسب صفاء طائفي في مناطق نفوذ الحزب الفاشستي المذكور. نستطيع أن تصدّق كذبة تصدّي «مقاومة» حزب الكتائب لمخطّط التوطين (ويستحق حزب الكتائب صفة المقاومة كما يستحق سعد الحريري صفة العبقريّة وكما يستحق محمد دحلان صفة الوطنيّة) لو نسينا الآلاف المؤلّفة من الضحايا المسلمين الذين واللواتي قتلهم حزب الكتائب منذ عام 1958. 3) إن قصّة حاجة الكتائب للسلاح كذبة أخرى تُضاف. فتح سليمان فرنجيّة وإسكندر غانم خزائن الجيش اللبناني ومستودعاته (أيام العقيدة المهادنة للصهيونيّة إن لم نقل المُتحالفة معها) أمام القوات الفاشستيّة في لبنان في السبعينيات. إن حزب الكتائب تلقّى سلاحاً وأموالاً وسيطرة سياسيّة من العدو الإسرائيلي. ثم أين كان مخطّط التوطين المزعوم عندما بدأ حزب الكتائب بتلقّي الدعم المالي من إسرائيل في الانتخابات النيابيّة منذ الخمسينيات، كما تذكر المراجع العبريّة المبنيّة على ما نُشر من وثائق الأرشيف الصهيوني؟ ماذا يفعل حزب الكتائب بوقائع التحالف مع إسرائيل قبل انطلاقة المقاومة الفلسطينيّة. إن الزعيم الكتائبي (أصبح سفيراً و«صحافيّاً» في ما بعد)، إلياس ربابي، بدأ بالتواصل مع إلياهو ساسون قبل إنشاء الكيان الغاصب. لم يتوقّف التواصل بين العدو وأدواته الصغار في لبنان. 4) يزيد الجميّل في الكذب عندما يقول إن فريق والده وعمّه الإسرائيلي كان يفتقر إلى السلاح. في الواقع، كان هذا الفريق يتمتّع بسلاح الجيش اللبناني وأسلحة من الأسواق السوداء، بالإضافة إلى تسليح من الأردن والسعوديّة، حتى لا ننسى الدعم القوي الذي قدّمته الاستخبارات الأميركيّة لفريق الفاشستيّة اللبنانيّة، حتى أنها استعانت بفريق الفاشيست الكوبيّين الأميركيّين لتدريب الكتائب والإشراف المبكر على حروبهم. ماذا كان فيلكس رودريغز (بطل عمليّة خليج الخنازير الفاشلة) يفعل في بيروت إبّان الحرب الأهليّة؟ 5) لا، لم تكن الكتائب تحارب وترتكب المجازر لحسابات لا علاقة لها بالتوطين، بل إن المهمّة الموكولة إلى الكتائب كانت منع المقاومة الفلسطينيّة من إزعاج إسرائيل. 6) الشكوى من الحواجز الفلسطينيّة في لبنان كانت بإيعاز من إسرائيل. ليس من حق المقاومة إقامة الحواجز في لبنان للدفاع عن نفسها فحسب، بل كان عليها إقامة المزيد من الحواجز في كل لبنان، وخصوصاً في بكفيّا وأماكن وجود الكتائب بسبب التغلغل الإسرائيلي في لبنان والاصطياد المتكرّر لقادة المقاومة في مختلف أنحاء لبنان. (الشعارات تتكرّر من قبل حلفاء إسرائيل اليوم: الدعوة لجعل بيروت منزوعة السلاح، كما أن الحملة السابقة على شبكة اتصالات حزب الله ـــــ لماذا لا يتمّ الربط بين التغلغل الإسرائيلي في شبكات اتصالات الدولة والقطاع الخاص في لبنان وبين تلك الدعوات المشبوهة الفجائيّة للتخلّص من شبكات اتصالات المقاومة قبل 8 أيّار؟ ـــــ تهدف لإتاحة المجال أمام إسرائيل للتخلّص من قادة المقاومة). والطريف أن سامي هذا أورد تعداداً طائفيّاً لجدول العملاء الإسرائيليّين المتهمين في لبنان: أي إن مسؤولي حزب الكتائب عقدوا اجتماعاً خاصاً لتوزيع جدول العملاء على أساس طائفي.
ولا يكتفي سامي الجميّل بالعودة إلى الماضي والتغنّي بـ«قَتَلة» القوات اللبنانيّة (حتى في تل الزعتر) بل يشاركه في الاحتفال السياسي البذيء يمنى الجميّل (التي التقت مع حفيدة إسحق رابين في لندن ولا ندري إذا كانت قد تلقّت دروساً خصوصيّة من أمّها هي وشقيقها في إعداد الأطعمة اللبنانيّة لقادة العدو الإسرائيلي أثناء زياراتهم إلى لبنان). وقد قالت المسؤولة الكتائبيّة في منطقة بيروت عن الفلسطينيّين «ورحّبنا كمسيحيين بهم لأسباب إنسانية، أما غيرنا فقد رحب بهم يومها لأسباب مذهبية». هكذا لخّصت موقف اللبنانيّين من الوجود الفلسطيني. لا مكان للذين لا ينتمون لطوائف والذين واللواتي ماتوا دفاعاً عن فلسطين، من أمثال نقولا عبد الله سعادة وإياد نور الدين المدوّر ودلال المغربي، في تحليل آل الجميّل. وتستعمل يمنى الجميّل عبارة «معسكرات» في إشارة إلى المخيّمات الفلسطينيّة في لبنان. لعلّها تعلّمت العبارة من النشرة العربيّة للإذاعة الإسرائيليّة. وأضافت الجميّل أنها ستمنع (يساعدها في ذلك أخوها وابن عمّها وجوزف أبو خليل إذا لم يكن الأخير تائهاً في مركب في عرض البحر) حزب الله من جعل طريق تحرير شبعا تمرّ من بيروت مثلما منع أبوها كما تقول هي، طبعاً، طريق فلسطين من المرور في جونية. والطريف في سرديّة يمنى الجميّل أنها تكرّر تلك المعزوفة المضحكة عن إصلاح الدولة اللبنانيّة أثناء الأيام القليلة التي كان فيها بشير الجميّل مُنصّباً من قبل إسرائيل في سدّة الرئاسة (من المعلوم أن بشير قضى تحت أنقاض مقرّ حزب الكتائب، وقد حزنت إسرائيل لحزنه أيما حزن) ناسيةً أنه نُصّب بالرشى (من ميشال المرّ وإسرائيل) وبالغزو العدوّ.
وقد شارك في حفل الخطب نديم الجميّل. ماذا تفعل إذا ورثت اسماً؟ أليست هذه هي مأساة سعد الحريري الشخصيّة؟ (ولماذا يخاطبه جميل السيّد الذي دعا إلى ثورة مسلّحة وحيّا «شهامة» الملك السعودي وكأنه مالك قراره؟) نديم الجميّل تحدّث لدقائق عن «مشكلة» الحانات في شارع مخايل فقال: إن لديه «خشوة» وإن الناس بحاجة لـ«الرياحة»، وقال إنه «ينشد» المسؤولين في الدولة. الجيل الثالث من آل الجميّل لا دور لهم (ولهنّ). قد ينتهون في المنافي يديرون مطاعم في الغربة، على شاكلة أنطوان لحد، وقد يستعينون بوصفات طعام صولانج الجميّل. نديم تحدّث في ذكرى قتل والده فقال إنه لا يحتاج إلى دروس في الوطنيّة. طبعاً لا يحتاج: لقد تعلّم أصول الوطنيّة الإسرائيليّة من شارون. يا أولاد الجميّل، انتهى زمانكم. صياحكم وطموحاتكم لا معنى لها. زعيقكم يثير السخرية والضحك، لا الاهتمام والخوف. حتى إسرائيل تبرّأت منكم (ومنكن) وأمكم الحنون تعبّر عن حنانها نحو براميل النفط في الشرق الأوسط فقط. معجزات القدّيس شربل تستطيع أن ترسم صوراً على صحائف الخبز، لكنها لا تعيد السلطة لآل الجميّل.
إنما الدور البشع لآل الجميّل انتقل لآل الحريري. لزّمت الولايات المتحدة والسعوديّة آل الحريري الدور الذي كان منوطاً بالنخبة الكتائبيّة الشمعونيّة في حقبة ما قبل الحرب. في الطائف أعلن النظام العالمي والعربي موت الدور السياسي لكل المسيحيّين في لبنان. كان مشروع الحريري (أو إدارة رفيق الحريري لمشروع أكبر منه ومن قصوره وعائلته) متوافقاً مع النظام السوري، ولم ينتفض (بالسرّ فقط لأنه لم يتمتّع زعيم لبناني بمقدار ما تمتّع به رفيق من الجبن السياسي) على سوريا إلا عندما ابتعدت السعوديّة عن النظام السوري إرضاءً لخاطر واشنطن وإسرائيل. رفيق الحريري تولّى إدخال لبنان في نموذج معدّل لحلف بغداد في الخمسينيات. هو وارث كميل شمعون في خدمة المخطّط الغربي وإن كان أكثر مداهنة ونفاقاً وتقيّةً ومواربة ومراوغة ومدالسة ورياءً. هذا هو رفيق الحريري، ويجب أن نسدل الستار على صور له لا علاقة لها بحقيقته وحقيقة ما ألحقه من أضرار بلبنان والمنطقة. (كم كان الحريري يعاني، كونه من عائلة فقيرة، من عقدة عائلات الزعامات والإقطاع، وكم عمل على التقرّب منهم بعدما امتهن محاربة الفقراء، لا محاربة الفقر. ما حاجته إلى نبيل دو فريج لولا العقد النفسيّة الدفينة؟)
سعد الحريري أدلى بحديث (أو كتب له هاني حمّود حديثاً) في جريدة الأمير سلمان «الشرق الأوسط»، التي نشرت مقالة لنائب وزير الخارجيّة الإسرائيلي يناشد فيها العرب مشاطرة إسرائيل تشديدها على الخطر الإيراني، وكأن إعلام آل سعود يتحدّث عن خطر إسرائيلي. الجريدة نفسها التي اختارها الحريري تمثّل الليكود السعودي وتتماثل مع مواقفه: عنونت أخيراً خبراً عن مقتل ثلاثة فلسطينيّين بأن إطلاق صواريخ من غزة أصاب إسرائيل (وإن لم يُصِب أحداً هناك، للأسف). سعد الحريري اعترف بارتكاب أخطاء تجاه النظام السوري. لا تعنينا علاقة المقاول السياسي مع هذا النظام أو ذاك، وهذه العلاقات تخضع لحسابات عرض وطلب وأوامر تأتيه بالهاتف من لدن حاشية آل سعود. ما يعنينا هو ما حصل منذ اغتيال فقيد عائلته، رفيق الحريري أو من «يحسب أن ماله خلّده». ماذا يقول الحريري الصغير عن المئات من العمّال السوريّين الذين تعرّضوا ويتعرّضون للضرب والاعتداء في كل لبنان، ومن قبل كل الطوائف دون استثناء (لماذا تستّرت الصحف على قتل العامة لعامل سوري بريء في قرية قانا في الجنوب؟ هل تعوّد الشعب نمط العنف الجماهيري الذي تجلّى في كترمايا؟) ماذا يقول الحريري عن تعبئة عنصريّة ضد كل الشعب السوري وعن أجواء الكراهية التي لا تزال تمثّل معظم الكوميديا السياسيّة اللبنانيّة (والتي يجدها البعض يا للعجب العجاب مضحكة)؟ ويتشارك في السخرية العنصريّة ضد الشعب السوري كوميديا 8 آذار وكوميديا 14 آذار.
سعد الحريري ليس سيّد أمره. ليس من الإنصاف مخاطبة من لا يفقه معظم ما يقرأ من خطب تُعدّ له وتُحَرّك منعاً للغلط الذي لا يفارقه ما إن يفتح فاه. سعد الحريري أداة أصغر من والده الذي كان هو أداة أيضاً. والمفارقات السياسيّة بالغة الدلالة. كيف أن نائباً في حزب الله خاض الانتخابات النيابيّة عام 2005 على القائمة نفسها مع مَن كانت تعدّ الأطعمة لشارون. وإيلي حبيقة (الذي لا ينفع في غفرانه السياسي والأخلاقي والوطني ندم أو تحوّل) قوبل باحتضان من أنصار المقاومة في لبنان، مع أن تأهيله السياسي دشّنه ثنائي الفساد في لبنان سوريا: أي رفيق الحريري وعبد الحليم خدّام. (الثنائي هذا مثل أبشع نموذج للفساد السياسي في تاريخ لبنان المعاصر. ويحدّثونك عن الدولة العصريّة والحديثة فيما «ينتخب» حزب ابن رفيق الحريري الابن هذا بناءً على أهليّته وكفاءته زعيماً للحزب، ويشغل ابن عمّه منصب الأمين التنفيذي. كفاءة تولّد كفاءة تولّد كفاءة. ماذا تفعل إذا استأثرت عائلة بالثروة وبجينات الكفاءة في آن واحد؟).
الحالة الإسرائيليّة في لبنان تتسع وتمتدّ. لا يحدّ منها كشف شبكات التجسّس والإرهاب الإسرائيلي (لماذا لم يُلق القبض لساعته على جاسوس أو إرهابي إسرائيلي واحد من حَمَلة الجوازات الأوروبيّة أو حتى العربيّة؟ هل يمكن استخبارات العدوّ ألا تعتمد على إسرائيليّين من حملة الجوازات الأوروبيّة لتشغيل عملائها الأصغر من

في الطائف أعلن النظام العالمي والعربي موت الدور السياسي لمسيحيي لبنان
العرب؟ أم أن أجهزة الدولة اللبنانيّة لا تجرؤ على توقيف رجل أبيض؟). آل الجميّل وآل الحريري يعتنقان مبدأ السلام مع إسرائيل بأي ثمن. وعد «ربيع» رفيق الحريري كان وعداً بإحلال 17 أيّار آخر. لا تنفع كل المزاعم الخبيثة للترويج لرفيق حريري آخر بعد اغتياله، حتى لو شارك فيها حزب الله. والحالة الإسرائيليّة ستنخر في عظم جسم مسخ الوطن إلى أن ينزل العقاب. وشعارات الديموقراطيّة الزائفة تُستعمل للتغطية على الخيانة بمفهوم الدستور اللبناني والقانون اللبناني، وهو واضح. أدعياء ديموقراطيّة آل سعود يسوّغون تصريحات سامي الجميّل تحت باب «حريّة الرأي». لم تسمح المقاومة الفرنسيّة أو الجزائريّة أو الفيتناميّة بحريّة الرأي حين كانت تعني اعتناق خط الاحتلال المُعادي. القانون الأميركي يزجّ بالسجون من ينتمي إلى منظمة مُعادية لأميركا (بالتعريف القانوني الأميركي) ولا يسمح حتى بالترويج لها (تحت هذا الباب تُمنع محطة «المنار» هنا). هل يظنّون أن ديموقراطيّة لبنان أعرق من ديموقراطيّة أميركا؟ أم أن ما يعنونه بالديموقراطيّة هو فقط حق الأمير مقرن بتقرير مصير الانتخابات في العالم العربي وحق الدعوة إلى الاستسلام أمام إسرائيل؟
وللتغطية على جريمة الزهو بالعمالة لإسرائيل، عمد الإعلام المُوالي للحريري على التشديد على جريمة لم تحصل: تحوّل تهديد من مجهول على موقع خاص على الإنترنت ضد الفتى الكتائبي إلى خطة تهديد مُحكمة. كان يمكن أن تُضاف إلى سرديّات ميليس التي شغلت أمسيات قريطم على مرّ شهور وسنوات. الحلّ؟ لا لبس فيه. يجب محاكمة حقبة إلحاق لبنان بإسرائيل ويجب حلّ حزب الكتائب اللبنانيّة وحزب الوطنيّين الأحرار وحزب حرّاس الأرز وحزب القوات اللبنانيّة. هذه الأحزاب عملت في مجال التجسّس والإرهاب لمصلحة إسرائيل، كما أن حزب الكتائب يتحمّل أكبر مسؤوليّة في إشعال الحرب الأهليّة (لمصلحة إسرائيل) وفي تأجيجها واستمرارها. وإذا كانت ألمانيا الديموقراطيّة قد عملت على إبطال قانونيّة الفكر والتنظيم النازيين، فحريّ بأي ديموقراطيّة لبنانيّة أن تبطل قانونيّة الفكر والتنظيم الكتائبيين (النموذج المحلّي للنازيّة).
البعض في لبنان في غيبوبة. بشير الجميّل ورفيق الحريري ماتا. حقاً، حقاً ماتا. ولن يعودا أبداً. ما الصعوبة في فهم هذه الحقيقة؟ أما العودة إلى الحياة من عالم الأموات فلا تحدث إلا في الخرافات الدينيّة.
* أستاذ العلوم السياسيّة
في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)