strong>سماح إدريس*«في زحمة الحلول يتحدّث الزعماءُ عن حربٍ قادمة. ولكنّ الزعماء ــ ويا أسفي ــ لا يَعْلمون أنّ الحربَ القادمة... قادمة!» (من أغنية لخالد الهبر).

لا يحتاج المرءُ إلى قراءة كلّ صفحات المذكّرة التي أرسلها دانيال كورتزر إلى مجلس العلاقات العامّة الخارجيّة الأميركيّة، وهي بعنوان «حرب لبنانيّة ثالثة» (تمّوز 2010)، ليكتشفَ حجمَ الخطر الداهم الذي يتهدّد لبنانَ من ضربة إسرائيليّة قادمة. بل نكتفي بإيراد ما يأتي: إنّ احتمالات وقوع حرب إسرائيليّةٍ ثالثة على لبنان في غضون الشهور 12ــــ18 «تتصاعد باطّراد»، و«إنّه ليس واضحًا أنّ إدارة [أوباما] ستستطيع حشدَ حجج قويّة لدعم موقف يدعو إسرائيلَ إلى ضبط النفس، وإلا هدّدتها الإدارةُ بعمل دبلوماسيٍّ في حال شنّها الحربَ» (1).
كما أنّ المرء لا يحتاج إلى الاطّلاع على عشرات المقالات المنشورة في الصحف الغربيّة والإسرائيليّة التي تتناول استعداداتِ دولة العدوّ للحرب على لبنان. بل بمقدوره أن يكتفي بمقال ديفيد هورويتز (جيروسالم بوست، 8/8/2010) عن الاستثمارات الهائلة التي خصّصتْها لتعزيز بنية الدفاع المدنيّ منذ آب 2006 تحضيرًا لصدّ عمليّات هجوم «ثأريّة» يشنّها عليها حزبُ الله أو غيرُه.
وأخيرًا، فإنّ في مكْنة المرء أن يتجاهلَ التهديداتِ الإسرائيليّةَ المتواصلةَ ضدّ لبنان منذ سنوات باعتبارها محض «تهويل» و«حربٍ نفسيّة». لكنْ هل يستطيع أن يتجاهل، على وجه الخصوص، تهديدَ وزير الدفاع الإسرائيليّ إيهود باراك بضرب «أيِّ هدف يخصّ الدولةَ اللبنانيّة، لا حزبَ الله فقط» (واشنطن بوست، 26/7/2010)؟

■ ■ ■


وفي المقابل، لننظرْ إلى ما فعلناه، نحن اللبنانيين، في «مواجهة» الحرب القادمة، القادمةِ فعلاً، بعد شهرين أو أربعة، أو بعد عامين أو عشرة، ما دامت إسرائيلُ الصهيونيّةُ على قيد الحياة، إذ لا حياةَ لها من دون الهيمنة والاستئساد والاحتلال والعنصريّة، كما خبِرنا كلَّ هذه العقود.
1ــــ فمعسكرُ 14 آذار يطالب، في حملةٍ مسعورةٍ ولكنها منسّقة، ببيروت «مدينةً منزوعةَ السلاح».
2ــــ و«المعارضةُ» اللبنانيّة تقتتل في ما بينها داخل زواريب بيروت.
3ــــ وأجهزةُ الأمن تكتشف المزيدَ من العملاء والمخْبرين لحساب العدوّ الإسرائيليّ. ويترافق ذلك مع ارتفاع نغمتيْن في الخطاب السياسيّ اللبنانيّ: الدفاعُ عنهم أو عن بعضهم، وإلقاءُ تبعات وجودهم على الطوائف الأخرى (باستخدام منطق «البيئة الحاضنة»).
أما ما لم تفعلْه الحكومةُ اللبنانيّةُ في مواجهة الحرب القادمة، القادمة فعلاً، فهو: 1) بناءُ ملاجئ وتجهيزات إنذار. 2) مناقشة جدّيّة لعرض إيران الأصوليّة تسليحَ الجيش اللبنانيّ، بعدما ثَبَتَ بالملموس أنّ شعاراتِ السيادة والحريّة والاستقلال لم تتحقّقْ بالاعتماد على أميركا الديموقراطيّة وعلى سلاحها (الفعّال في الداخل اللبنانيّ فقط). 3) كفُّ يد المحكمة الدوليّة عن قضيّة مقتل الحريري لثبوت إمعان هذه المحكمة في تخريب السلْم الأهليّ اللبنانيّ (الهشِّ أصلاً) عبر مواصلتها التلميح إلى ضلوع حزب الله في الجريمة، في مقابل غضِّها النظرَ عن شهود الزُّور. 4) إصدارُ بيان رسميّ لبنانيّ بتبرئة حزب الله من دم رفيق الحريري، بعدما برّأ ابنُه، سعد، النظامَ السوريًّ، نتيجةً لإلهام ربّانيّ، أو لقدرة العاهل السعوديّ على إقناعه بـ«الحقيقة» بعد خمس سنوات. 5) رفعُ دعوى دوليّة على إسرائيل وباراك بتهمة تهديد لبنان، وذلك استنادًا إلى المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة، التي تنصّ على وجوب أن تمتنع الدولُ الأعضاءُ «عن التهديد باستخدام القوّة أو استخدامها [فعلاً]». 6) مطالبة محكمة العدل الدوليّة بإصدار رأي استشاريّ يحدِّد العواقبَ القانونيّةَ لتهديد إسرائيل باستخدام القوة اللامتكافئة ضدّ لبنان، وباستهداف البنية التحتيّة المدنيّة اللبنانيّة، في حال نشوب نزاع مسلّح بين البلدين (2).

■ ■ ■


فلنتأملِ الآن ما فعلناه في لبنان مؤخّرًا في مواجهة تهديدات العدوّ، بادئين بأطروحة «نزع سلاح بيروت».
الحقّ أنّ هذه الأطروحة اكتسبتْ زخمًا كبيرًا بعد اشتباكات برج أبي حيدر منذ عدّة أسابيع بين حزب الله وجمعيّة المشاريع، وقبلها اشتباكات «اليوم المجيد» في 7/5/2008، ولكنّ لها سوابقَ أقدمَ بكثير. مَن مِن أبناء جيلي يَذْكر، مثلاً، «زعماءَ» بيروت (من ممثّلي السنّيّة السياسيّة خاصّة) حين توجّهوا في صيف 1982 إلى أبي عمّار يتوسّلون إليه أن يغادر بيروت، هو و«مسلّحوه»، ضنًا بسلامتها من القصف الإسرائيليّ؟
سلامة بيروت؟
حسنًا. انسحب أبو عمار و«مسلّحوه». ولكنْ دخل عملاءُ إسرائيل، وذبحوا بالبلطات آلافَ المدنيين اللبنانيين والفلسطينيين في مخيّمَي صبرا وشاتيلا، المنزوعَي السلاح. أيستطيع النائبان نهاد المشنوق وعمّار الحوري، وهما من أبناء ذلك الجيل، ولكنهما منزوعا الذاكرة على ما يبدو، أن يُنسيانا الجثثَ التي تكوّمتْ أو تعانقتْ في أزقّة المخيميْن في منتصف أيلول 1982؟ أكان مطلبًا عقلانيًا نزعُ سلاح بيروت والمخيّمات آنذاك، بصرف النظر عن النقد القاسي والمشروع والواجب للتجاوزات الفلسطينيّة المقيتة؟ وهل يحظى الفلسطينيّون وقيادةُ المقاومة الإسلاميّة اليوم بـ«محبّة» أكبر، لدى إسرائيل وعملائها، من تلك التي حظي بها أبو عمّار و«مسلّحوه» عام 1982؟
إنّ أكبرَ خطيئة يرتكبها لبنانيٌّ أو فلسطينيٌّ (ولا توازيها إلا خطيئةٌ أخرى سنتطرّق إليها عمّا قريب) هي أن يُلقي سلاحَه ما دامت إسرائيلُ الصهيونيّةُ موجودةً! على السلاح أن يبقى، وأن يزيدَ، وأن نتدرّبَ عليه، شابّاتٍ وشبّانًا... وكهولاً إذا أمكن. فالعدوّ متربّصٌ بنا، ما بقينا مرفوعي الرؤوس، مقاومين من أجل تحرير فلسطين والخلاصِ من الاستعمار وبناءِ الوحدة العربيّة. هذا أولاً.
ثانيًا، إنّ الكلاشنيكوف والآر. بي. جي والرمّانات اليدويّة، التي يَسْخر منها سمير جعجع وغيرُه ممن يُلْقون اليومَ على مسامعنا دروسًا في «المقاومة الفعليّة»، لا تحمي المدنيين من غدر العدوّ الإسرائيليّ وعملائه فحسب، بل كانت هي أيضًا التي تصدّت لإسرائيل بين عامَي 1982 و2000، وهي التي طردتْها شرَّ طردة من بيروت وصيدا والجبل. لا، لم تكن الكاتيوشا و«الفجر» و«الرعد» و«الزلزال» وأسلحةُ المقاومة الثقيلةُ الأخرى هي التي صَنعتْ مجدَ المقاومة الذي سطعتْ شمسُه من بيروت، بل الأسلحةُ الخفيفةُ التي امتشقها أبطالُ صيدليّة بسترس وكورنيش المزرعة ومحطّة أيّوب ومقهى الويمبي. الشهيد خالد علوان، بمسدِّسه (أو بمسدّس د. عبد الله سعادة كما يُشاع)، لا براجمة صواريخ، قَتل ضابطيْن إسرائيليّيْن وجرح ثالثًا حين كانوا يحتسون البيرة، بكلّ صلف، في بيروت، إحدى حواضر النهضة القوميّة التقدميّة العربيّة، قبل أن ينهالَ عليها المالُ الخليجيُّ ومالُ الأن. جي. أوز، مصحوبيْن بثقافة «التمكين» و«التنمية المستدامة» و«حلّ النزاعات بالطرق السلميّة». إنّ المطالبين بنزع سلاح بيروت قسمان: قسمٌ لا يَعرف الضغينةَ التي تكنّها إسرائيلُ لبيروت، هذه المدينة التي أطلقتْ شرارةَ المقاومة وصنعتْ روحَها من روايات غسان كنفاني وأشعار محمود درويش وكمال ناصر ورسوم ناجي العلي وأخلاق شفيق الحوت ومثابرة أنيس صايغ؛ وقسمٌ يتمنّى أن تأتي إسرائيلُ لتخلّصَنا من المقاومة والشيعة، وبظهرهم «الأحباش» والأوباش وجماعة جبريل (ولا بأس في بقاء بعض الوهّابيين والسلفيين والدحلانيين لاستخدامهم عند الحاجة). بيروت هذه، في الزمن السعوديّ ــــ الأميركيّ المتعفّن، لم تعد تنتخب المحامي الناصريَّ ولا الاقتصاديّ الليبراليّ الهاجس بفلسطين، بل ساقتها أخطاءُ السياسة الرسميّة السوريّة ومذهبيّةُ بعض أطراف المقاومة والمساعداتُ الحريريّة وانهياراتُ اليسار إلى أن تنتخبَ لوائحَ الـ«زيّ ما هِيّ»، وإنْ ضمّت هذه اللوائحُ شابًا يَفْخر بتعاون أبيه مع إسرائيل، وقبلَه سيّدةً طبختْ لشارون أشهى الأطباق (على ما لا يملّ الرفيق أسعد أبو خليل من تذكيرنا)، وكهلاً نقل البندقيّةَ من الكتف الحصّيّة إلى الكتف الحريريّة، فضلاً عن حشد من الإمّعات الانتهازيين: لا طعمَ لهم ولا رائحة، يهزّون رؤوسَهم لكلّ نكتة باهتة نطق بها «محسوبُكم سعد»، ويقهقهون طربًا لأيّ خطإ لغويّ اقترفه. في بيروت اليوم نوّابٌ يزعقون ضدّ السلاح، هكذا بالمطلق، دونما تمييز بين سلاحين: سلاحٍ ينبغي أن يبقى في بيروت (وغيرِها)، وآخرَ ينبغي أن يُزال من بيروت (وغيرِها) حرصًا على السلاح الأول وعلى كرامة بيروت وعروبتِها ومقاومتها. فأسلحةُ الجنوب والضاحية والبقاع وبيروت وكلِّ مناطق لبنان الأخرى هي، في المنطق الاستراتيجيّ الإسرائيليّ، وحدةٌ مترابطةٌ، أمسدّساتٍ كانت أمْ رشّاشاتٍ أمْ قنابلَ أمْ صواريخَ أمْ هواتف نقّالةً وغيرَ نقّالة؛ ولذلك فإنّ الأسلحة، في المنطق الاستراتيجيّ المقاوم، يجب أن تكونَ هي أيضًا وحدةً مترابطةً في كلّ الأمكنة والمجالات. ونزعُ سلاح إحدى حلقات هذه الوحدة مقدّمةٌ لإزالة شرعيّته في أمكنةٍ أخرى قد لا تَشْهد تماسًا مباشرًا مع إسرائيل ولكنها ــــ مع ذلك ــــ خزّانٌ بشريٌّ أو إمدادٌ سياسيٌّ أو معلوماتيٌّ للمقاومة.

■ ■ ■


بيْد أنّ المشكلة لا تنحصر في منطق نوّاب 14 آذار أو نوّابِ بيروت الحريريين فقط. بل تمتدّ لتشملَ عجزَ المقاومة و«المعارضة الملتبسة» عن حماية هذا السلاح أو تبريرِه، حتى باتت أطروحةُ «نزع سلاح بيروت» مقبولةً لدى بعض أنصار المقاومة أنفسِهم! هنا أيضًا يمدُّنا تاريخُ ما قبل سنة 1982، وبعيْدها، ببراهينَ وافرةٍ على أنّ أطهرَ القضايا تغدو أشدَّها تلوّثًا بسبب «التجاوزات» و«الاستثناءات» التي تحوِّل السلاحَ أداةً لتكريس المذهبيّة والفئويّة، وخدمةِ المصالح الإقليميّة، و«التشبيحِ»، وفرضِ الخوّات، واغتيالِ الخصوم داخل ما يُفترض أنه «ضمن الخندق الواحد» (مَن يَذْكر كيف قضى نخبةٌ من وطنيي هذا البلد ومثقفيه: حسين مروّة، مهدي عامل، كمال خير بك، بشير عبيد،...؟). فما الذي أعدّته المقاومة (حزبُ الله تحديدًا) لتبرِّر وجودَ سلاحها وسلاحِ حلفائها في بيروت (وخارج الجنوب عامّةً)؟ لا شيء. ببساطة، لا شيء، إلا كلامًا قديمًا يحاول أن يطمْئننا إلى أنّ حادثة برج أبي حيدر «عابرةٌ» افتعلها «مدسوسون».
وقانا الله شرَّ الـ... (ما عكسُ العابر والمدسوسين)؟

■ ■ ■


خلاصةُ القول إنّ وجودَ السلاح في لبنان (والمنطقةِ المحيطةِ بكيان العدوّ) ضرورةٌ لا مَحيدَ عنها، ولكنّ تنظيمَه يساوي ضرورة وجوده. والمسؤوليّة الأساسيّة في تنظيم السلاح المقاوم تقع في المقام الأول على حزب الله. غير أنها تقع بدرجة أقلّ على قوى المعارضة التي لا تني تتلقّى السلاحَ (والأموالَ) من الحزب المذكور، ولكنها قلّما عالجتْ حالاتِ التسيّب وما يُزعم أنه اختراقاتٌ داخليّةٌ نفّذتْها أجهزةٌ خارجيّة. وتنظيمُ السلاح يتطلّب غرفةَ عمليّاتٍ مشتركة، دائمةً، تَضْرب بيدٍ من حديد على كلّ مَن يسعى إلى إفقاد السلاح المقاوم شرعيّتَه في حروب الزواريب والطوائف والمذاهب والزعامات. لكنّ السؤال يبقى:
هل يستطيع حزبُ الله أن يقضي على أحد الأسباب الأساسيّة لـ«الاشتباكات الوطنيّة» الداخليّة، عنيْنا الحالةَ المذهبيّةَ في بيروت (ولبنان)؟
تصْعب الإجابة، لا لأنّ الأميركيّين والإسرائيليّين والعملاءَ يَعْملون منذ مدّة، بدأبٍ واضحٍ، على إحداث فتنةٍ سنّيّةٍ ــــ شيعيّةٍ مستطيرةٍ في لبنان شبيهةٍ بما يحدث في العراق، فحسب؛ بل أولاً وأساسًا بسبب غياب حالةٍ وطنيّةٍ ديموقراطيّةٍ عامّة. نعم، يستطيع حزبُ الله وأحزابُ «المعارضة الملتبسة» أن تخفِّفَ من الاحتقان المذهبيّ بالتأكيد، ولكنّ القضاءَ المبرمَ على المذهبيّة لا يتأتّى بإفطاراتٍ رمضانيّةٍ وتبويسِ لحًى واستذكارِ لحظات التعايش السنّيّ ــــ الشيعيّ في التاريخ (مع إغفال اللحظات الشنيعة الكثيرة الأخرى التي استفاض في الحديث عنها الباحثُ السوريّ جورج طرابيشي) (3). وهذه الحالة الوطنيّة العامّة تبدو مفتقَدة، للأسف، بسبب انهيارٍ أصاب القوى العلمانيّةَ، حتى تحوّل بعضُها إلى محض مستوعَبِ حنينٍ إلى المجد الغابر، وتحوّلَ بعضٌ ثانٍ إلى محض «عينٍ أمنيّةٍ» لحزب الله، وتحوّل بعضٌ ثالثٌ إلى ما يُشْبه فريقًا إعلاميًا تكاد أن تنحصرَ مهمّتُه في تدبيج بياناتٍ «غبّ الطلب» تدافع عن حزب الله دفاعًا تُعْوِزُه الثقافةُ التاريخيّةُ والابتكارُ أحيانًا. إنّ الحالة الوطنيّة الديموقراطيّة العامّة مبعثرة، خجولةٌ، واهيةُ الإمكانيّات، متناقضةٌ في ما بينها إلى حدّ الطعن في الظهر والمواجهاتِ الكلاميّةِ المؤلمة، لكني لا أرى غيرَها ــــ نظريًا ــــ إطارًا شعبيًا لبنانيًا يحمي المقاومةَ ويَرسم خارطةَ طريقٍ محتملةً لتجاوز الطائفيّة والمذهبيّة لمصلحة المواطَنة.

البيئة الحاضنة للعملاء والمخْبرين هي لبنانُ بأسْره حين يبتعد عن فلسطين والعروبة
وتزداد الحاجةُ إلى تنظيم السلاح المقاوم (والداعمِ للمقاومة) مع تزايد اكتشاف العملاء، ومع اتضاح حقيقةٍ مُرّةٍ: وهي أنّ ما يسمّى «البيئة الحاضنة» للعملاء لا تخصّ طائفةً واحدة، بل تخترق المجتمعَ اللبنانيَّ بمختلف «عائلاته الروحيّة». وليس من المبالغة القولُ إنّ الطائفة العميلة هي اليومَ، على مستوى بنيانها، أكثرُ المؤسّسات اللبنانيّة إلغاءً للاحتكار الطائفيّ (كي لا نمعنَ في السخرية ونقول: ... وتطبيقًا لـ«العلمانيّة»)! بل لا مبالغةَ في الزعم أنّ البيئة الحاضنة للعملاء والمخْبرين هي لبنانُ بأسْره حين يبتعد عن فلسطين والعروبة، وحين يتشبّث بطوائفه بديلاً، وحين يواصل حرصََه على أن يكون «وسيطًا محايدًا» في الصراع بين الظلم الإسرائيليّ والعدالة الفلسطينيّة.


1- كورتزر، بالمناسبة، ليس نكرةً في الولايات المتحدة: فقد كان سفيرَها في مصر (أثناء عهد كلينتون)، ثم سفيرَها في الكيان الصهيونيّ بين عاميْ 2001 و2005 (أثناء عهد جورج بوش الصغير)، قبل أن يقرّر التقاعدَ من العمل للإدارات الأميركيّة منصرفًا إلى السلك الأكاديميّ (جامعة برينستون).
2- أدين بالفكرتين الأخيرتين للرفيق نورمن فنكلستين، الذي يضيف أنّ مبادرة رسميّةً لبنانيّةً كهذه ستدفع الرأيَ العامّ الدوليّ إلى التركيز على الخطط الحربيّة الإسرائيلية المتعمّدة ضدّ لبنان، وقد تدفع محكمة العدل الدوليّة إلى إنذار قادة إسرائيل بأنّ تطبيقهم "عقيدة الضاحية" سيجعلهم مجرمي حرب ـ الأمر الذي قد يردعهم قليلاً.
3- راجع مجلة الآداب، العدد 7 ـ 9، 2007.
* رئيس تحرير مجلة الآداب. وهذه هي افتتاحيّة العدد الذي يصدر هذا الأسبوع