محمود منير*لم تأتِ نتائج اللقاء الأخير بين الحكومة الأردنية والحركة الإسلامية مفاجئة للمراقبين، إذ ظلت مواقف كلا الطرفين ثابتة. فهل يمكن القول إن حكومة سمير الرفاعي تعاملت مع اللقاء المرتقب في إطار سياسة إخماد الحرائق التي تشتعل في البلاد منذ مجيء الحكومة الحالية، فأبقت شعرة معاوية بينها وبين الحركة، ما سيحول دون تصعيد غير محتمل؟ وهل تستطيع الحركة الإسلامية تحويل مقاطعتها للانتخابات المقبلة إلى حركة احتجاج وطنية موسعة تسعى من خلالها نحو إصلاحات دستورية حقيقية؟
تساؤلات عدة برسم الإجابة لدى صنّاع القرار الأردني من جهة، ولدى الحركة الإسلامية من جهة أخرى، إذ يبدو الإصرار الحكومي على قانون الانتخابات ذاته الذي جلب أربعة مجالس برلمانية ضعيفة سابقاً في مقابل الإصرار «الإسلامي» على تغيير القانون، محاولة من كل طرف لإلقاء الكرة في ملعب الطرف الآخر.
الحكومة الأردنية تحاول من جانبها تفكيك أي مساع من جانب جماعة الإخوان المسلمين لتوسيع جبهة معارضتها بالتنسيق مع جهات حزبية ومستقلة، وهي تأمل ذلك بالنظر إلى وجود تيار قوي داخل «الجماعة» لا يؤمن بالصدام مع الدولة، وإلى اعتبار المقاطعة «الإخوانية» جزءاً من حراك داخل الجماعة يرتبط بما ستؤدي إليه التموضعات بين تياري الحمائم والصقور من تغيير في رؤية التنظيم الشاملة للقضايا الداخلية.
مقاربات الحكومة تجاه الاحتجاجات المتتالية (مثل حركات عمال المياومة والمعلمين ومقاطعة الإسلاميين) لم تسلم من النقد الإعلامي المتواصل، فلم تكن معالجاتها سطحية فحسب، بل حدت بالبعض إلى الغمز من استفادتها في إشغال الشارع الأردني بمعارضات جزئية لسياسات يمكن حلّها أو التعاطي معها «بالقطعة».
سياسة «القطعة» منهج اتبعته حكومة الرفاعي بدلاً من البحث عن حلول جذرية ترتبط بالملفات العالقة، ومن أبرزها الإصلاحات الدستورية التي تضمن توسيع قاعدة المشاركة الشعبية، ليس من خلال مجالس برلمانية يفرزها قانون انتخابي يحدد الفائزين بعضويته سلفاً، بل عبر ديموقراطية حقيقية يتم خلالها تداول السلطة التنفيذية، وهي إصلاحات لا تتأتى إلا عبر إطلاق حوار وطني مفتوح يعقبه استفتاء شعبي على «الملكية الدستورية» أو غيرها من الصيغ التي يمكن التوافق عليها.
الدوافع ذاتها التي يحاول سوقها بعض أطراف الحكم لتأجيل تلك الإصلاحات، هي فقط ما يدفع إلى الإسراع بتنفيذها. ففي ظل إفشال الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لأي اتفاقية سلام مع الفلسطينيين تمنحهم الدولة والسيادة وعودة اللاجئين، فإن انتظار الأردن مولد الدولة الفلسطينية كموعد لبدء إصلاحاته الداخلية يبدو لا طائل منه.
حاجة الأردنيين ــــ من شتى المنابت والأصول ــــ إلى ديموقراطية حقيقية تمثل أغلبية انتماءاتهم وتوجهاتهم السياسية لن تحلّها سياسة الانتظار التي ستعاقبهم بمجلس نيابي جديد في تشرين الثاني المقبل، ولا سياسة «الترقيع» التي تختلق الأزمات الصغيرة وتحلّها أو تتجاهلها فترة ثم تضطر لمواجهتها على عجل. وإحاطة الأردن بالأخطار الإقليمية هي ما تدفع إلى تأجيل الانتخابات المقبلة والانخراط بإصلاح حقيقي يأخذ مدى زمنياً محدداً يكون ضمانة مؤكدة من تلك الأخطار.
لا تقف الحركة الإسلامية بعيدة عن هذه الهواجس التي تشغل بال المواطن الأردني كلما عجز عن تأمين حاجاته الأساسية في ظل تخبط السياسات الاقتصادية الرسمية التي همّشت الجهاز البيروقراطي للدولة على مدى الأعوام الماضية، وتشغل باله أيضاً مع قرب كل استحقاق انتخابي في ظل تهميش القوى السياسية وسوقه إلى صندوق الاقتراع ليختار على أساس عشائري أو مناطقي أو مصلحي إمعاناً في تفتيت المجتمع وتوليد العنف داخله.

تصعيد «ناعم» هو ما يمكن إطلاقه على سلوك الحركة الإسلامية
يعتقد المحللون للشأن «الإخواني» أن تصعيداً «ناعماً» هو ما يمكن إطلاقه على سلوك الحركة الإسلامية قبيل الانتخابات المقبلة، وهو تصعيد يحقق أهدافاً عدة لها، إذ يضمن توحيد الحركة إلى أجل بعد التجاذبات التي خرجت للعلن بين تيارين يؤمن أحدهما (صقور، مقرب من حركة حماس) بوجوب المشاركة في الانتخابات، بينما يؤمن تيار الحمائم بضرورة المقاطعة، ويضمن كذلك بقاء «الإخوان» رقماً صعباً في المعادلة السياسية تسعى الحكومة لمحاورته.
التصعيد «الناعم» يحكمه انتصار تيار الحمائم الذي فرض المقاطعة، حيث سيسعى إلى تأكيد انتصاره داخل الحركة، ما قد يخلط التسميات والاصطفافات من جديد، لكنه سيبقي الاحتمالات مفتوحة أمام السعي لمزيد من الضغط على الحكومة كما يرى بعض منظري هذا التيار عبر التحالف مع قوى سياسية أخرى وطرح رؤية شاملة للإصلاح من زاوية تعكس تقديرهم لأهمية الفترة الحالية التي تتطلب «انغماساً» أكبر في الشأن الداخلي.
يفرض الحوار الحالي بين الحكومة والحركة الإسلامية إلى التذكير بتجاهل الدولة الأردنية لمقاطعة الحركة لانتخابات عام 1997، ما يفرض التساؤل عن اختلاف التعامل الحكومي مع الموقفين، الذي يعزوه البعض إلى اختلاف موقع حماس (حليف الحركة الإسلامية الأردنية) في المرحلتين، أو إلى استشعار الدولة الأردنية حجم الحركة في الشارع، حيث يقدّر مناصروها بعشرات الآلاف يتمركزون في العاصمة ومدينة الزرقاء.
التحول «الإخواني» يتطلب وقتاً أطول وإنضاجاً لعوامل أخرى داخل التنظيم نفسه، ما يدخلنا سباق المسافات الطويلة في زمن لا يتجاوز الخمسين يوماً، هو ما يفصلنا عن موعد الانتخابات النيابية المقبلة.
* صحافي أردني