سلامة كيلة *ما زالت الأزمة المالية محور السياسة العالمية. ويبدو أن المقارنة بينها وبين أزمة «الكساد العظيم» بدأت تسترعي بعض الدارسين لجهة الدور الذي باتت تلعبه الدولة. فقد دخلت هنا وهناك مباشرة في حل الأزمة. تلك الأزمة التي ضربت الرأسمالية سنة 1929 وأفضت إلى اتباع سياسات جديدة كانت تبدو مخالفة لمنطق الرأسمالية ذاته، نتيجة الدور الكبير الذي قامت به الدولة التي كانت حتّى ذلك الحين دولة السوق الحرة واليد الخفية. ولكن تلك الأزمة أفضت أيضاً إلى الحرب العالمية الثانية التي مثّلت تصارع الرأسماليات وهي تسعى لتجاوز الكساد الذي بات يضرب اقتصادها. وقد استطاع بعضها ذلك، وفشل آخرون (ألمانيا واليابان)، لكنها وسّعت من مساحة السيطرة الاشتراكية، وبالتالي تقلص السوق الرأسمالي.
فهل «العودة إلى دور الدولة» في هذه الأزمة الراهنة هو تكرار لما حدث بعيد سنة 1929؟
كان جوهر السياسة التي اتبعت آنذاك ينطلق من ضرورة زيادة الإنفاق الحكومي، وزيادة القدرة الشرائية من أجل زيادة الطلب على السلع. وقد نجح ذلك بعض الشيء، لكن الحرب الثانية وتوسع دور الدولة التي أصبحت «دولة رفاه» تحقق ضمان العمل والضمان الاجتماعي مع رفع مستمر للأجور، إضافة إلى الإنفاق الهائل لإعادة بناء أوروبا واليابان... كلّ ذلك فرض تجاوز الأزمة التي عادت تضرب الرأسمالية منذ نهاية ستينيات القرن العشرين، وخصوصاً في سبعينياته، واستمرت إلى الآن. لكنها منذ السبعينيات، باتت تتخذ شكلاً آخر تمثّل في بدء نشوء تراكم مالي لا مكان له في قطاعات الاقتصاد الحقيقي. لذا، بدأ هذا التراكم يبحث عن منافذ جديدة، هي المشتقات المالية، وأسواق الأسهم التي تحوّلت تدريجياً إلى سوق عالمي.
فهل تحل السياسات التي اتُّبعت منذ نهاية سنة 2008 الأزمة القائمة؟
انطلقت هذه السياسات من تدخل الدولة، وضخ التريليونات من الدولارات، والسيطرة على بنوك ومؤسسات مالية (مؤقتاً). ولقد لعبت الدولة الدور المحوري هنا، لكن بطريقة معاكسة لما حدث في الثلاثينيات، حيث كان تدخل الدولة يهدف إلى إنعاش الحركة الاقتصادية (في الاقتصاد الحقيقي) عبر زيادة القدرة الشرائية، وزيادة الإنفاق الحكومي، مما كان يسمح بتراجع الكساد وإعادة الحركة إلى العجلة الاقتصادية. وساهمت الحرب الثانية وإعادة إعمار أوروبا واليابان في ضخ مليارات الدولارات التي تركزت على شراء السلع الحقيقية. وكان كل ذلك ينشّط الصناعة، وبالتالي التجارة والخدمات، والاقتصاد بمجمله.
في هذه الأزمة، جرى ضخّ الأموال بكمية أضخم بكثير مما ضُخّ آنذاك، لكن بطريقة معاكسة. فقد استأثرت البنوك بهذه الأموال كلها، من أجل تجاوز أزماتها التي تولدت عن انكشافها إزاء ديون الرهن العقاري أولاً، التي أسست لتشابك عمليات انكشاف في كل القطاع المالي، وأظهرت أن هذا القطاع على شفير الانهيار. وعمدت الدول الرأسمالية إلى مركزة مجهودها من أجل وقف هذا الانهيار عبر ضخ أكثر من ثلاثة تريليونات دولار. وبالتالي حُلت «أزمة السيولة»، وأعيد الاعتبار لـ«الرأسمال المالي»، أي للكتلة المالية التي باتت تنشط خارج دائرة الاقتصاد الحقيقي، أي في مضاربات أسواق الأسهم والمشتقات المالية والديون. ولهذا عادت الحيوية إلى هذا القطاع الذي هو قطاع مالي. وانعكست هذه الحيوية جزئياً ومؤقتاً على بعض قطاعات الاقتصاد الحقيقي، لكنها لم تسعف الشركات الصناعية وكل القطاعات الأخرى.
وبالتالي، كيف ستحل أزمة الركود التي ترافق أزمة السيولة، والتي تسبقها بعقود؟
جاءت السياسات الحكومية معاكسة لما قامت به الدول الرأسمالية في الثلاثينيات من القرن الماضي
هنا جاءت السياسات الحكومية معاكسة لما قامت به الدول الرأسمالية في الثلاثينيات من القرن الماضي، أي عبر سياسة تقشفية ضخمة. سياسة تضعف القدرة الشرائية عبر امتصاص الأموال لضخها في القنوات المالية، الأمر الذي يزيد من تضخم الكتلة المالية، وبالتالي من خطرها. وهذا ما سيضاعف أزمة الاقتصاد الحقيقي، في الصناعة أولاً حيث فائض إنتاج ضخم، ثمّ الزراعة والتجارة والخدمات. ولأن هذه الدول كانت تعاني مديونية مرتفعة زادت كثيراً على ضوء هذا الضخ المالي، فهي لن تكون في وارد التفكير في زيادة القدرة الشرائية عبر الضخ المالي في الاقتصاد الحقيقي والأجور.
فهذه الدول كانت تعاني مديونية مرتفعة، وجاءت السياسات التي تبعت أزمة أيلول 2008 لتزيد من هذه المديونية إلى حدود مخيفة. فقد وصلت مثلاً مديونية الولايات المتحدة إلى ما يقارب 13 تريليون دولار، أي ما يوازي مجمل الدخل القومي. ومديونية اليابان بلغت 180% قياساً على دخلها القومي. وكل الدول الأوروبية تعاني المشكلة ذاتها. وبالتالي، أصبحت الدول الرأسمالية مثقلة بمديونية لا تسمح لها بأن تزيد الإنفاق. على العكس من ذلك، باتت بحاجة إلى كبح الإنفاق والضغط على الأجور وزيادة الضرائب، وهي السياسة التي تعاكس حاجات الاقتصاد الحقيقي من أجل تجاوز الكساد.
فقد أصبحت مواجهة المديونية، وخصوصاً خدمة الدين العام، تفترض سياسة اقتصادية قومية تهدف إلى توفير الأموال اللازمة لسداد خدمة الدين العام التي باتت ضخمة كثيراً. وهو ما فرض امتصاص الفائض المجتمعي بتقليص الأجور ووقف التوظيف وزيادة الضرائب زيادة لافتة، ورفع أسعار الخدمات. الأمر الذي يفضي إلى تقلّص القدرة الشرائية كثيراً، وبالتالي تراجع المبيعات تراجعاً هائلاً. وهنا نلمس كيف أن هذه السياسة هي على النقيض من السياسة التي اتُّبعت بعد أزمة سنة 1929، وهي السياسة التي ستزيد في أزمة الصناعة والزراعة والتجارة والخدمات لا العكس.
وإذا كانت الأزمة الراهنة للرأسمالية قد تفجرت في المستوى المالي، أي كـ«أزمة مالية»، فإنها تتمظهر أصلاً بأزمة الركود الطويل الذي بدأ منذ سبعينيات القرن العشرين، وأفضى إلى أزمات إفلاس وانهيارات في الثمانينيات والتسعينيات وبداية الألفية الجديدة. ولهذا سنلحظ أن السياسات التقشفية الجديدة التي ستتوسع في الفترة المقبلة، سوف تعمق من هذه الأزمة في الاقتصاد الحقيقي، لتفضي إلى انهيارات في القطاع الصناعي، ولكن أيضاً في كل القطاعات الأخرى، التجارية والخدمية. فسيلعب تقليص النقد بأيدي المواطنين دور المهلك لهذه القطاعات، لأنه سيراكم من فيض الإنتاج، ومن فيض الخدمات، ويقلّص من المبادلات التجارية، مما يهدّد بإفلاس الشركات الصناعية والتجارية والزراعية والخدمية، وانهيار القطاعات العقارية في كل العالم.
لقد أقدمت الحكومات الرأسمالية على دعم القطاع الطفيلي الذي بات يلعب دوراً مدمراً لمجمل الاقتصاد، لأنه يقوم على المضاربة، وبالتالي يوجد كل أشكال التضخم، دون أن يجلب فائض قيمة كما يحصل في الصناعة والزراعة، التي هي عماد كل اقتصاد حقيقي. وبالتالي، سنلمس أن الحل الذي فُرض سيقود إلى عودة المشكلة من جديد، إذ لن تجد الأموال التي عادت للتكدّس في البنوك سوى المضاربة في أسواق الأسهم والمشتقات المالية والعقارات والمديونية، مجالاً لنشاطها، رغم «قانون الإصلاح المالي» الذي أقرّه أوباما، وكل «الضوابط» التي وضعتها الطُغَم ذاتها.
وهنا نلحظ أن هذه السياسات التي أُقرّت تشير إلى أن المسيطر على الدولة الرأسمالية هو الطغم المالية، ولهذا مالت لدعمهم فقط، الأمر الذي يجعلنا نستنتج أن الدولة الرأسمالية باتت تمثّل هذه الطغم أكثر مما تمثل ممثلي الاقتصاد الحقيقي. ولقد أصبحت ضد كل الطبقات الأخرى، من العمال والفلاحين والفئات الوسطى. وما بات يهمها هو إنقاذ هذه الطغم، وتضخيم أموالها، حتى وإن تحقق ذلك على حساب البشرية كلها.
* كاتب عربي