strong>كمال خلف الطويل*ذات يوم من أيام تشرين الأوّل/ أكتوبر 1970، جلس الملك حسين ليواجه الصحافة في أول مؤتمر له إثر وقف حربه ــــ المؤقتة ــــ على المقاومة الفلسطينية في الأردن، وفي أعقاب غياب الزعيم جمال عبد الناصر.
أهمية ذاك المؤتمر لم تكن في الأساس بموعده، ولا حتى في ما سبقه من أحداث جلل، بل في ما قاله الملك وردّده لأول مرة، ومفاده أن حربه أجهضت في المهد سعي المقاومة لإقامة وطن الفلسطينيين البديل في الأردن... وفوقه.
مذ ذاك التاريخ، والمقولة تلك تخضع لعملية أسطرة متواصلة وصلت بها إلى أن أضحت أيقونة تُستدعى عند كل منعطف يشعر عنده نظام عمان أن التلويح بالوطن البديل يردّ عنه كيد الخصوم، ويُخلّ توازن المتأبطين به شراً، ويسحب البساط من تحت مَن لا يشترون بضاعته ولا حتى بسعر الجملة.
بدأت تلك المقولة عند الحديث عن الفلسطينيين ونياتهم ومآلات أحوالهم، ثم انحرف استعمالها إلى ترداد أنها عينُ ما تريده إسرائيل وتبغيه... وبالتالي فالفلسطيني هنا ــــ كما قصْدُ التشكيك ــــ ينفذّ سياسة إسرائيل، بوعي أو بدونه.
ولعل جملة من المعطيات كفيلة بأن تفصد الصحيح من المكذوب في موضوعة الأردن ككل، وبالتحديد منها قصة الوطن البديل:
إن الضفة الشرقية لنهر الأردن هي امتداد جبلي ــــ صحراوي لفلسطين، التي هي بدورها الشطر الجنوبي من الشام/ سوريا، اسمها الفعلي والتاريخي هو «عبر الأردن»... أي امتداد وليس كينونة.
إن الإمارة ــــ المملكة هي افتعال وظيفي أقام به المحتل البريطاني دولة ــــ حاجزاً تقي ربيبه المشروع الصهيوني في فلسطين مخاطر الاتصال البري المباشر بسوريا والعراق والحجاز.
إن المحتل البريطاني نفسه، بالتوافق مع وكيله المحلي الملك عبد الله الأول، هو من أراد للأردن الوليد أن يكون الوطن البديل للفلسطينيين عبر إلحاق فلسطين الوسطى ــــ الشطر الباقي (مع غزة) من فلسطين التاريخية خارج قبضة الاغتصاب الصهيوني ــــ مع «عبر الأردن»... بهدف استئصال «فلسطينية» فلسطين العربية، التي هي الترياق الأفعل لسمّ الصهيونية المبتلاة به للتو... وبهدف إخضاع أولئك الفلسطينيين لنظام ربيب هو جزء عضوي من منظومة الأمن الغربية يدجّنهم ويرهبهم ويغويهم في آن، وينزع مخالب نزوعهم للثأر والتحرير والعودة.
الوطن البديل المرغوب هنا سعى لأردنة الفلسطيني... من بقي منه في فلسطين أو «عبر أردنها» بشمول ينتظم أوجهها القانونية والوظيفية والمعاشية.
إن تلك الأردنة بقيت خارج المذاق الفلسطيني العام، وبالأخص في فلسطين الوسطى، لا سيّما عند ارتطام نظام عمان بحركة القومية العربية كلما زاول دوره الوظيفي وكيلاً محلياً للأطلسي.
ما كان ذلك التنائي والجفاء لنفور من وحدة، بل ليقينِ أنها عملية تطويع مؤردِنة. ومع لعب نظام عمان دوراً ملوَّثاً في تسليم فلسطين الوسطى للاحتلال الإسرائيلي بعد يومين فقط من بدء حرب 67، فإن النفور الفلسطيني منه اشتد اضطراماً، وساعدت في احتدامه التوترات الناشئة عن صعود حركة المقاومة الفلسطينية «عبر الأردن»، التي بدا واضحاً، حتى من قبل معركة الكرامة، أن مصيرها هو الانفجار طال الوقت أو قصر.
ثم أتى أيلول الأسود فغدا الأخدود بين نظام عمان وفلسطينيي «عبر الأردن» بلا قاع.
بدأت نغمة الوطن البديل في التصاعد معطوفةً على جهدٍ محمومٍ بذله الملك حسين، منذ غداة هزيمة 67 وطيلة عقدين بعدها، في استعادة فلسطين الوسطى لمُلْكِه.
والحال أن استحضار عفريت شبح «البديل» تناسب طرداً مع تثبّتِه من سراب أمله.
ثم زاد في الطنبور نغماً أن اليمين الإسرائيلي، الذي اعتاش منذ أيام والده جابوتنسكي على مقولة للأردن ضفتان، استعمل فزاعة الوطن البديل، منذ عام 77، خدمةً لغرضين معاً:
أ ــــ تعميق الأخدود بين نظام عمان والفلسطينيين وإذكاء روح الفتنة.
ب ــــ الضغط على نظام عمان لتوفير المزيد من أمن الحدود، والتسليم بقدر أكبر من التنازلات في أرض «الحلم»: فلسطين الوسطى.
لنأتِ الآن إلى تفحص المقولة بعدما استعرضنا تاريخها وحيثياتها:
كما أن إسرائيل قلب المشروع الوظيفي الصهيوني الخادم للإمبريالية العالمية، فإن كيان «عبر الأردن» هو حارسه من الشرق وحجابه الحاجز. الأمل ذاته كان في لبنان الشمال، إلا أن معطيات محلية مختلفة أسهمت في وأده.
ثم إن التجربة الطويلة برهنت على كفاية نظام «عبر الأردن» واقتداره على أداء دور الحارس على طول 700 كم كانت كفيلة، لو تركت مفتوحة، بتحويل المشروع الإسرائيلي إلى كابوس يفوق عبؤه مردوده.
إن حركة القومية العربية طيلة سنوات 55ــــ67 كانت قادرة على مسح وجود نظام «عبر الأردن» لولا يقينها بأن ذلك يستتبع احتلال إسرائيل الفوري والكامل لفلسطين الوسطى... وهو أمر لم يكن في مقدورها التصدي له ردعاً ودرءاً بقوة السلاح بعد.
من هنا تحمّلها، على مضض، بقاء النظام: أمثلة صيف 58... ربيع 63... وخريف 66.
إنّ تسليم نظام «عبر الأردن» بخروج الشأن الفلسطيني في فلسطين من عباءته جعله أكثر تصميماً على أردنة من عنده من غالبية فلسطينية ــــ تتعدى ثلثي السكان ــــ في كل شيء، إلا مجال الحقوق السياسية العادية للمواطنين.
هنا تكفهر الأنواء وتهب رياح الخماسين منذرة، كل مرة، بقرب هبوب عاصفة استوائية اسمها «الوطن البديل». هو ذاته من أراد لفلسطينييه أن يُبدّلوا تبديلاً هو من لا يريد أن يُكمِل عليهم نعمة الأردنة بنيلهم تلك الحقوق ومزاولتها.
والحال أن عنصرية التعامل هذه تشتمل على خشية مستترة مبعثها أنّ من يُوصِل نوابه للبرلمان بكثرة غلّابة لا بدوأن يطالب بنصرة بني جلدته على المقلب الآخر من النهر... ولو مع الوقت. وذلك يُخلّ أيّما إخلال بمعادلة أن منْ إسرائيل غربَه و«عبر الأردن» شرقَه إن هو إلا شطيرة فلسطينية محصورة لا تملك إلا الانصياع للكبير منهما والصغير.
إن الولايات المتحدة لا تغيّر أحصنتها... إلا الخاسرة منها باطّراد. فما الذي يمكن أن تبغيه من تبديد جوهرة ثمينة من عيار 24 قيراطاً هي «عبر الأردن»، ولمصلحة من؟... ألمجهول فلسطيني قد يليه من يفكر عبر النهر، حتى ولو كان سلفه من طينة سلام فياض؟ أَتمعّنَ أحد في تداعيات ومخرَجات تواصل «عبر الأردن» مع فلسطين الوسطى في كيان واحد حر ٍّ محرَّر على إسرائيل وأحبابها، الأعراب منهم والأغراب؟
بالمِثل... ليس لإسرائيل، يسارها ويمينها، أية مصلحة في تهديد أو تبديل أو تعكير حليف أشعل أصابع يديه العشر في منادمتها، ومستعدٌ لإشعال أصابع قدميه إن دعا الداعي. دونَه لكانت إسرائيل مراتٍ كثيرة على حافة التداعي، بل وقعت في حفرته (لو قاتل مدافعاً في حزيران 67، أو اندفع مهاجماً في تشرين 73 مثالاً).
نصل الآن إلى دواعي هذا السعار الجديد حول «البديل» وخطره... محركاته ونواقله ومراميه:
إن في «عبر الأردن» «ليكودَ» يفوق نظيره الإسرائيلي عنصريةً وتصهيناً، بل يظنّ لصغر عقله أن أردنة «عبره» لا تتأمن ولا تتوطد إلا بكنسِ فلسطينييه من لدنه ونثرهم في زوايا المعمورة الأربع.
بذا يَسلَم أردنه ويعيش في ثبات ونبات مع صنوه الصهيوني في الغرب دون معكّر ولا منغص... أو، في أقلّه، يتلبّس من بقي تحت بسطاره من ناقصي الأردنة رهاب خوافٍ يضمن استسلامهم المستدام وغير المشروط لمواطنية من الدرجة الثالثة.
والمثير أن الليكود هذا يعجّ بمخلوقات شائهة، بعضها انبثق من البادية وبعضها من الحضر، فيها الأمي والماركسي... من كان قومياً ومن عاش ملكياً، من رطن بالعلمانية أو من اندرج في الإخوان.
تتصل بأكذوبة الوطن البديل ثانيةٌ لا تقل عنها خواءً وزيفاً مفادها أن تهجير مواطني فلسطين الوسطى لا بد آت... حقاً آت. إذ لا خلاص لإسرائيل على الأمد الأبعد إلا بإلقائهم في مكب «العبر»، حيث البديل.
والحاصل أن بواكير تهجير كهذا لاحت عبر اليومين التاليين لتسليم القيادة الأردنية فلسطين الوسطى لمتسلمها المحتل الإسرائيلي في السابع من حزيران، وتحت وطأة هزيمة شديدة الفداحة خرجت عن حسابات أي توقع.

بدأت المقولة عند الحديث عن الفلسطينيين ونياتهم ثم انحرف استعمالها لتصبح عين ما تريده إسرائيل
وسرعان ما تملك الناس وعيهم وتبدى للمحتل عبث محاولته وانعكاساتها المحيطية والدولية.
والحال أن الشعب الفلسطيني لن يقع ثانية في فخ الهجرة أو الانصياع لتهجير جماعيين، وذاكرة أجياله الجمعية قد اكتوت برهاب 48.
وثانياً فلا قِبَل لإسرائيل على الإقدام على مغامرة خاسرة كتلك، إن عملانياً أو شرعياً أو دولياً، وتحت أي مقياس يعتمده أيّ
كان.
وثالثاً، فالولايات المتحدة لم ولن تكون في وارد أن تسمح لمختل في إسرائيل بالمضي في خيار تهجير كهذا لكل ما سلف من
عوامل.
هي فزّاعة يسرّبها الإسرائيلي ويغذّيها الأعرابي ويتوهمها الساذج ويلوّح بها من يَحسُن الاشتباه بخبَله أو شبهته.
هل يصلون لحد إشعال فتنة أهلية دموية طلباً لتنظيف «العبر» من «ملوّثيه»؟
ليس القرار بيد المحلي بل هو حصراً ملْكُ السيد الأكبر، لا سيّما أنّ للفتنة مُوقداً واحداً هو من يملك السلاح... أي ليس الفلسطيني.
لا أدري ما الذي ستستفيده واشنطن من فتنة كهذه... لا فلسطينيو «العبر» يلعبون دور الظهير لمفاوض فلسطيني حريص وحازم داخل فلسطين أو خارجها، ولا هذا المفاوض الراهن في صدد تفعيل سند كهذا. ثم إن تصاعد حس التململ من الحرمان السياسي قد يخلخل أعمدة النظام إن تُرك دون مداراة. وليست الفتنة بالتأكيد هي ذاك السبيل.
والراجح أن استهلاك النظام لمقولة «البديل» يكاد يستنفد أغراضه، لا سيّما وهو يتصاغر مستسهلاً لنفسه سبلَ تحايلٍ معيبة تحرم أعداداً متزايدة من فلسطينييه من الجنسية التي فرضها عليهم بالأساس، عربونَ مواطنة مكتملة الأركان كما شعارُ مؤتمر
أريحا ــــ 50.
كم الفارق مهول بين «البديل» و«المنطلق»... أن يكون «العبر» منصة تحرير وظهيره، فهذا مستقرٌ في لاشعور العربي، لا الفلسطيني فحسب، وشرطٌ لازب لعمليته... والمفترض أنه تلواً مستقَرٌ لمن فيه من عرب فلسطين و«عبر أردنها»، مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات بأسرها دون نقصان ولا انتقاص.
وطنٌ هو «بديل» عندهم، ولم يكن مرة بديلاً عندنا ولنا... ولن يكون.
* كاتب عربي