strong>عصام العريان*يصاب المراقبون هذه الأيّام بدهشة واستغراب من حجم الأزمات التي تقع في مصر وتجمعها كلّها عدّة ظواهر لا تخفى على عين اللبيب.
أولى تلك الظواهر: أنه لا حل لأيّ أزمة من الأزمات المتفجّرة، بل يستمر بعضها سنوات دون بارقة أمل في الوصول إلى بر الأمان، مثل أزمة بدو سيناء، وتعامل وزارة الداخلية معهم.
ثانية الظواهر: أنّ الدولة غائبة في الحلول، حاضرة في خلق الأزمات، كأنّ الجهاز الإداري والسياسي في مصر قد تفكّك ولم يعد قادراً على العمل والإنجاز، فيتسبّب بضعفه وتفكّكه في خلق الأزمات، ثم يتسبّب بضعفه وتنافسه على استمرار الأزمات دون حلول.
الثالثة: وجود مراكز قوية داخل النظام، وهذه ظاهرة معروفة عند نهاية العهود والعصور، وهذه المراكز يحارب بعضها بعضاً، وبعضها يدبّر المؤامرات ضد بعض، وهذا يؤدّي إلى بروز ظاهرة خلق الأزمات لإعاقة بعض مراكز القوى عن تقدّمها، أو لإظهارها في حالة الضعف.
رابعتها: أن تلك الأزمات تعبّر عن حالة مجتمعية حقيقيّة. فهناك انسداد سياسي يمنع حرية التعبير وحرية التنظيم التي تساعد على تنفيس الاحتقان، وهناك فساد إداري ومالي جاثم على الصدور لا آليات واقعية لمحاسبته ومراقبته.
وهناك وضع اقتصادي صعب وعسير يجعل المواطنين في ساقية العمل المتواصل لسد أبسط الاحتياجات، وهناك تفاوت طبقي ومالي رهيب، يؤدي إلى الحقد والحسد، ويساعد على الانفجارات. بل هناك نتيجة لذلك كله، تفكّك أُسري واجتماعي باعد بين الناس وبين الأقارب، وخاصةً في المدن الكبرى، وإلى حدّ ما في الأرياف.
هذه الأزمات التي تعيش مصر على وقعها الآن متعددة ومتفاوتة التأثير.
أهمّ تلك الأزمات هي:
1ـــــ أزمة بدو سيناء في مواجهة وزارة الداخلية، أو قل في مواجهة النظام.
2ـــــ أزمة العدالة في مصر بسبب الاحتقان الحاصل حالياً بين المحامين والقضاة، الذي يتكرّر بين الحين والآخر.
3ـــــ أزمة التعذيب في أقسام الشرطة، والقتل خارج القانون، التي أظهرها مقتل الشاب خالد سعيد في الإسكندرية نتيجة العمل بحالة الطوارئ.
4ـــــ أزمة الرشى الخارجية التي فجّرتها قضايا مثل شركات مرسيدس وفيروشتال الألمانية، التي تكشف تغلغل الفساد إلى مستويات عليا في الإدارة، وصولاً إلى الوزراء.
5ـــــ أزمة تزوير الانتخابات التي أظهرت حالة الانسداد السياسي الحالي، وخنقت الآمال في الإصلاح السياسي السلمي، وخاصةً بعد التعديلات الدستورية التي قلّصت أو ألغت الإشراف القضائي على الانتخابات.
6ـــــ أزمة مياه النيل بين دول المنبع في أعالي النيل وإثيوبيا ورواندا وأوغندا وكينيا... وبين دول الحوض في السودان ومصر.
7ـــــ أزمة تصاريح الزواج الثاني للمسيحيّين، ورفض الكنيسة الأرثوذكسية حكم القضاء الإداري.
8ـــــ الأزمات الاقتصادية المترتّبة على الخصخصة وملفات الفساد التي ظهرت أخيراً وطاولت كبار الوزراء والمسؤولين مثل بيع جزيرة آمون في أسوان لوزير الإسكان الحالي.
9ـــــ الأزمة المكتومة غالباً، والمتفجرة أحياناً، بين مصر وحركة حماس، مما أدّى إلى ظهور الدور المصري كمتواطئ في إحكام الحصار على غزة، ومنع المصالحة الفلسطينية وإعاقة إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيّين.
10ـــــ أزمة مصر والجزائر على خلفية مباريات كرة القدم.
تكفي أزمة واحدة أو اثنتان من هذه الأزمات لبيان مدى الخطر الذي يتعرض له بلد مثل مصر، فكيف بتلك الأزمات مجتمعة في سنة واحدة أو عقد واحد من الزمان.
وتزيد من حدة تلك الأزمات أمور خطيرة مثل:
1ـــــ الحالة الصحية المتردّية للرئيس مبارك، وعامل السن التي وصل إليها، ممّا يعوق قدرته على اتخاذ القرار المناسب والسليم، ويترك فرصة خطيرة لبروز مراكز القوى من حوله.
2ـــــ بروز ملف التوريث خلال السنوات التي عاصرت تلك الأزمات، توريث الرئاسة والحكم لابن الرئيس، الذي التفّت حوله مجموعة من رجال المال والأعمال، وبعض المفكرين والمنظرين، وبعض الشباب، وكوّنوا مجموعة تتهيّأ لوراثة الحزب الوطني الحاكم، ووراثة البلاد، ونجحوا في السيطرة على مفاصل اقتصادية مهمّة وخطيرة.
3ـــــ تضخّم دور الجهاز الأمني متمثّلاً في وزارة الداخلية، التي أصبح من المعتاد إسناد التصدي لأيّ أزمة إليها.
4ـــــ الوهم الذي سوّقه نظام الحكم بأنّ البديل الوحيد له هو «الإخوان المسلمون»، وبذلك نجح في استقطاب بعض أحزاب المعارضة الرسمية إلى جانبه، مما أدى إلى قبولهم تزوير الانتخابات لمصلحتهم، وأدى في المقابل إلى استمرار الدعم الخارجي لنظام فاسد مستبد وتراجع الضغوط الدولية التي كانت تطالب بإصلاحات سياسية حقيقية وانتخابات حرة نزيهة.
هذه الأزمات التي تعيش مصر على وقعها أصابت المواطن بيأس وإحباط لأنها تبدو بلا حل ولا أمل في الوصول إلى نتيجة لها، وأصبح الشعب يتعايش معها دون حساسية كأنها من لوازم الحياة، لأن بعضها مستمر منذ عقود، وبعضها يتجدّد على فترات ولا حلول لها رغم خطورتها الشديدة على الأمن القومي المصري والعربي.
على سبيل المثال إذا تأمّلنا في الأزمة المتفجرة حالياً بين بدو سيناء ووزارة الداخلية المصرية نجد ملامح خطيرة جداً.
فهذه أزمة نظام حكم أهمل تعمير سيناء وتنميتها طوال عقود طويلة، وحرم المواطن المصري في سيناء حق تملّك الأراضي، ومنعه من العمل الطبيعي. فلا مشروعات تنموية ولا مشروعات استثمارية ولا مصانع ولا زراعة جادّة. الشيء الوحيد الذي جرى التركيز عليه هو المشروعات السياحية في جنوب سيناء فقط، وهي تتم لمصلحة كبار المستثمرين، ويعمل فيها شباب من الوادي لا من سيناء.
أصبح أهل سيناء غرباء في وطنهم، ومع تصاعد المقاومة في فلسطين باتوا محل اتهام بأنهم يهرّبون السلاح إلى المقاومة، وجرت مطادرتهم وإلقاء القبض على المئات منهم، وخاصةً مع تحول عمليات العنف إلى داخل مدن سيناء نتيجة المواجهات المستمرة مع الأمن.
أُلقي العبء على وزارة الداخلية، ونحّي جهاز الاستخبارات العامة والعسكرية، الذي كان يشرف على إدارة سيناء، وكانت النتائج مأساوية، حيث لا فهم ولا علم بطبيعة المجتمع البدوي السيناوي. كما عيّن وزير الداخلية رؤساء للقبائل والعشائر لا يقبلهم البدو ممّا أدّى إلى تفاقم الأزمات دون حل.
هذه أزمة تهدّد الأمن القومي المصري، والتماسك الوطني، وهي نتيجة طبيعية لمعاهدة كامب ديفيد وما تلاها من سياسات مع العدو الصهيوني، ركّزت على حماية أمن العدو ولو على حساب الأمن القومي المصري.
أزمة مياه النيل التي تهدد الأمن القومي المصري أيضاً، تصاعدت حدتها مع دول حوض النيل وتكتلت تلك الدول ضد مصر والسودان مما يهدد مستقبل الزراعة والصناعة والري واستصلاح الأراضي، بل ومياه الشرب في مصر. ولا شك أن هناك أيضاً دوراً خبيثاً للعدو الصهيوني في تلك البلاد، وهو يهدف إلى تحويل بعض مياه النيل إلى أرض فلسطين المحتلة عبر «ترعة السلام» التي توقّف العمل فيها.
الأزمة مع حركة حماس في فلسطين بسبب الانحياز المصري للموقف الصهيوني وموقف محمود عباس في ملفات المصالحة وصفقة تبادل الأسرى، ومع الجزائر بسبب مباريات الكرة، ومع سوريا منذ فترة طويلة، ومع السودان أخيراً... كل تلك الأزمات أدّت إلى تراجع الدور المصري العربي والمكانة المصرية في العالم بصورة واضحة جداً.
وأخيراً انفجرت في مصر أزمات ثلاث تهدّد التماسك الاجتماعي وهيبة العدالة والقضاء، وهي الحصن الأخير للمواطنين.
أزمة المحامين مع القضاة لأسباب بسيطة، إلا أنها تعكس في جوهرها صراع مراكز القوى الذي دمر الحصن الأخير للمواطن، وأطاح هيبة القضاء المصري، وخاصةً مع تزامنها مع رفض قاطع وباتّ من البابا شنودة لتنفيذ حكم المحكمة الإدارية العليا القاضي بإلزام الكنيسة المصرية بإصدار تصاريح زواج ثانية لمطلّقين مسيحيين. واستند البابا ـــــ ويا للعجب ـــــ إلى المادة الثانية من الدستور، التي تنص على أنّ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، وأنّ الشريعة تقول بعدم إلزام أهل الكتاب بما يخالف دينهم وأحوالهم الشخصية.

الدولة غائبة في الحلول، حاضرة في خلق الأزمات، كأنّ الجهاز الإداري والسياسي قد تفكّك تماماً
ثم أزمة قتل خالد سعيد، شهيد الإسكندرية وآخر ضحايا آلة التعذيب الجهنمية في وزارة الداخلية، الذي سقط مضروباً بقسوة من مخبرين في قسم «سيدي جابر»، التي أثارت الرأي العام المصري كلّه وأدانتها أميركا والاتحاد الأوروبي، مما دفع إلى تقديم المخبرين إلى محكمة جنايات بتهم بسيطة ليس بينها القتل العمد، ولكن القسوة في المعاملة.
هذه الأزمات الثلاث كشفت بوضوح عدم قدرة النظام على التعامل مع الأزمات وجموده وترهّله والتنافس الحاد داخل أجنحته، وخاصةً الأمنية، مع اعتماده الكامل على الحلول البوليسية وترحيل الأزمات. ومع هذا الضعف الواضح أمام الأزمات، كانت القسوة البالغة ضد المواطنين والأحزاب والقوى السياسية، وهو ما ظهر في التزوير الفاضح لانتخابات التجديد النصفي لمجلس الشورى، مما أضاف بعداً جديداً إلى الوضع الحالي، وهو انسداد القنوات الرسمية وتفريغ المؤسسات العامة من دورها المطلوب مما يؤدي إهماله إلى استمرار الأزمات.
هذا بلد يعيش على وقع الأزمات، فأين الجهود التي تبذلها القوى السياسية للخروج من المأزق، وما هو دور الدكتور محمد البرادعي، وأين موقع الإخوان من ذلك كله؟
(غداً: الفرز الحقيقي للمعارضة المصرية وأزمتها الحادة)
* قيادي في جماعة الإخوان المسلمين في مصر