علاء اللامي*لا تخفي التفاصيلُ البشعة للمجزرة التي ارتكبها مسلحو تنظيم القاعدة في حي الأعظمية بحق العشرات من الجنود والشرطة العراقيين كاغتيالهم وهم في مراكزهم بكواتم الصوت ومن ثم إحراق جثثهم في الشوارع العامة وتفجير ناقلاتهم كما نقلت وكالة فرانس برس، لا تخفي تلك التفاصيل الدلالات السياسية والاجتماعية المهمة بل البالغة الخطورة التي حملتها.
جاءت هذه المجزرة التي خلَّفت وفق بعض الإحصائيات (مصدر أمني للصباح الجديد البغدادية) أكثر من 20 قتيلاً و35 جريحاً من رجال الشرطة والجيش العراقيين وليس بينهم أميركي واحد، في غمرة استعصاء سياسي حاد بين الكتل والقوى السياسية المشاركة في العملية السياسية الاحتلالية التي انطلقت بعد الغزو حيث بلغت الفوضى والصراعات الفضائحية بين تلك القوى السياسية ذروتها، وما زالت مرشحة للاستمرار. كما أنها حدثت مع اقتراب الموعد الرسمي لسحب ما يقرب من ثلثي قوات الاحتلال وسيكون من المغري للمراقبين الربط بين الواقع الحالي المتردي أمنياً وخدماتياً وسياسياً وبين المستقبل المنذر بالمفاجآت بعد اكتمال انسحاب قوات الاحتلال، هذا إذا صدقت المزاعم وانسحبت فعلاً. من هنا، يمكن فهم وتفهم هواجس ومخاوف أولئك الذين يرون في أحداث العنف الأخيرة في الأعظمية «بروفة» أو عيِّنة صغيرة لما سوف يحدث بعد تولي قوات الأمن العراقية السيطرة على الوضع الأمني بمفردها في عموم العراق، وخصوصاً مع استمرار ــــ وربما تصاعد ــــ المأزق السياسي لأحزاب العملية السياسية الاحتلالية. غير أن الضربات القوية التي تلقاها تنظيم القاعدة، ومقتل واعتقال العديد من قياداته وكوادره المهمة، وتراجع ثم توقف عملياته النوعية الكبرى خلال الأشهر الماضية التي حصدت أرواح مئات العراقيين قبالة وزارات الخارجية والمالية ومحافظة بغداد ومجلس القضاء الأعلى، قد تعطي شيئاً من الحق لمراقبين آخرين يرون في أحداث العنف الأخيرة في الأعظمية مجرد خرق أمني خطير وغير قابل للتكرار، وخصوصاً إذا عولجت وأُطفئت الأسباب المساعدة على حدوثه. من تلك الأسباب، يذكر الشيخ عامر العزاوي رئيس مجلس إسناد الأعظمية المناوئ لتنظيم القاعدة، الممارسات الحكومية القاسية والخاطئة وقرارات الحرمان والتضْييق التي كان رجال «الصحوات» ضحيتها. بهذا الصدد، يخبرنا العزاوي أن رئيس الحكومة المنصرفة نوري المالكي كان قد وافق على ثلاثة اقتراحات قدمت له أخيراً لمعالجة أوضاع أولئك المسلحين في «الصحوات» الذين تمردوا في الماضي على تنظيم القاعدة وطردوه من الأعظمية، غير أن الحلقات الوسيطة في مكتب المالكي والكوادر الأمنية سعت إلى تمييع تنفيذ تلك المقترحات وعرقلتها لأسباب لم يعلن العزاوي عنها ولكنها لا تخرج ــــ كما نخمن ــــ عن دائرة الاستقطاب والتعادي الطائفي الذي يضمره المسؤولون الطائفيون الموتورون وذوو الأحقاد الخاصة في حكومة المالكي لرجال الصحوة.
ملامح واضحة لتبادل الخدمات غير المعلن بين قيادة قوات الاحتلال وتنظيم القاعدة
يمكن أيضاً أن نقرأ في هذه الأحداث ملامح واضحة للتخادم (تبادل الخدمات) غير المعلن بين قيادة قوات الاحتلال وتنظيم القاعدة، وخصوصاً بعد افتضاح دور الاحتلال في تهريب عدد من زعماء التنظيم من سجن «كروبر» قبل أيام، واتهام المفتش العام لوزراة العدل العراقية لقيادة تلك القوات بالتورط في تنفيذ عملية الهروب أو التهريب تلك، وعلى هذا فإن العداء المعلن بين القاعدة والاحتلال ينبغي النظر إليه من زاوية أخرى كنوع من التخادم، وأن انسحاب القوات المحتلة، لن يعني أن الاحتلال لن يكون موجوداً. هذا المعنى كرَّره قادة كبار في جيش الاحتلال، كان آخرهم رئيس هيئة أركان الجيوش الأميركية الجنرال مايكل مولن. غير أن تنظيم القاعدة والتنظيمات الصغيرة الأخرى المتحالفة معه لن تكون اللاعب الوحيد في ميدان ما بعد انسحاب الاحتلال حيث ستقف في مواجهتها فصائل مقاومة عراقية من تلك التي لم تستهدف العراقيين، كما أن الواقع الحالي للقوات الحكومية ورغم كل نقاط ضعفها ورغم محاولات الاحتلال للتحكم بها وكبح نموها وتطورها، لم يعد كما كان في سنوات الاقتتال الطائفي قبل ثلاثة أو أربعة أعوام، وهناك أيضاً القوى العشائرية المسلحة والمليشيات شبه الحكومية المناوئة للتيارات التكفيرية، وبالتالي فليس من المتوقع والسهل أن تؤدي مجازر وحمامات الدم التي ارتكبها أو سيرتكبها تنظيم القاعدة وحلفاؤه إلى كسر مهم في الوضع الأمني يؤدي خروج مناطق شاسعة من السيطرة المركزية، ولكنه قد لا يكون مستحيلاً.
إن كلاماً كهذا قد يفهم على أنه نتاج تفكير متفائل، غير أن الأمور ليست على هذه الدرجة من السهولة والتبسيط، فالوضع العراقي شديد التشابك، وخارطة القوى الداخلية المتصارعة والقوى الإقليمية ودول الجوار أكثر تداخلاً وتعقيداً وغموضاً مما يعتقد بعض الصحافيين العرب ممن يقلدون كتّاب المقالات ذات الطابع «البوليسي الخفيف» البريطانيين والفرنسيين والأميركيين، فيما هم لا يفقهون من الوضع العراقي وتجاذباته وخصوصياته نزراً يسيراً، فطوْراً يضعون مفاتيح الحل في جيب حاكم إيران، وآخر في قبضة الرئيس السوري، وثالثاً في دهاليز الخارجية التركية، ورابعاً في ماكينة الاستنساخ اللبنانية أو الأفغانية.
إن واقع الحال السياسي والاجتماعي المتردي والمأزوم ينبغي له أن يدفع الديموقراطيين والوطنيين العراقيين إلى البحث عن حلول فعالة مختلفة واجتراح سبيل جديدة وخلاقة للخروج من مآزق مرحلة ما بعد الاحتلال وعدم الاكتفاء بندب الحظ ولعن العملية السياسية الاحتلالية التي تحولت فعلاً إلى جثة هامدة لا حراك فيها ولا معنى لتأخير دفنها. أما المعوّلون على إنقاذ العملية السياسية الأميركية الآن، وفي مقدمتهم كبار «الحرامية» والفاسدين في الحكم وخارجه، والانطلاق بها ومنها إلى مرحلة جديدة إنما يبنون قصوراً في الهواء. فهذه العملية التي أطلقها وخطط لها الاحتلال، لا يمكن أن تعيش وتستمر بعد رحيل الاحتلال، وسيكون من العبث المراهنة على «تصافي قلوب» المالكي وعلاوي والصدر والبرزاني وغيرهم.
إن الأمر يتعلق بجزء حيوي من كيان سيرحل أو يزعم أنه سيرحل ولا بد للجزء أن يرحل مع الكل الذي هو منه. بكلمات أخرى لا بد للمنتوج أن يرحل مع منتِجه، أما بقاء عملية سياسية قائمة على المحاصصة الطائفية والعرقية خطط لها محتل أجنبي في ظل غياب المحتل ذاته، ومع نزوع شعبي عارم لديموقراطية علمانية حقيقية تعيد المعممين إلى مساجدهم وحسينياتهم وترسل المسؤولين الفاسدين والحرامية إلى القضاء وتكبح وتوقف محركات وبواعث الاستقطاب الطائفي والقومي في العراق، أما كل هذا فلا يعني سوى شيء واحد هو رمي العراق فعلاً في احتراب طائفي دائم يعيد إنتاج نفسه بمساعدة الوقود الآتي من دول الجوار وخاصة من السعودية وإيران وغيرهما والدخول في جحيم الصوملة.
بالعودة لأحداث العنف الأخيرة في الأعظمية، يمكن أيضاً أن نرى في ردود الأفعال المتشنجة التي تلت عمليات الدهم والمطاردة في الحي المذكور عَيِّنة صغيرة لما قد يحدث من ردود أفعال على أحداث عنف متوقعة مستقبلاً في هذه المنطقة الساخنة طائفياً وأمنياً أو تلك. فبعد ساعات من الإعلان عن تفاصيل ما حدث في الأعظمية، سارع إياد علاوي زعيم قائمة «العراقية» إلى إصدار بيان عاطفي وسطحي امتدح فيه «منطقة الأعظمية الكريمة والعريقة»، وطالب بوقف المداهمات والاعتقالات العشوائية فوراً وعدم زج الجيش في الأحداث «لأن هذا الأمر غير دستوري!». ومن الطبيعي جداً أن يكون الهدف الرئيسي والأول في أحداث كهذه هو الدفاع عن الأهالي والمدنيين في الأعظمية أو غيرها، كما ينبغي تفهُّم عدم تعاون أولئك الأهالي مع القوات الأمنية خوفاً من انتقام التنظيم التكفيري الذي يعاقب بدموية رهيبة كل من يقف ضده ويتعاون مع القوات الحكومية، غير أنّه من المعيب وغير القابل للتبرير حقاً السكوت على جريمة قتل الجنود والشرطة العراقيين والتمثيل بجثثهم بتلك الهمجية تحت راية تنظيم القاعدة التي رفعها الملثمون وعدم التعليق أو التوقف عند هذه الأفعال. وهنا، فلا ندري في الواقع أين نضع ادعاء زعيم البعث عزة الدوري الذي ورد في تسجيل صوتي جديد بثته قناة الجزيرة خلال الأحداث الأخيرة بأن حزبه أصبح «المرجعية والحاضنة العملية للمقاومة الجهادية»، وقد حدث ما حدث في قلعة البعثيين الأعظمية وتحت راية تنظيم القاعدة! في المقابل سكتت وسائل إعلام ذات خلفيات طائفية شيعية عند تفصيل إحراق الجثث والشناعات الأخرى، ولم تعلق أو تتوقف قط عند معاناة أهالي الأعظمية من المدنيين الأبرياء خلال الأحداث وحالة الحصار التي فرضت عليهم فأصبحوا بين سندان تنظيم القاعدة ومطرقة القوات الأمنية الحكومية. في كلتا الحالتين طاش سهم الصواب والاعتدال وعاد الطرفان إلى ترسانتهما ودوافعهما الطائفية المحضة.
على هذا وبسببه، سيكون من المفيد والمُلح للقوى الديموقراطية والوطنية العراقية الناشطة خارج العملية السياسية الأميركية، الشروع ببناء مصدّات مدنية سلمية على شكل جمعيات واتحادات وهيئات مستقلة هدفها الدفاع عن الأهالي والمدنيين أينما كانوا، وفضح الممارسات الدموية والجائرة للأجهزة الحكومية والأحزاب الطائفية والعرقية المهيمنة والجماعات المسلحة التكفيرية معاً. وبما أنه من المتوقع ألا تلتفت أغلب الأحزاب العراقية الكبيرة والبالغة التفسخ إلى مهمة مصيرية كهذه، فسيكون لزاماً على المثقفين النقديين من إعلاميين وعلماء وكتاب وفنانين ومختلف المنضوين ضمن طبقة الانتلجنسيا العراقية في الداخل والخارج التصدي لها وتحويلها إلى واقع فعلي على الأرض لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
* كاتب عراقي