مصطفى بسيوني *خلافة مبارك وحالته الصحية والانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة والطوارئ وحركات الإصلاح الديموقراطي وحركات النضال الاجتماعي والعلاقة مع دول حوض النيل... هذه بعض القضايا التي تتبادر إلى الأذهان فور مناقشة مستقبل الأوضاع في مصر. ولا يختلف أحد على تأثير كلّ منها في أيّ تحوّلات ستشهدها مصر في المرحلة المقبلة.
ولكن هناك قضية أخرى تتفاعل بقوة داخل المجتمع المصري، وتوشك أن تكون عاملاً حاسماً في ما سيحدث في مصر في هذه الفترة. هذه القضية هي تدبير الاحتياجات اليومية للأسرة المصرية في ظل موجات الغلاء المتتالية.
ويتضح حجم الأزمة التي تعانيها الأسر الفقيرة في مصر بسيب ارتفاع الأسعار من خلال إطلالة سريعة على موجات الغلاء المتتالية في الفترة الأخيرة. لقد تقرّر صرف علاوة اجتماعية للعاملين بنسبة 10% ابتداءً من شهر تموز/ يوليو المنصرم لمواجهة ارتفاع الأسعار. هذه العلاوة تحدَّد بناءً على الأجر الأساسي الذي لا يصل إلى نصف الأجر الشامل للعاملين بأجر سواء في الدولة أو القطاع الخاص، أي إنّ نسبة الزيادة في الأجر أقل من 10%. والملاحظ أن نسبة التضخم في شهر أيار/ مايو كانت قد وصلت بالنسبة إلى الغذاء والسلع الأساسية إلى ما يقرب من 20% قياساً بالفترة المثيلة لها من العام السابق حسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. أي ما يزيد على ضعف الزيادة في الأجور. وإن كان الخبراء المستقلون يرون أن أرقام التضخم الحقيقية تزيد عادة عما تعلنه الدولة. ولكن حتى وفقاً لما تعلنه الدولة، فإنه بموجب العلاوة وارتفاع الأسعار تكون الأجور الحقيقية قد انخفضت وأصبحت أقل قدرة على تلبية الاحتياجات الضرورية. ولكن لم يتوقف الأمر عند هذا الحد. فارتفاعات الأسعار كانت قبيل صرف العلاوة تمهيداً والتالي كان أسوأ. والمؤشرات تشير إلى موجة أعلى من ارتفاع الأسعار مع شهر تموز/ يوليو. فقد ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة تراوح بين 15 و20% في الموجة التالية، وتجاوزت ذلك في بعض السلع، حيث زادت أسعار الدخان بنسبة حوالى 50%. وتشير دراسة مستقلة عن التضخم إلى أن نسبة الزيادة في الأسعار في الفترة من نيسان/ أبريل إلى تموز/ يوليو 2010 تجاوزت 34%. لا ينتهي الأمر عند هذا الحد، فقد تلت كل ذلك موجة غلاء مضافة واكبت شهر رمضان، الذي يتزايد فيه الطلب على السلع الغذائية.
نسبة الزيادة في الأسعار في الفترة من نيسان إلى تمّوز 2010 تجاوزت 34%
هذه البيانات تفيد أن الغلاء أضاف أعباءً ثقيلة إلى كاهل الأسر الفقيرة في مصر. لكنّ أوضاع الأجور تجعل هذه الأعباء كابوساً حقيقياً. فبحسب بيانات الدولة يصل متوسط أجر العامل في القطاع الخاص، الذي أصبح يضم معظم العاملين، إلى أجر 275 جنيهاً أسبوعياً، أي 1100 جنيه شهرياً (حوالى 200 دولار). وبالمناسبة، فإنّ متوسط ساعات العمل في القطاع الخاص وفقاً أيضاً لبيانات الدولة هو 57 ساعة أسبوعياً، وهو من أعلى المعدّلات في العالم. ولكن حتى هذا المتوسط الهزيل يخفي تفاوتاً كبيراً بين قطاعات العمّال. فمثلاً متوسط أجور العاملين في التعليم 111 جنيهاً أسبوعياً، أي أقل من نصف المتوسط العام وهو قطاع ضخم. ومتوسط أجور العاملين في الصحة 120 جنيهاً أسبوعياً. وبحسب معدلات الإعالة في مصر، فإنّ الأجر يعيش عليه أربعة أفراد. وأجور كتلك ستبتلع نصفها على الأقل تكلفة سكن متواضع. وما سيبقى من فواتير الكهرباء والغاز والمياه والاتصالات لن يكفي الحاجات الضرورية بهذه الزيادات في الأسعار لمنتصف الشهر دون التعرض لنفقات الصحة والتعليم ولا الترفيه طبعاً. ليس مجرد عبء لكنه كابوس حقيقي في مجتمع يعيش 40% من سكانه تحت خط الفقر الأعلى.
لقد ضربنا مثلاً بالعاملين في القطاع الخاص على أساس أنهم يمثّلون الآن معظم العاملين بأجر في مصر وهناك طبعاً العاملون في الحكومة، الذين تزيد أجور قطاعات منهم قليلاً عن متوسط أجور القطاع الخاص. ولكن هناك أيضاً قطاع واسع من العمالة غير المنتظمة، والمهمّشين اجتماعياً، لكن حتى بعض شرائح الطبقة الوسطى والمهنيّين أصبحت تعاني أيضاً بشدة من الغلاء وعجز دخولها عن تلبية احتياجاتها. وليست حالات الانتحار المتكررة في الفترة الأخيرة لشاب عجز عن تدبير تكاليف الزواج أو لأب فشل في توفير احتياجات أسرته سوى إشارات واضحة إلى عمق الأزمة ونتائجها المحتملة.
هل معنى ذلك أنّ مصر قد تشهد انتفاضة شعبية على غرار انتفاضة كانون الثاني/ يناير 1977؟ لقد شهد المجتمع المصري موجات من ارتفاع الأسعار والأزمات لا تقل قسوة عن التي يعيشها اليوم، ولكنْ هناك عاملان تغيّرا في السنوات الماضية. أوّلهما أنّ بعض الحلول الفردية ـــــ التي كانت جماعية في واقع الأمر ـــــ قد تراجعت بشدة مثل السفر للعمل في بلاد النفط أو العمل في وظيفتين لزيادة الدخل. وذلك بسبب تزايد العمالة الآسيوية في الخليج وتزايد البطالة في الداخل بما يجعل الحصول على فرصة عمل واحدة صعباً. وثانيهما التراجع المستمر لدور الدولة الاجتماعي الذي كان يضمن حداً أدنى لقطاعات واسعة وترك كل شيء لآليات السوق. ومثلاً تشير مؤشرات ميزانية العام المالي المنصرم 2009 ـــــ 2010 إلى انخفاض مخصصات دعم السلع التموينية بنسبة 20% عن العام السابق، بحسب تقرير وزارة المالية. هذان العاملان يجعلان الأزمة أكثر استحكاماً ويقلّلان حتى من فرص تسكينها.
ولكن هناك متغيّر آخر غاية في الأهمية. فما شهده المجتمع المصري في السنوات الأخيرة هو حالة احتجاج ممتدة انتقلت من قطاع إلى قطاع ومن محافظة إلى أخرى. العمال والفلاحون وسكان العشوائيات والمهنيون والموظفون والأقباط، إضافةً إلى الاحتجاجات السياسية وحركات التغيير. كما لو كان هناك تمرين يومي على الاحتجاج ومواجهة الأمن. إن مجموع الاحتجاجات التي جرت خلال الأعوام الأربعة الأخيرة فقط يفوق أيّ انتفاضة من حيث عدد المشاركين. بل إن ما حدث في مدينة المحلة في نيسان/ أبريل 2008 كان انتفاضة لمدة ثلاثة أيام، أعلنت المدينة بالكامل فيها غضبها وواجهت الأمن ولم تهدأ إلا بعد توجّه رئيس الوزراء إليها وتقديم تنازلات إلى العمال والأهالي. كانت الهتافات ضد الأسعار هي الأكثر انتشاراً في تلك الانتفاضة المصغّرة. وقد حملت بعض الاحتجاجات إشارات إلى ما يمكن أن يحدث عندما ينفد صبر الجماهير، مثل محاولة العمال المعتصمين اقتحام مجلس الشعب في أيار/ مايو الماضي، وقطع الطرق السريعة في أكثر من مكان وأكثر من مناسبة. وكان آخرها في الأسبوع الماضي ثلاث مرات متتالية وفي ثلاث محافظات مختلفة في حلوان عمال شركة المعدات التليفونية، وفي العاشر من رمضان عمال شركة سالمكو للغزل، وفي القاهرة أهالي مصر القديمة. وسبق ذلك العديد من التحركات المماثلة. اللافت أن انتفاضة كانون الثاني/ يناير 77 سبقتها أيضاً إضرابات عمالية في هيئة النقل العام والمحلة، وعدد آخر من المواقع العمالية، التي شهدت احتجاجات في السنوات الماضية.
بعد الحديث عن هذه المتغيّرات نعود إلى السؤال: هل انتفاضة شعبية في مصر أمر وارد؟ لا تشبه المجتمعات بالمرة معامل الكيمياء، حيث يمكن معرفة نتيجة خلط بعض العناصر مسبقاً طالما عرفنا درجة الحرارة ونسبة الرطوبة. فنفس المقدمات قد تعطي نتيجة مختلفة في كل مرّة. وعادةً ما تسبق التوقعات الخاصة بالمجتمعات كلمات مثل «قد ـــــ ربما ـــــ احتمال». ما يمكن الحديث عنه بتأكيد أكثر هو أنّ أوضاع كتلك لا يمكن أن تستمر دون ردود أفعال. وأنّ ردود الأفعال الجماهيرية التي قد تتفجّر ستعني بكل تأكيد أنّ مستقبل النظام والإصلاح الديموقراطي والتغيير كلّها ستحسب على أرضية مختلفة تماماً.
* صحافي مصري