في ليل 25 شباط عام 1991، كان أفراد المجموعة اللوجستية 425 من الجيش الأميركي قد وصلوا للتوّ الى مكان اقامتهم في الظهران، للمشاركة في الحرب ضدّ العراق، ولمّا يتمّ تسجيلهم بعدهم وفرزهم حين سقط على منامتهم ــــ وهي عبارة عن هنغار معدني ـــــ صاروخ "سكود" عراقي، ليقتل 28 جندياً ويجرح أكثر من 150. أحد فروع المجموعة 425، الوحدة 17، خسرت 88 في المئة من عديدها؛ وكان هذا الهجوم هو الضربة الأقوى التي تلقّتها القوات الأميركية خلال الحرب ــــ ثلث ضحايا الجيش سقطوا في ضربة الظهران وحدها ــــ وقد اعتبر الهجوم "الأنجح" لصاروخٍ بالستي ضد هدفٍ عسكري في التاريخ، حتى يوم الجمعة الماضي.
صاروخ "توشكا" اليمني، الذي أصاب نقطة تجمّع عسكرية لقوى "التحالف" في منطقة صافر قرب مأرب، ليقتل أكثر من 100 عسكري من جنسيات متنوعة، صار هو الحامل للرقم القياسي العالمي. ظهر "توشكا" في الاتحاد السوفياتي في سبعينيات القرن الماضي، ليكون أول صاروخ تكتيكي موجّه (أي أنّ فيه جهازاً لتصحيح المسار وتقليل دائرة الخطأ خلال طيرانه، على عكس سلفه، "فروغ"، الذي كان عبارة عن قذيفة صاروخية، توجّهها حين الاطلاق ولا تعود تتحكم بها). كان الهدف من الصاروخ، عدا عن ايصال الشحنات النووية التكتيكية، هو أن يكون دقيقاً كفاية، بمساعدة رأس حربي انشطاري، لضرب مواقع "كبيرة الحجم"، كالقواعد العسكرية والمطارات ومراكز القيادة وتجمعات الجنود، وهذه الأهداف كلها كانت موجودة في مأرب.
الا أنّ الغريب كان تعامل النظام الخليجي ــــ وأتباعه من العرب ــــ مع الهجوم كأنّه "خرقٌ لقواعد اللعبة"، أو كأن استهداف جيشٍ محتلّ أمرٌ مستغرب ومستفظع، أو كأنّ القنا، على جنود الخليج، محرّم (والمشكلة هي أنّ الحرب لم تبدأ بعد). هذا المنطق الطفولي جارى فيه الكثير من العرب أسيادهم، فأبرق نبيل العربي، الأمين العام للجامعة العربية، ليدين "الهجوم الارهابي" في مأرب، لتكون تلك، كما علّق أحد الأصدقاء، المرة الأولى في التاريخ التي يتمّ فيها "ادانة" قتل جنودٍ خلال حرب. ولم ينسَ الأزهر أن يقدّم واجب العزاء لكلّ من الدول المشاركة في الغزو على حدى، فيما وصف مستشار وزير الدفاع السعودي، أحمد العسيري، الهجوم اليمني بأنّه "جبان" (الشجاعة، اذاً، هي أن تسمح للغزاة باحتلال أرضك).
الحرب ليست للأطفال، والسؤال الحقيقي لا يتعلّق بالمسؤول الخليجي الذي يعتبر الناس عبيداً، وبلادهم نهباً له، وأن واجبهم الانصياع حين يرغب احتلالهم؛ بل العجيب هو الضابط الاماراتي الذي، نفترض، قد نظر الى خريطة البلد، واطّلع على تضاريسه وسكانه، ثمّ قرّر: "فلأرسل جيشي الى هنا". ضاحي خلفان، الذي استهجن أن يقوم يمنيون بمقاومة غزاتهم بدأ، كالضباط الاسرائيليين الذين يهددوننا علناً (ومسبقاً) بجرائم حرب، بالتوعد بتدمير اليمن وتسوية صعدة، تماماً كالطفل الذي تُكسر لعبته. لا داعي هنا للمقارنة بين ردود فعل بعض العرب على المجازر الانتقامية ضد فقراء اليمن، وتفاعلهم مع مقتل الجنود الغزاة، فلا نفع من مناجاة من لا يملك مبادىء واحساساً، الّا انّه يكفي أن نشير الى حالة جنديّ يمنيّ مرتزق، كان يقاتل ــــ كغيره ــــ لصالح السعوديين مقابل أجرٍ بسيط، فقتل في المواجهات، ثم قامت طائرات سعودية بالإغارة على مجلس عزائه في منطقة اليتمة بالجوف، لتقتل العشرات من المعزّين.
قد يكون من الأفضل لنا أن لا يتعامل الاماراتيون والسعوديون مع الحدث بمنطق ووعي أو أن يفهموا، كما فهمت اميركا في مقديشو، أن هذه اشارة لهم كي يرحلوا فوراً ويحدّوا من خسائرهم. فالجيل الجديد من حكّام الخليج قد يحتاج الى هزيمة حقيقية، تعيده الى مكانه، قبل أن يصدّقوا أنهم أهلٌ للحرب، ويضطرونا الى التعامل معهم على طريقة اليمنيين. قبل الهجوم بأيام، كان السعودي نواف عبيد، الذي يكتب بالانكليزية للجمهور الغربي، يؤكد أن السعودية، بعد حرب اليمن، صارت قوة عظمى، متوعداً بأنها ستحارب في سوريا وبلادنا بعد صنعاء.
تبقى هناك مفارقة تاريخية تستحقّ التأمّل: صاروخ توشكا، بهيكله السوفياتي القديم، كان الكثيرون يعتقدون أنه صار خارج الخدمة منذ أيام اليمن الجنوبي، الّا أن الطواقم اليمنية قد حافظت عليه، واستمرت بصيانته، واستعملته بمهارة ضد الغزاة. صاروخٌ صنعه الرفاق السوفيات في زمنٍ آخر، خرج من مصانع مدينة "كولومنا" التاريخية قرب موسكو، ليصيب هدفه بدقة بعد أكثر من أربعين سنة. هناك ايضاً أمثولة لا بد من ذكرها: من بين التقارير المتضاربة عن أعداد الضحايا، اماراتيين وسعوديين وبحارنة، لم يهتمّ أحدٌ، لا الخليجيون ولا أعداؤهم، بإحصاء أو ذكر الجنود اليمنيين الذين قاتلوا الى جانب غزاة بلدهم، وقُتلوا في الهجوم. لم يلتفت اليهم أحد.