حسام كنفانيفي موسم التحقيقات المحلية والدولية الخاصة بالاعتداء على «أسطول الحرية» أثناء محاولته كسر حصار قطاع غزة، قد يكون من المفيد الإشارة إلى مدلولات محاولات كسر الحصار الكثيرة، وتأثيراتها على القضية الفلسطينية التي باتت تائهة بين خطين.
في البداية، لا بد من النظر إلى محاولات الناشطين العرب والدوليين لكسر الحصار بكثير من الاحترام والتقدير، والإشارة إلى شجاعة هؤلاء الذين يتحدّون الجبروت الإسرائيلي مع علمهم بإمكان تعرّض حياتهم للخطر، بغضّ النظر عن بعض المشاركين الساعين إلى الشهرة، وهي حال تنطبق في الغالب على الكثير من المشاركين العرب عموماً، والإعلاميين منهم خصوصاً.
بعد مجزرة أسطول الحرية وسقوط الشهداء على متن السفينة «مافي مرمرة»، قيل الكلام الكثير عن نجاح محاولات الناشطين في لفت انتباه العالم إلى ما يحدث في قطاع غزة، وإلى معاناة أهله بفعل الحصار. قد يكون الكلام صحيحاً إلى حد ما، ومدلولاته كثيرة، ولا سيما أنه بعد المجزرة بدأت تتعالى الأصوات الدولية المندّدة بالحصار، والمطالِبة بتخفيفه على أقل تقدير. ومع مضيّ الأيام تبلور ما يشبه الصفقة بين إسرائيل والقوى الغربية لوضع تخفيف الحصار في كفّة، وتخفيف الانتقاد للدولة العبرية في الكفّة الأخرى.
الصفقة مضت على أتم ما يرام وفرح أهالي القطاع بدخول الشوكولاته والمعجّنات والباستا إلى بيوتهم ومحالهم التجارية. ونجح المتضامنون الدوليون في تحقيق جزء ممّا يريدون. ونام العالم على الوضع الفلسطيني، على اعتبار أن قطاع غزة بات باستطاعته الأكل والشرب، ولو بالحد الأدنى من المعايير المعتمدة للحياة في دول العالم.
هذا أمر إيجابي؟ قد تكون المسألة إيجابية في زاوية ضيقة جداً، لكن من المؤكد أنّ سلبياتها أعمّ وأكثر تأثيراً على المدى البعيد لكثير من الاعتبارات، التي من المؤكد لم تكن في بال مَن أراد مساعدة أهالي القطاع المحاصر، لكنها كانت في حسابات المحاصِرين.
نيّات كاسري الحصار حسنة، وتندرج تحت عناوين المساعدة على توفير الغذاء والدواء لنحو مليون ونصف مليون فلسطيني محشورين في هذا القطاع الساحلي. هذا العنوان العام الإيجابي يخفي خلفه عناوين سلبية تستغلها السلطات المحاصِرة ومَن يقف وراءها. حملات كسر الحصار بالدرجة الأولى حوّلت الأنظار العالمية، على الأقل على المستوى الشعبي، عن القضية الفلسطينية عموماً، ليجري اختصارها بمعاناة سكان قطاع غزة. معاناة لا شك تستحق الاهتمام، لكن ليس لدرجة تغيير عنوان الصراع عموماً وتحويله إلى قضية مأكل وملبس وطبابة.
هذا ما باتت عليه الحال في الشهور الأخيرة، ولا سيما بعد تعدّد حملات كسر الحصار. القضية الفلسطينية برمّتها اختُصرَت بقطاع غزة، الذي بات وضعه النموذج للحال الفلسطينية، وأصبح توفير حاجياته الأساسية هو المبتغى. كما رسخ في الأذهان الغربية، على الأقل، أن رفع الحصار عن غزة يعني حلاً لمعاناة الشعب الفلسطيني ومظلوميته التاريخية.
بالتأكيد هذا الاختصار لم يكن في أذهان المتضامنين، لكنه بات أمراً شبه واقع بدأ يتنبّه إليه المسؤولون الفلسطينيون، وعلى هذا الأساس كان حديث رئيس المجلس التشريعي بالإنابة أحمد بحر عن أن القضية الفلسطينية ليست قضية حصار وغذاء، بل هي قضية سياسية. كلام بحر مهمّ في هذا الإطار، لكنه بحاجة إلى إضافة تجنَّبها المسؤول «الحمساوي»، ولا سيما لجهة الدور غير المباشر للحركة الإسلامية في هذا الوضع القائم. فالحركة الإسلامية، التي تحكم قطاع غزة حالياً، كانت أول مَن عمد إلى اختصار الحال الفلسطينية بحصار غزة، ولا سيما بعدما علّقت نشاطها المقاوم، الذي كان إلى حد ما لا يزال يضيء على أن القضية الفلسطينية هي قضية تحرّرية بالدرجة الأولى. «حماس» اهتمت بحكمها وببسط نفوذها على قطاع غزة، وبإطلاق مناشدات رفع الحصار بغرض إنقاذ هيكلية الحكم القائم والسماح لها بتطبيق قوانينها المستجدّة على القانون الفلسطيني.
وبغضّ النظر عن «حماس» وأسلوب حكمها، فإنّ الحركة الإسلامية تماثلت، بتعاطيها الجديد في القطاع، مع ما تقوم به السلطة الفلسطينيّة في الضفة الغربية. تماثل، سواء أكان مقصوداً أم غير مقصود، إلا أنه يؤدي إلى النتيجة نفسها. فالسلطة الفلسطينية جاهرت بما تسرّه «حماس». حاربت علناً مقاومة الاحتلال تحت عنوان مكافحة «ظواهر» التسلّح، وعمدت أيضاً إلى بسط حكمها في بعض أراضي الضفة، راهنةً القضية الفلسطينية بأسرها للمفاوضات وحدها. السلطة ورئيسها يهرولان تارةً إلى طاولة المفاوضات على اعتبار أنها الخيار الأول والأخير، و«يغنّجان» تارة أخرى، على غرار ما هو حاصل اليوم، من دون أن يقدما بدائل أخرى، لعلّهما يستدرّان عطف الدول الغربية للمساهمة في تحسين الشروط التفاوضية.
نوع آخر من استدرار المساعدات، ضاعت معه أيضاً القضية الفلسطينية، التي أصبحت بالنسبة إلى السلطة عبارة عن مجرد تفاوض، رغم أن ما هو حاصل في بعض مناطق الضفة يوازي حال المعاناة الإنسانية في قطاع غزة.
عقليتان متشابهتان تتحكّمان في القضية الفلسطينية، التي باتت بفعل «الحكم الرشيد» لسلطتي غزة والضفة، قضية تسوّل وطني وتفاوض وطني، ضاع بين ثناياهما الموضوع الأساس، ألا وهو التحرّر الوطني.