شجرة العديسة ستفاجئهم
لن يكتب عسّاف أبو رحّال بعد اليوم عن عذابات الأرض ولا عن آلامها وعتبها... ولا عن حزن وغضب الشجر المقتلع على الحدود، ولا عن دموع الوداع الراشحة من الأغصان الوارفة وهي تهوي بعد أن غطّت أحبابها وعاقت العسس الإسرائيلي من التلصّص على عناق الجذور مع التراب المهراق فوق ذراته الكثير من الدم والعرق... والدموع.
صحافي... ومناضل... ومقاوم عشق الأرض التي أرضعته حبّها حتى الشهادة. رواها بدمه حين عزّ المطر والغيث والندى. سكنه حبّها أعمق وأكثر ممّا سكنها بجسده النحيل، لذلك كتب بدمه عن عصارة الأرض الجنوبية التي لم تعش السلام والهدوء يوماً ولا عانقها فرح مفقود منذ زمن النكبة والنكسة وإقامة كيان غاصب على تخومها المنهكة.
«وداعاً يا وطني الحبيب». هوذا عسّاف أبو رحّال يقولها أخيراً وهو يجأر باللوعة والأسى نازفاً آخر قطرات دمه من جسده المشظّى بآلاف الشظايا وآخر قطرات حبره فوق التراب المسربل، وهو يروي قصة أخرى من قصص التغوّل الإسرائيلي على الحجر والبشر والشجر في الجنوب اللبناني.
مستوحداً كنت في موسكو البعيدة حين وصلني النبأ، فانتفضت كالمصعوق صارخاً وسائلاً: هل سقط آخر الأحبّة وحيداً مضرجاً بحبّه المسفوك فوق التراب الحزين؟ سكنتني اللوعة والفقد إلى حدّ شعرت معه بالوحشة والرهبة وأنا بين ملايين الناس، وخيّم على روحي حزن مطبق أرجف قلمي وجفّف حبره كلما حاولت الكتابة عن شيخ الشباب الذي ظل يعارك الحياة وتعاركه، إلى أن صرعته قذيفة دبابة إسرائيلية يفوح اللؤم من مدفعها ومن راميها ومن كل صهاينة الأرض من خلفهم.
خمسة أيام بلياليها منذ استشهادك وأنا لم أذق طعم النوم، ولا عرفت السكينة إلى آلامي طريقاً. الثالثة بعد ظهر الأربعاء، الموعد المفترض لجنازتك ودفنك، كسر الحزن قلبي وكاد الشوق لوداعك الأخير أن يفجّر دمي في العروق والأوردة، فبكيتك بلوعة. وبكيتك بحرقة المستوحد في الغربة القاسية الموحشة، حتى ظنّ الناس أن قلبي انفطر وأن شغافه تمزّقت من الحنين إليك... وإلى ظلّك المتواري خلف غياهب الثرى.
كتبت وأكتب كل يوم في مواضيع ومواجع هذا الوطن الغارق في بلاء «تعايش» طوائفه وأفخاذ عشائره وقبائله، إلا أني عجزت عن أن أكتب عن وجعك وآلامك يوم الرحيل، ولا عن حنيني الذي لا يسكن إليك وإلى طلّتك وإلى عينيك المشعّتين بالحنان والرجولة في آن.
ثلاثة وثلاثون عاماً من المحبة والمودة لم تنقطع أسبابهما بيننا يوماً واحداً، ولا هانت ولا ضوت عرى صداقتنا التي امتدت منذ عشقك لشقيقتي سعاد واقترانك بها رغماً عنّا وعن تقاليدنا وأعرافنا البالية. ويوم تعرّفت إليك عن قرب صرت أتباهى بك صهراً من معدن الرجال الرجال، ومكافحاً ومقاوماً لا يهين ولا يستكين.
صداقتنا التي انبثقت من قرابة مستجدة قبل ثلاثة وثلاثين عاماً سمت فوق قرابات الدم والمصاهرة، واستحالت شراكة روحية وفكرية تعمّدت بمقاومة مسلحة للاحتلال أينما وكيفما ملكت أيماننا. أنت قاومت بالموقف والكلمة والعمل المضني المتواضع كي لا تنكسر ولا تهين، وحين أزفت الساعة امتشقت السلاح وجبت الجبال والأودية مقاوماً شجاعاً صامتاً لا تعرف يسراك سرّ الطلقات التي تطلقها يمناك.
الليل جهم بعدك يا عسّاف. وأنت هنا في قلبي. لا راحلاً ولا متوارياً مهما أمعنت في استشهادك. قائم بين السيف والنطع بعد أن لمع برق دمك وشهرت حبّك لأرض أرضعتك عشقها مع الحليب.
الجراح التي أثخنت جسدك وأسقطته صريعاً هي نفسها تبدو ندوبها في روحي وروح سعاد ونسرين ومازن وجرجس وكل الأحبة .الألم بعدك عشّش في قرارة النفس وشغاف القلب، وعذاب فراقك وفقدك يرمح في العين والمدى أين وأنّى تطلّعنا.
عزاؤنا أن تلك الشجرة التي تشبّثت بالحدود ستفاجئ كل الذين تواطأوا عليها وغضّوا الطرف عن اقتلاعها. ستفاجئهم وهي تنبت من جديد وتتسامق إلى العلى حاملة ذرات دمك في أغصانها وأوراقها، وهي تنبعث من جذورها الكامنة تحت التراب شجرة باسقة. قانية اللون والجذور مثل قطرات الدم القاني التي روتها ورطّبت ثراها في عز الصيف.
على تخوم الجنوب بدأت المرثية التي لا آخر لها، وها هي خلايا الأجساد المفجوعة تتراقص وستظلّ تتراقص على إيقاع دفق الدم النازف في كل الحروب الماضية... والآتية لا محالة، لأن نصرنا سيصنعه انبجاس الدم الحار من الرقاب والشفاه والقلوب والعيون والأيادي والأرجل والصدور الفتية، لا استجداء المتخاذلين والهاربين من شرّ القتال على أبواب وعتبات واشنطن ونيويورك وغيرهما من العواصم التي أشبعتنا إذلالاً وهواناً.
رحل الذي كان جميلاً وفتياً ومحارباً لا يعرف الاستراحة. رحل وفوق شفتيه ابتسامة تجمّدت في لحظة الفجاءة. كل شيء ساكن الآن إلا الريح التي تعول في نفوس الحزانى والثكالى والمنكوبين والمفجوعين والباكين سراً وعلناً على قمر حرمون الذي ارتحل وتوارى... ولن يعود.
سعيد طانيوس
(موسكو)