وائل عبد الفتاحالدولة في مصر اختارت موسمها الرمضاني لتدير البلد كله من التلفزيون. الأحشاء تفرغ محتوياتها في السنوات الأخيرة على الشاشة. ساعات لاهثة من دراما وحوارات وفكاهات تتسابق لتنال موقعاً على خريطة تربك مشاهدها، وتصيبه بتخمة تتوازى مع تخمة الموائد في رمضان.
الإعلانات تشير الى حركة مال نشيطة، والى نشاط في مجال العمل الخيري. رمضان مناسبة للصدقات الجارية، واعتبار التسول ظاهرة إيجابية، التلفزيون وسيلة توزيع لفتات الثروات على فقراء ومتسولين ومنتظرين لضربة حظ.
إعلانات الخير أداة ضبط اجتماعي، وتخفيف للاحتقان، يتصارع الجميع على اقتناص فرصة الموسم، كما يتصارع منتجي ٥٢ مسلسلاً على استرداد ١٣١ مليون دولار تكلفة إنتاجهم لدراما متعجلة على طريقة الوجبات السريعة، تتضمن إشارات الى طعام ما، لكنها خلطة غامضة، تشبع لكنها لا تغذي.
تلاحق اللعنات أصحاب الثروة السهلة في مسلسلات رمضان، حرب على الفساد في الشاشة، تنتهي كل حلقة منها بإعلانات عن ملوك الثروة السهلة أنفسهم.
الحرب تتم بهندسة ورعاية شبه كاملة من جهاز أمن الدولة، الذي يراقب سوق رمضان ويضع أصابعه في خريطة المسلسلات. يختار فرق ضيوف الحوارات التلفزيونية، يدورون حول البرامج، نصفهم حكومة والنصف الآخر معارضة، يتبادلون الآراء والمواقف، فريق يتناوب الهجوم ويوزع التفاؤل، والمقدمون مصاصو دماء ينتظرون فريسة في الاستوديو، يتنافسون على فجاجة، يتصورون أنها عنصر الجذب الوحيد في سوق مفتوحة، يغلب فيها الأعلى صوتاً والأكثر تطرفاً، وتعرياً.
التلفزيون ذراع طولى لأمن الدولة في السيطرة على ملعب السياسة: اللاعبون والحكم والجمهور، والاستوديو التحليلي أيضاً.
أمن الدولة هو أداة الحكم الأولى في عهد مبارك، أصابع الجهاز وأقدامه موجودة في كل مكان، وتمد خيوطها بشكل معقد ومركب مع خصومها المعلنين، ومندوبيها في إدارة كل شيء من الأحزاب المعارضة الى الجامعات، من المصالح الحكومية الى برامج التوك شو. الأصابع موجودة ووقع أقدام الضابط في أمن الدولة مسموع للجميع.
موافقة أمن الدولة شرط كل شيء، من إنشاء حزب أو صحيفة أو التخطيط لبرنامج توك شو وحتى زواج مسلم بمسيحية. وستحتاج إلى «كونتاكت» مع الأمن لتكمل أي مشروع.
جهاز يتضخم ويبتلع كل الأجهزة الأخرى. وعبر الشاشة تصنع أحجاماً متضخمة لشخصيات كرتونية في الواقع، وتصنع الشهرة، والنجومية، ويحقق المتفرج انتصاره الافتراضي على الشاشة، يشارك في سباق اللعنات على الوضع القائم، ويشاهد برامج مصارعة النجوم، ويرى افتراس حياتهم الشخصية بما يدخل الى قلبه الطمأنينة.
الشاشة مسرح السياسة، ومحور للصراعات، والضربة القاضية التي أرادها النظام لجماعة الإخوان المسلمين، توجه عبر ٣٠ حلقة من الشاشة، الجماعة ردت عليها بكتائب ردع فكري، أنشأت مجموعات على «الفيس بوك» للرد على هجمات المسلسل، صراع سياسي انتقل بالكامل الى الشاشة، تعدم فيه الجماعة أساليب الدفاع.
هكذا غادرت الدولة مراهقتها، لم يعد التلفزيون منصة توجيهات أو رسائل الى الشعب أو الجمهور. دور الشاشة أكبر الآن (ميزانيته تتجاوز ٦ مليارات)، في دولة تبني جسوراً عشوائية بين «الرفاهية» و«الفقر المدقع».
الدولة وحدت في الواقع وللمرة الأولى بين مواطنيها في توزيع انهيار البنى التحتية. المياه قطعت ٤ أيام متواصلة عن «القاهرة الجديدة» بما فيها من منتجعات وقصور «ارستقراطية» عصر مبارك. وانتشرت حكاية الوزير الذي يخزن الماء في أوعية بلاستيك.
هذه ليست علامة على عدالة توزيع الأزمات، ولكن على انهيار البنى التحتية، فخر عصر مبارك. الكهرباء تغيب عن مدن كبرى بالايام، وتتبادل أحياء العاصمة الحياة في العتمة، والمياه عزيزة. الرئيس استفسر عن سر انقطاع الكهرباء، ولم يتلق إجابة، بينما انشغلت أجهزة كبيرة في مطاردة المفطرين، مدير أمن العاصمة ألقى القبض على سائق يدخن علناً في نهار رمضان، بينما كانت السيارات متكدسة في الشوارع أثناء هبوط طائرة الرئيس مبارك في منطقة «صفط اللبن»، إحدى قرى تتمدد في قلب العاصمة، تستجدي خدماتها، والرئيس يفتتح محوراً جديداً يربط المنتجعات السكنية الجديدة، بالعاصمة. القرية ممر، لم تشعر إلا بالشدة الأمنية، والطوارئ التي حولت المنطقة المحيطة بمهبط الطائرة الى ثكنة. وشعر كل مواطن باختناق الحياة، لكنه جلس أمام التلفزيون وسرق لحظات تفريغ طاقة أمام الشاشة، قبل أن تختفي الكهرباء.