خالد صاغيةأقرّ لبنان، أمس، إعطاء بعض الحقوق للفلسطينيّين المقيمين على أرضه. هي حقوق منقوصة من دون شك. لكنّ مجرّد إقرارها يمثّل خطوة إلى الأمام، بانتظار جولات جديدة. فالمهمّ في الأمر أنّ ثمّة محرّماً قد كُسِر. ولا بدّ أنّ المتمسّكين سابقاً برفض أيّ نقاش في موضوع الحقوق المدنيّة للفلسطينيّين، قد انتبهوا إلى أنّ الأرض لم تزلزَل تحت أقدام أحد يوم أمس، وأنّه ما من وحش يدعى التوطين اقتحم أبواب المجلس النيابي، وأنّ فلسطينيّي لبنان ما زالوا متعلّقين بحقّهم الأساسي، وهو حق العودة إلى فلسطين. وبالمناسبة، لا يزال «العيش المشترك» على حاله أيضاً.
حين تجرّأ النائب وليد جنبلاط وفرض الحقوق المدنيّة على جدول أعمال مجلس النوّاب، جوبِهَ بردود فعل شديدة التوتّر. وصُوِّر الأمر كما لو أنّ رئيس اللقاء الديموقراطي يضرب أسس الميثاق الوطني. وفيما خاضت الحملة «أحزاب مسيحيّة» لم تتخلّص تماماً من عقدها التاريخيّة، التحق بها «متنوّرون» من الطوائف كافّة، تبرّعوا بإعطاء الذرائع لإبقاء المخيّمات الفلسطينيّة تحت الحرمان، بحجّة تفهُّم هواجس الأقليّات. أمّا الأكثر تحذلقاً بين أنصار التنوّر الليبرالي، الذين ينادون ليلاً ونهاراً بحصريّة السلاح من أجل بناء الدولة الحديثة، فرفضوا تأييد إعطاء الفلسطينيّين حقوقهم المدنيّة بحجّة أنّ وليد جنبلاط يستغلّ المسألة لتحقيق أهداف سياسيّة لا علاقة لها بالفلسطينيّين. وكأنّ المطلوب رمي الصبيّ مع الماء الوسخ. فالنوّاب ومصالحهم الآنيّة يمرّون مرور الكرام. لكنّ ما يبقى هو الكرامة الإنسانيّة لمئات الآلاف من اللاجئين.
الغريب حقاً كيف تصبح الواقعيّة السياسيّة هي المرشد الروحي الذي يسمح للّيبراليّ بأن يتنازل عن مبادئه حين يشاء. فباسم الواقعيّة، تصبح حقوق الفلسطينيّين هديّة مسمومة. وتصبح الحريات الإعلامية مطلباً مؤجلاً. وتصبح الطائفية السياسية خشبة خلاص. ويصبح السلام مع إسرائيل (أو الاستسلام لها) الممرّ الإجباريّ نحو التنمية.
لكنّ هذه الواقعيّة تتوقّف فجأة حين تدخل المقاومة وسلاحها على الخط، أو حتّى حين تُفتح سيرة المحكمة الدولية وشاهدي زورها. عندها، تعود «العدالة الدولية» صنماً للعبادة، والتعريفات المدرسيّة للدولة الحديثة قدساً لا يمسّ.
الواقعيّة مطلوبة طبعاً. لكنّها قد تتحوّل إلى عكسها حين يكون الداعون لها بعيدين عن الواقع. ولعلّ الفلسطينيّين في الشتات وفي فلسطين أكثر من يعرف هذه الحقيقة، وأكثر من عانى من تداعياتها.