حسّان الزينبعد مغادرة وليد جنبلاط تحالف 14 آذار تحت شعار الخصوصيّة الدرزيّة وضرورة حماية هذه الأقليّة مع احتمال تفاقم الفتنة السنيّة الشيعيّة، يعبّر زعيم المختارة، منذ مدّة، عن اقترابه أكثر من الفريق الآخر، وخصوصاً حزب الله وحلفاء سوريا، وبالتأكيد من دمشق.
منذ بداية هذا التحوّل، يبدو وليد جنبلاط كزعيم ذي وزن، لكنّه ينتقل من موقع إلى آخر مُغالِباً مزاجَ قاعدته وجمهوره. مع ذلك، استطاع حتّى الساعة «دوزنة» مخالفيه في بيئته، بالحوار تارةً وبالإملاء الزعامتي المذهبي والحزبي تارة أخرى. وتراه ينتهج سياسة تصاعديّة على إيقاع الظروف المحليّة والإقليميّة والدوليّة، مستخدماً رصيده كزعيم وكسياسي مخضرم حصّل من خلال علاقاته وخبرته وقراءته سمعة «الرادار» المُبكر والحسّاس.
يمكن القول إن جرعات وليد جنبلاط وخطواته مدروسة، بمعزل عن موافقته في شأنها أو الاختلاف معه حولها. رغم ذلك، تُظهره ملامحُ الراحة المجروحة بالقلق المسَيطر عليه، وحيداً. لعلّه مرَّ كثيراً في حالات مشابهة: بعد اغتيال والده، كمال جنبلاط، في 16 آذار 1977، وبعد الاجتياح الإسرائيلي في حزيران 1982، وربما في السنوات الأخيرة من الحرب، لكن اليوم وحدته من نوع آخر. هي وحدة زعيم يرى المستقبل بخبرة الماضي لا في عيونه. ووحدة من خسر في الماضي «شيئاً» يعرف اليوم قيمته وأهمّيته.
حركته اليوم تشبه إلى حدٍّ بعيد انتقالاته السابقة، لكن مع فارق جوهري، هو أنّه ينتقل كزعيم في طائفة، بينما انتقالاته الماضية كزعيم لبناني. حركته نحو دمشق بعد اغتيال كمال جنبلاط كانت كذلك، على رأس حركة وطنيّة. وحركته ضد دمشق بعد اغتيال رفيق الحريري كانت كذلك أيضاً، على رأس «ثورة الأرز». أمّا اليوم فهو «زعيم المختارة»، البيت الجنبلاطي، القلق على خصوصيّة مذهبه وأبنائه والحريص على تأمين ظروف محليّة وإقليميّة لانتقال الزعامة إلى الوريث.
وهذه مأساة في حدّ ذاتها. كأنّ وليد جنبلاط يتألم لكون الأفق اللبناني والعربي والدولي لمؤسس الحزب التقدّمي الاشتراكي وزعيم الحركة الوطنيّة اللبنانيّة، كمال جنبلاط، قد سُدّ في وجهه. وبات وليد جنبلاط الذي ورث من كمال جنبلاط ما هو أكثر من المختارة وأبعد وأوسع، يرى أمامه مشهد توريثه ابنه زعامة ذات «خصوصيّة» تنكفئ على نفسها وصدفتها حماية لنفسها ولمذهبها من المخاطر الديموغرافيّة والسياسيّة والأمنيّة للمحيط.
رغم الطمأنينة التي يمكن أن ينعم بها وليد جنبلاط الذي عالج علاقته مع «شركاء» في الداخل ولا سيما حزب الله، و«أشقاء» في الخارج هم تحديداً سوريا، إلا أنه ليس في وضع يُحسد عليه. فانتقاله إلى الضفّة الأخرى لم «يصدم» الحزب التقدمي الاشتراكي وحسب، بل كشف بؤسه كحزب وكآلة شعبيّة تواكب الزعيم في حركته السياسيّة. وهذا سبب إضافي لوحدة جنبلاط الذي لم يطلب في هذه اللحظة السياسيّة «الخطيرة والدقيقة» مقاتلين أو متظاهرين أو حتى أتباعاً مذهبيين، لكنه افتقد «حزبيين». وكأنّه انتبه فجأة إلى أن هذه الفئة لم تعد موجودة لديه منذ سنوات لم يحاور فيها أحداً على نحو حزبي... مؤسّسي.
الأدوات السياسية لوليد جنبلاط هي غير التي اختارها كمال جنبلاط، وزمن كل منهما مختلف عن الآخر، لكن الفارق الأبرز بينهما في هذه اللحظة هو أن وليد يستعد لنقل الزعامة إلى وريثه، تيمور، كما تسلّمها كمال، لا كما تسلّمها هو. كمال تسلّم زعامة «خصوصيّة» وسلّمها زعامة أكبر من الخصوصيّة، بينما وليد تسلّم زعامة أكبر من الخصوصيّة ويقترب من تسليم زعامة «خصوصيّة».
لا يخفي وليد جنبلاط ذلك، فهو من أشار إلى «تخلّف» الحزب وهو من يواجه مراكز القوى في بيئته. ولطالما كان الاعتراف من مميزاته، لكن المسألة اليوم ليست الاعتراف، بل تحسّر رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي على حزب أراده مؤسّسه بديلاً مثقّفاً وعصريّاً للزعامة المذهبيّة، وهو تحسّر على حركة وطنية ما زالت أي حركة جنبلاطيّة من دونها (بالتأكيد ليست تلك «القديمة») «خصوصيّة» مذهبيّة... ليس إلا.