سعد اللّه مزرعاني*«حظي» لبنان، تاريخيًا، بالنصيب الأكبر من الاعتداءات الإسرائيلية، بعد فلسطين. تخطى الصراع الإسرائيلي ـــــ اللبناني نزاعات الحدود والمواقف، إلى ما يتصل بوجود لبنان ودوره. في جعبة الصهاينة ومتطرّفيهم القدماء والجدد، الكثير من الأطماع والاستهدافات حيال أرض لبنان ومياهه ودوره. ليس أيضًا، بدون معنى، أن يُقال إنّ «التنوّع» اللبناني هو نقيض الأحادية ـــــ العنصرية الصهيونية. يصحّ هذا الكلام أكثر حين يكون التنوّع اللبناني معافى وسليمًا، لا مجرّد بناء هش تقرّر مصيره المصالح الفئوية الداخلية، أو الأهواء والمخططات الخارجية الإقليمية والدولية. بناء «التنوّع» اللبناني على قاعدة نظام الطائفية والمذهبية السياسية، كان ولا يزال، نقطة الخلل التي عَبَرَ من خلالها المغرضون أو الطامعون أو ذوو المصالح أو الأعداء، إلى الجسد اللبناني. إسرائيل تأتي في طليعة المتضرّرين من معافاة لبنان، ومن بناء وحدته الوطنية، ومن نجاح صيغة التنوّع والتعايش الإيجابي (والديموقراطية الصحيحة شرطها اللازم) بين أبنائه، وبين مكوّناته، وبين قواه السياسية.
على مسافة أربع سنوات كاملة من العدوان الإسرائيلي ـــــ الأميركي على لبنان عام 2006، ولمناسبة صدور القرار الاتهامي العتيد عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في قضية اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري وقادة وإعلاميين... في هاتين المناسبتين، ينشط الصهاينة بطريقة علنية ووقحة وبشكل سري خطير، للإضرار بالوضع اللبناني ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
إلى استهداف لبنان الأرض والمياه والدور، يحاول الصهاينة أمرين آخرين: أوّلهما الانتقام من شعب لبنان، الذي قاوم دائمًا اعتداءاتهم وألحق بهم وبمخططاتهم هزائم عسكرية وسياسية مدوّية على الأرض اللبنانية، وثانيهما السعي المحموم إلى ضرب المقاومة الإسلامية في لبنان وضرب عناصر قوّتها الذاتية أو الموضوعية. ويشمل الاستهداف هذا، بالتأكيد، ما توافر من الحدّ الأدنى من التوحّد الوطني (ولو المحدود) في المجالات الرسمية، وفي تنامي معادلة التعاون بين الجيش والشعب والمقاومة، وفي الحدّ الأدنى من الاستقرار النسبي القائم، وفي كشف شبكات جواسيس إسرائيليين...
كان الصهاينة قد بادروا، منذ اللحظات الأولى لاغتيال الحريري في 14 شباط 2005، إلى توجيه الاتهام إلى «حزب الله». هذا الاتهام «الخاص» سرعان ما تراجع لمصلحة اتهام «عام» أهم آنذاك: اتهام ذو أولوية بالنسبة إلى واشنطن، وهو الضغط على دور سوريا ونفوذها ووجودها في لبنان بسبب اعتراضها على الغزو الأميركي للعراق، وبسبب دعمها وتشجيعها لأشكال متنوّعة من الاعتراض عليه ومقاومته.
اليوم، بعد خمس سنوات ونيّف على الجريمة، وبعد إخراج القوات السورية من لبنان، وبعد تعثّر المشروع الشرق أوسطي الأميركي في العراق والمنطقة، وبعد تراجع الرئيس باراك أوباما أمام الحكومة الإسرائيلية المتطرّفة بزعامة بنيامين نتانياهو، بعد ذلك وسواه، «جاء دور» إسرائيل لاستخدام قضية الاغتيال، وتحديدًا لاستخدام القرار الاتهامي المتوقع صدوره في الخريف القادم.
لا داعي إلى الاستطراد في أنّ إسرائيل لن تفوّت استغلال هذه المناسبة «الثمينة»... ذلك أمر يتردّد يوميًا في وسائل الإعلام الإسرائيلية، فضلاً عن المسؤولين السياسيين والعسكريين الإسرائيليين. ما يجب نقاشه أو التنبّه إليه هو الصيغ التي ستأخذها عملية الاستثمار الإسرائيلية، في أشكالها المتعدّدة، إذ إنّ إسرائيل لن تكتفي، بالتأكيد، بشكل وحيد من محاولات التدخّل.
لقد سبق للسيّد سمير جعجع، رئيس حزب «القوات اللبنانية»، أن توقّع حصول اغتيالات في لبنان: لا بدّ من مشاركة «الحكيم» في مثل هذا التوقّع، وإن كان الخلاف «طبيعيًا» معه، في هويّة الجهة المنفّذة! لماذا ذلك؟ لأنّ السيّد جعجع لم يوجّه أصابع الاتهام إلى إسرائيل: لا في احتمال تورّطها في اغتيال الحريري، ولا في قبوله مجرّد الحديث عن هذا الاحتمال، ولا في تسميتها جهة مرشّحة لتنفيذ الاغتيالات.
الواقع أنّ جعجع يحذّر من تكرار الاغتيالات السابقة، وضدّ الجهة السابقة نفسها، ومن جانب الجهة المتهمة السابقة دون سواها... هكذا يمكن قراءة تحذيره، وليس ثمّة احتمال آخر في كلامه!
لكنّ الاحتمال المرجّح موجود في مكان آخر. أما الضحايا، فهم كلّ من يجري وضع اسمه في لوائح الاستهداف والقتل، ممّن يخدم استهدافهم أو قتلهم إدخال اللبنانيين في فتنة داخلية، قد توفّر على إسرائيل كلفة العدوان، أو توفّر لها فرصة التدخل كحامية لفريق من اللبنانيين ضدّ فريق آخر. أو حتى كمنتقمة لدماء الشهيد رفيق الحريري!

بناء «التنوّع» اللبناني على قاعدة نظام الطائفية السياسية، كان ولا يزال نقطة الخلل التي عَبَرَ من خلالها المغرضون
لقد كان القتل دائمًا وسيلة الصهاينة المفضّلة لتنفيذ أهدافهم. الاغتيالات والمجازر كانت هي الوسيلة الأفعل والأكثر استخدامًا. لم يضع الصهاينة حدودًا لجرائمهم ما دامت تحقّق الهدف المنشود. آخر ضحاياهم كانوا الأتراك التسعة على «أسطول الحرية»، في آخر شهر أيار الماضي. وقبل أربع سنوات هدّد قادتهم بتدمير لبنان وبإعادة الحياة فيه خمسين سنة إلى الوراء. وقبل أسابيع عدّة لم يتردّد قادتهم العسكريون في إعلان استعدادهم لاستهداف المدارس والمستشفيات، فضلاً عن البنى التحتية في حربهم المقبلة على لبنان... هذا وسواه دفع المعلق الإسرائيلي في «هآرتس»، بني زيفر، بعد جريمة «أسطول الحرية» إلى كشف جانب أساسي توراتي ـــــ إيديولوجي ـــــ نفسي في التكوين الصهيوني: عقدة الاضطهاد، وعقدة الرد بالقتل دون تردّد أو استثناء...
حوالى 150 جاسوسًا كُشفوا في لبنان حتى الآن. سيؤدّي ذلك إلى إرباك قدرة «مشغّليهم» أو إضعافها على التنفيذ. لكنّ الهدف لن يتغيّر. يجب دائمًا افتراض أنّ إسرائيل تملك وسائل القتل، أو تسعى إلى امتلاكها. سيصحّ تنبّؤ حكيم «القوات»، لكن من الجهة الثانية ولهدف مضاد تمامًا. كلام الوزير السابق وئام وهاب في الأسبوعين الأخيرين لا يصلح هنا أداة للاستدلال. بل هو، بالتأكيد، من قبيل التهديد غير المناسب في هذه الأيام. يجب، دون تردّد، لفْت النظر إلى أنّ مثل هذا الكلام قد يمثّل مادة لتمويه الحقيقة ولدفع التهمة في غير وجهة الفاعل الحقيقي!
إنّ ما نودّ لفْت النظر إليه إذن، هو، أوّلاً: التنبّه إلى خطر انتقال إسرائيل إلى تنفيذ اغتيالات في لبنان بهدف الفتنة. وهو ثانيًا، التنبّه والحذر حيال خلق مناخات سياسية وإعلامية، تجعل عود الثقاب الإسرائيلي، يتحوّل نارًا في الهشيم. وهو ثالثًا، اتخاذ سياسات وإجراءات لتحسين الوضع الداخلي اللبناني والعلاقات اللبنانية ـــــ اللبنانية. ولن يحصل ذلك إلا بسياسات واعية ومتواصلة ومثابرة، ولو اقتضى الأمر تقديم تنازلات غير أساسية في هذا الحقل أو ذاك، ومن جانب الأطراف الأحرص على إحباط مخطط الفتنة الإسرائيلية، بالدرجة الأولى.
لقد باتت الاستفادة من التجارب السابقة مسألة مصيرية. وهنا يجب الذهاب أبعد فأبعد: من تصحيح لغة التصاريح والمواقف، وصولاً إلى نوعية السياسات والتوجّهات، انتهاءً بمقاربة جديدة لسبب الانقسام بين اللبنانيين، الذي يجد مصدره الرئيسي في النظام الطائفي اللبناني، وفي الخلل الذي يراكمه هذا النظام جيلاً بعد جيل، وفتنة بعد فتنة، وأزمة بعد أزمة...
* كاتب وسياسي لبناني