سعد الله مزرعاني *سرّع الأميركيون من وتيرة سحب قواتهم من العراق. بقي «فقط» خمسون ألف جندي لمهمات التدريب. التزامات الولايات المتحدة في أفغانستان تفرض عليها تخفيف أعباء وجودها في العراق إلى أقصى درجة ممكنة. في العراق يحاول الرئيس الأميركي باراك أوباما إزالة أثر أخطاء الرئيس السابق جورج بوش الثاني أو معالجتها. وفي أفغانستان يكرّر أخطاءه على نحو فاقع!
يمكن دون تردّد، التأكيد أنّ الولايات المتحدة لم تخرج منتصرة من العراق. لقد تعثّر مشروعها الشرق أوسطي في بلاد الرافدين كما في استهدافاته الأوسع: الإقليمية والدولية. لكنّ الانسحاب المرحلي والكبير الحالي من العراق، لا يستدعي احتفالاً أو حتى مجرّد شعور صاف بالانتصار! الأسباب متعدّدة. أوّلها أن الأميركيين قد ألحقوا أضرارًا وخسائر فادحة بالعراق وبالعراقيين، يعادل بعضها جرائم ضدّ الإنسانية وضدّ الحضارة... وكان ولا يزال من بين أكبر تلك الخسائر ما نجم عن بثّ روح التفرقة والانقسام بين العراقيين. لقد نقل الأميركيون إلى العراق «التجربة اللبنانية». وهي تجربة بناء نظام سياسي يرتكز على فرز طائفي ومذهبي للمواطنين، ثمّ تكريس ذلك في نطاق صيغة محاصصة لتوزّع النفوذ والسلطة والإدارة والموازنة والمؤسسات...
ومن بين أهم أسباب غياب الشعور بالانتصار أيضًا، عجز قوى «العملية السياسية» في العراق عن أخذ زمام المبادرة في توفير البديل لسلطة الاحتلال. إنّ قوى «العملية السياسية» المذكورة، هي عمومًا، كلّ القوى التي كانت تناهض نظام الرئيس صدام حسين. وكان معظم هذه القوى قد دخل في أشكال من التعاون أو التعامل مع قوات الاحتلال قبل غزوها للعراق أو بعد فترة قصيرة من حصول هذا الغزو، ومن ثمّ إسقاط نظام حزب البعث الحاكم هناك. ولقد أدّى استسهال الاعتماد على الاحتلال من جهة، والانخراط في الاصطفاف المذهبي من جهة أخرى (فضلاً عن موروث مشاكل القضية الكردية) إلى تعذّر قيام وضع سياسي صحي لجهة مواقف وعلاقات وممارسات معظم أطراف «العملية السياسية» المذكورة.
ولا بدّ من الإشارة إلى سبب مهم أيضًا في تعذّر قيام وضع طبيعي وسليم، وهو ما يتمثّل في سياسات دول الجوار، وإن تباينت سياسات وسلبيات مواقف علاقات هذه الدول. فلقد كانت لكلّ من

ظنّ البعض أنّ المحتل جمعية خيرية لا تبغي الربح ولا تحرّكها الأطماع والمصالح
إيران والسعودية وسوريا... حسابات خاصة لجهة الموقف من الاحتلال ولجهة النفوذ المباشر أو الحليف... ورغم أنّ هذه الدول وسواها قد انتظمت في محاور متصارعة، إلا أنّها قد أسهمت، إلى حدّ كبير وبأشكال متفاوتة، في إضعاف البديل الوطني وفي منع تبلور حالة توحيدية في البلاد ترتقي، تدريجيًا، في مستوى إدارتها للبلاد إلى ما يعالج ويلات وإرث الاحتلال وسلبيات الديكتاتورية، وبما يوفّر قواعد راسخة للاستقرار والديموقراطية والتنمية...
أما السبب المهم الآخر لعدم وجود مناخ احتفالي ببدء انسحاب القوات الأميركية الغازية، فيعود إلى تناقضات القوى التي ساهمت في المقاومة وإلى عبثية الدور التدميري الذي ما زالت تواصله الجهات السياسية المتطرّفة التي تستخدم «الإسلام» التكفيري أداة للتعبئة، وللقتل الموجّه نحو الفتنة المذهبية عمومًا، وبوسيلة استهداف الأبرياء قبل سواهم.
إنّ جهودًا عظيمة ونجاحات حقيقية وتضحيات سخيّة، قد بُذلت في مجرى مقاومة الغزاة. ولقد شاركت في ذلك قوى متعدّدة، بما فيها قوى عسكرية ومدنية متضرّرة من إجراءات الاحتلال ومن تدابيره التي كان من بينها: حلّ الجيش وتسريح ضباطه. قانون اجتثاث البعث. تدهور الخدمات والأمن على نحو مروّع. الاستفزازات ضدّ العراقيين والعراقيات في مقدّساتهم وممتلكاتهم وحياتهم العامة والخاصة. زجّ عشرات ألوف المواطنين في السجون وممارسة سادية وفضائحية كريهة حيالهم في المعاملة وأشكال التعذيب (سجن أبو غريب)...
لكن للأسف، فإنّ التشرذم وغياب التنسيق والخطة المتكاملة كانا هما السمة الغالبة على نشاط المقاومة، وقد أدّى ذلك إلى غياب البديل مرّة جديدة، ومن موقع نقيض للاحتلال، هو الموقع الطبيعي الذي كان يجب أن ينبثق عنه البديل المنشود.
إنّنا أمام مشهد مطبوع بتناقض نادر: من جهة، محتل يسحب قواته متعثّرًا ومهزومًا، ودون أن يتمكّن من تحقيق أهدافه المباشرة وغير المباشرة. ومن جهة ثانية اضطراب سياسي داخلي خطير في التوجّه والعلاقات، مفتوح على نزاعات متعدّدة تأخذ أشكالاً قومية ومذهبية، ومتفاعل مع تدخلات أجنبية تبحث عن زيادة دورها ونفوذها بكلّ الأشكال والوسائل!
إنّه الكابوس العراقي. هكذا هو الواقع الحالي الذي يحاول متطرّفو «القاعدة» أن يوظفوه لمصلحة قيام إمارات إرهابية مذهبية متطرّفة وظلامية بكلّ ما للكلمة من معنى. يشجّعهم على ذلك استشراء الفئويات وضعف التوجّه الوطني لدى الأطراف الأساسية، وتعدّد وتضارب مصالح القوى الخارجية الناشطة في الداخل العراقي والتركة الخطيرة للاحتلال ولممارساته.
لقد بدا الاحتلال بالنسبة لمعظم ضحايا النظام الديكتاتوري السابق وخصومه، وسيلة الخلاص الممكنة الوحيدة من نظام الرئيس المخلوع والمغدور صدام حسين. لقد بدأ الخلل هنا حين ظنّ البعض أنّ المحتل جمعية خيرية لا تبغي الربح ولا تحرّكها الأطماع والمصالح السياسية والاقتصادية! كانت تلك لحظة خطأ تاريخي، وكان ضحيتها الأساسية الشعب العراقي ووحدته ومصالحه وحقوقه على كلّ صعيد. والخشية اليوم، أمام التبعثر والتشرذم والعجز الشامل الذي يسم قوى «العملية السياسية» وخصومها، هو الدفع بأحد احتمالين كلاهما مر: إما الانتقال نحو الفتنة الداخلية والحروب الأهلية المتنوّعة، وإما الجنوح باتجاه مغامرات لإيهام الذات والآخرين بأنّ الديكتاتورية هي بديل الاحتلال، كما كان الاحتلال بديلاً للديكتاتورية! والديكتاتورية المقصودة هنا كلّ الأشكال والمغامرات التي قد تراود البعض، بما فيها بعض قوى النظام السابق التي قد تعتبر أنّ زوال الاحتلال يعطيها حقًّا «طبيعيًا» في استعادة سلطتها وبكلّ الوسائل الممكنة!
في العراق برزت أميركا قوة تدمير وقهر ونهب وإذلال كما لم يحدث في أيّ بلد آخر. استعارت واشنطن، بشراكة وثيقة مع لندن «طوني بلير»، «التجربة اللبنانية» لإقامة حكم «عادل» يوزّع السلطة بين العراقيين فينصف «المحروم» ولا يحرم المستأثر صاحب «الامتيازات». الأحرى أن تكون تجربة الاحتلال المريرة في أبعادها المتنوّعة فرصة لكي يتّعظ الجميع من دروسها: على المستوى الإسلامي، وعلى المستوى العربي، وعلى المستويين العراقي واللبناني خصوصًا.
إنّ مقاومة الاحتلال هي المقدّمة الضرورية. إنّ وقوع العراق في الفوضى والحروب والتفتيت سيكون نجاحًا للأميركيين حققوه بانسحابهم بعد فشل احتلالهم في تحقيقه. وسيزيد من النجاح الأميركي (والصهيوني استطرادًا) أنّ مفاعيل الجرح العراقي سيتعمّم نزيفها على كلّ الجسد العربي والشرق أوسطي من موريتانيا حتى باكستان!
إنّها إذاً، مشكلة البديل، وليس فقط مشكلة الاحتلال أو الديكتاتورية: إنّها مشكلة قوى التحرير والتغيير التي يجب أن تطوّر مشاركتها وتعمّقها أو تستعيد دورًا ووظيفة وفعالية في ساحة الصراع الحقيقي، وبكل صيغه وأشكاله الضرورية.
* كاتب وسياسي لبناني