«..هل نسي البعض أن الفكر ليس في ذاته قوة مادية، بل في صيرورته وعي الجماهير؟ أما الشيوعيون فهم الذين يعلمون أن للنظرية العلمية جسداً هو جسدهم، وأعصاباً هي أعصابهم، وعاطفة هي عاطفتهم، وأنّ لها حياة هي حياة نضالهم، وحباً في عيونهم حتى الشهادة. فليبحث (المتفكرون) عنها في هذه العيون التي ترى، وفي الأيدي التي تحاول التاريخ يومياً، تدكه وتحاوله، تشق فيه درب التحرر...» النظرية في الممارسة السياسية – مهدي عامل.
شهد لبنان مند عام 2010 مجموعة من التحركات الشعبية، كادت أن تتحوّل إلى انتفاضات تهزّ أركان النظام القائم، من حملة «إسقاط النظام الطائفي»، إلى نضالات «هيئة التنسيق النقابية»، وصولاً إلى «الحراك» الشعبي الجاري اليوم.
على امتداد هذه الاحتجاجات، وخاصّة خلال عملية تطوّرها الداخلي، دائماً ما كان يبرز سؤال عن دور الحامل الطبيعي لحراكات كهذه، وما تحمله موضوعياً من شعارات؟ ونقصد اليسار عامّة، والحزب «الشيوعي اللبناني» خاصّة.
إنّ دور الحزب في هذه الحراكات يمكن فصله (للضرورة) إلى قسمين. فمن جهة هناك دور الشيوعيين كأفراد، ومن جهة ثانية دور الحزب كأداة ثورية. وهنا لا بد من الإشارة إلى الانتقادات استباقاً. إنّ حركة الحزب هي، بالدرجة الأولى، حركة أعضائه عندما يتملكون برنامجه السياسي، وينخرطون في المجتمع من أجل تحقيق أهدافه.

العودة إلى الناس لن تبدأ
إلا من الأطراف حيث تسهل ترجمة هموم الناس

عندما نلقي نظرة سريعة على الحلقات الصغيرة (مركزياً)، والحلقات الواسعة (المناطق) التي تعمل على حشد، وتجييش الناس، حول شعارات الحراك، نجد أن الشيوعيين يوجدون في هذه الحلقات بشكل أساسيّ مؤثّر ومحرّك، وخاصة في الحلقات الواسعة. فهم «الماكينة» الميدانية المحرّكة، والمنظمة التي تملك صلات مع معظم المناطق، وبالتالي فهم صلة الوصل الميدانية، الوحيدة تقريباً، بين المركز والأطراف، والتي عليها يكون معظم العمل اللوجستي اليومي، تحضيراً للتحرّكات. إلا أنهم، بالرغم من الكفاحية العالية التي يتمتعون بها، لا يقدّمون أنفسهم على أنهم حزبيون، وذلك حرصاً منهم على الحراك، خاصّة في ظلّ وجود بعض أصحاب الرؤوس الحامية، ممّن يعانون «فوبيا الأحزاب»، وخاصّة اليسارية منها (وهذا الأمر ليس بجديد). وبالرغم من الاتهامات التي تكال ضدّهم، ومحاولات تشويه دورهم، إلا أنهم يزدادون يوماً بعد يوم اندفاعاً وانخراطاً وتنظيماً.
وهنا لا بدّ من التفرقة بين من هم حرصاء فعلاً على الحراك، من غير الحزبيين، والذين يطالبون بعدم فرض أجندة أيّ حزب في الحراك (يتلاقى الشيوعيون مع هؤلاء لأنهم يحرصون مثلهم على إنجاح الحراك والوصول إلى أهدافه المعلنة)، وبين قلّة تستخدم نفس الشعار، وبالمقابل هي تعمل في الخفاء على فرض أجندة مموّلة من جهات مشبوهة، تعود بالنفع الشخصي المباشر على أصحابها، وبالضرر الكبير على الحراك. ومثل هؤلاء (ولضرورات الحصول على التمويل) يتحوّلون إلى نجوم الشاشات، أو «ثوّار التلفار» بسرعة فائقة (طبعاً لا نعني جميع الناطقين الإعلاميين)، وهؤلاء بالذات هم من يصطدم بهم الشيوعيون.
هذا الانخراط المؤثر للشيوعيين في الحراك يدفع الحزب إلى التحرّك، والانخراط من خلال برنامجه. هذا الانخراط يجب أن يوفر للشيوعيين أداة تحركهم السياسية، والتنظيمية، أي أن يُسهم، من خلال برنامج حزبهم، في تطوير برنامج الحراك، وتحميله شعارات يمكن من خلالها دفعه نحو تحقيق هدفه النهائي، وهو تغيير النظام. بمعنى آخر، الإضافة التي يمكن أن يوفرها دخول الحزب هي رفع الحراك من مستوى العفوية، إلى مستوى الفعل المنظّم، الذي يؤدي إلى التغيير. هذا الأمر لا يمكن إحداثه إلا إذا كان الحزب نفسه يملك برنامجاً، ورؤيةً توصل إلى هذا الهدف.
إنّ برنامج الحزب «الشيوعي اللبناني» هو برنامج لا يصلح لطبيعة المرحلة التي نحن فيها اليوم، فالحزب لا يزال يرفع برنامج ما قبل الحرب اللبنانية، الذي تبنّته «الحركة الوطنية» في ما عرف لاحقاً بالبرنامج المرحلي. إنّ هذا البرنامج، الذي كانت تواكبه ظروف دولية وإقليمية وداخلية مغايرة إلى أبعد الحدود، والذي كان ثمرة نضالات شعبية قادها الشيوعيون وحلفاؤهم، منذ الخمسينيات وحتّى أوائل السبعينيات، وثمرة نقاشات داخلية في الحزب استمرت لسنوات. إنّ هذا البرنامج الذي طرح الثورة الوطنية الديموقراطية، والحكم الوطني الديموقراطي، لا يصلح لظرفنا هذا. وهنا لا ضرورة للكلام عن تغير الظروف، وتراجع اليسار نتيجة أنه الخاسر الأوّل، والوحيد، في الحرب اللبنانية.
فإنّ إصرار الحزب على رفع شعار قانون انتخاب يعتمد النسبية، ولبنان دائرة واحدة، وخارج القيد الطائفي مثلاً، كمدخل للتغيير يعني أن التغيير مستحيل اليوم.
كان من الممكن تحقيق هذا الشعار عشية الحرب، لأنه كان يجمع حوله تأييداً شعبياً ضخماً، يمكّن الحزب وحلفاءه من فرض هذا المطلب. وبهذا المعنى فقد كان هذا الشعار ثورياً، أي ضرورياً. اليوم لا يمكن تحقيق هذا الشعار، كخطوة مرحلية على غرار السابق، وذلك لأنّه في ظلّ غياب الحاضن الشعبي تصبح إمكانية تحقيق الشعار تمرّ عبر طريق وحيدة، وهي أن يقرّه المجلس النيابي القائم، وبتعبير آخر، أن يأخذ النظام القائم قراراً بتغيير نفسه، فهل هذا ممكن؟ الجواب قطعاً لا. فهذا النظام أنتج من الحروب ما لم ينتجه أيّ نظام آخر من أجل البقاء.
إنّ المطلوب اليوم، على مستوى برنامج الحزب، وبالتالي على مستوى أي حراك، هو العودة خطوة إلى الوراء (مع الاحتفاظ بالشعارات الحالية كأهداف استراتيجية... كقانون الانتخاب، وغيره)، أي العمل على بناء الحاضنة الشعبية التي خسرناها، ومن ثمّ الانطلاق بها نحو التغيير الجذري. وهنا لا نتكلم عن عملية قد تحتاج عشرات السنوات، بل على العكس، فالاستمرار بنفس النمط السائد لن يجلب التغيير أبداً. إنّ توجّه الحراك الشعبي مباشرة نحو العاصمة هو مقتل للحراك، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الحزب. فالاستمرار في إقامة النشاطات المركزية (على أهميتها) لن يوسّع قواعد الحزب، ولا حضوره الشعبي («فليس بالطليعة وحدها تحقق الثورة»). إنّ التجربة الأخيرة التي قادتها المناطق اللبنانية، وبشكل رئيسي تجربة بلدة برجا، تدلّ على أنّ العمل في المناطق يهزّ أركان النظام أكثر من العمل المركزي، الذي يتحوّل سريعاً إلى مركز لإحصاء عدد المشاركين. إنّ تجربة برجا، مثلاً، كانت رائدة في مجال حشد كلّ أبناء البلدة (عددهم كبير نسبياً) من كلّ التوجّهات السياسية، في وجه النظام بكل أطرافه، وكانت هموم الناس، وغضبها على النظام، هي الموجّه، وهي سبب صلابة الموقف، والصمود في وجه السلطة، ومن ثمّ تحقيق النصر عليها، من خلال تراجعها عن قرارها.
إنّ العودة إلى الناس لن تبدأ إلا من الأطراف، حيث تسهل ترجمة هموم الناس، ويكسر أقوى سلاح يحمله النظام، وهو التحريض الطائفي (في القرى عادة لا مجال لهذا التحريض) ويسهل بالتالي تعبئتهم، وقيادتهم نحو تحريرهم من هذا النظام، كما حصل عندما أسهم الحزب في تحريرهم من الاحتلال الصهيوني.
إن من أولى مهمات الحزب اليوم، هي تحديث برنامجه، وكسر التناقض الذي يكبّل الشيوعيين، بين اندفاعهم الثوري من جهة، وعدم تملّكهم لبرنامج ثوري من جهة ثانية. عدم القيام بهذه المهمة يعني تخلّي الحزب عن ضرورة وجوده، إلا أننا على ثقة تامّة بأنّ هذا الحزب يضمّ في صفوفه ثوريين حقيقيين، يتمتعون «بقلب حامٍ، ورأسٍ بارد» يمكّنهم من التغيير في برنامجهم، وبلدهم.
* باحث عربي