مصطفى بسيوني * في مقاله المنشور في «الأخبار» بتاريخ 18 آب/ أغسطس 2010 تحت عنوان «عكار الصعود المتجدّد للصراع الطبقي»، تعرّض كميل داغر لقضية عمال أنابيب المستقبل ونضالهم، ملمّحاً إلى عمّال فرع الشركة في مصر. وإذ عرض داغر بالتفصيل لأوضاع عمال الشركة في لبنان، وجب إضاءة الجانب الآخر في مصر، ليس فقط لأن صاحب الشركة في لبنان ومصر واحد، ولكن بالأساس لأنّ عمال أنابيب المستقبل في لبنان ومصر جزء من طبقة واحدة كما تؤكد قضيتهم وحركتهم.
لم تبدأ أزمة عمال أنابيب المستقبل بفصل أكثر من 130 عاملاً في مصر، أو بإغلاق الشركة وتشريد العمال في لبنان. فقد كانت ظروف وأوضاع العمل نفسها أزمة مستمرة. بدأت شركة أنابيب المستقبل في مصر عام 1999 في مدينة السادس من أكتوبر، إحدى المدن الصناعية الجديدة التي تسود فيها قواعد عمل القطاع الخاص، من ساعات عمل طويلة وأجور منخفضة وغياب للنقابات وللاستقرار حيث يسهل في هذه المدن فصل العمال دون أسباب.
وإضافة إلى تلك الأوضاع العامة التي يعاني منها عمال المدن الجديدة في مصر، كان عمال شركة أنابيب المستقبل يعانون من الأسوأ. فعمال الشركة البالغ عددهم 700 عامل يعملون لمدة 48 ساعة في الأسبوع ـــــ يقرر قانون العمل ولوائحه التنفيذية أن العاملين في المواد الكيميائية الخطرة يعملون لمدة 42 ساعة فقط أسبوعياً، على أن يتخلل اليوم ساعة للراحة ـــــ ويوم راحة واحد أسبوعياً وبمتوسط أجر أقل من مئتي دولار شهرياً. والأهم ما كان يتعرض له العمال في صناعة أنابيب «الفايبر غلاس» جراء التعامل مع المواد الخطرة دون توافر وسائل وقاية منها. وحسب مذكرات الشرح المرفقة بتلك المواد التي حصل عليها العمال وتبيّن أخطارها وطرق ونسب استخدامها الآمنة ووسائل الوقاية منها، فإنّ تلك المواد تسبّب أضراراً بالغة. من هذه الأضرار مثلاً: مادة «الريزين» التي تسبّب التهاباً شديداً بالعين والتهاباً وجفافاً بالجلد والتهاباً في الرئة. وإن لم يتأكد تسبّب المادة بالسرطان، فإنّ فئراناً استنشقتها أصيبت بسرطان الرئة. ومادة «الإنهيبتور» التي تسبّب أضراراً بالقرنية وحروقاً بالجلد، وتؤدي إلى أخطار شديدة على الجهاز التنفسي في حالة الاستنشاق. ومادة «الفلنستر» التي تمتد أضرارها للجهاز التنفسي والجهاز العصبي والكبد والكلى، إضافة لالتهاب الجاد والعين. ومادة «الميثيلين كولوريد» التي تسبّب السرطان وتعدّ سامة للرئة والجهاز العصبي والأغشية المخاطية ويوصى عند التعامل معها بارتداء معاطف وقفازات وقناع واقٍ ونظارات واقية للعين. هذه مجرد أمثلة، ولكن الأهم أن وسائل الوقاية التي تقلل من آثار التعامل مع تلك المواد لا يحصل عليها العمال، ويضطرون للتعامل معها دون أي إجراءات وقائية. كما أن الوجبة الوقائية التي يقررها القانون للعاملين في تلك الظروف لا يحصل عليها عمال الأنابيب. وكل ما يحصلون عليه وجبة هزيلة تكلف أربعة جنيهات يومياً، أي أقل من دولار واحد في اليوم، ويتحمل العامل ربع قيمتها. واللافت أنه عندما يأتي إلى الشركة تفتيش من وزارة البيئة أو القوى العاملة، تُوزع بعض وسائل الوقاية على العمال ثم تُجمع بمجرد انتهاء التفتيش. هذه الأخطار ليست نظرية فقط. فنتائج التعامل مع تلك المواد الخطرة أصبحت واضحة على العمال. يفيد مثلاً تقرير وفاة العامل بالشركة محمد أحمد محمود البالغ من العمر 22 سنة في 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2008، أن الوفاة حدثت «نتيجة توقف في المراكز الحيوية بالمخ وهبوط حاد في الدورة الدموية والتنفسية نتيجة أورام خبيثة بالدم»، بحسب نص التقرير. وهو ما اعتبره عمال الشركة وعائلة المتوفى نتيجة عمله في المواد الخطرة، وقرروا مقاضاة الشركة. وكذلك العامل محمود دياب الذي أصيب بربو شعبي مزمن يعزوه الأطباء لاستنشاق الأبخرة الصناعية. هذه مجرد أمثلة على جريمة ترتكب في حق العمال في عكار والسادس من أكتوبر.
تلك الأوضاع والظروف التي يعاني منها العمال أضيف إليها غياب تنظيم نقابي يعمل على تحسين أوضاع العمال وشروط العمل. لقد حاول العمال بناء نقابة في الشركة. وتوجه وفد منهم بالفعل للنقابة العامة للعاملين بالكيماويات لتأسيس لجنة نقابية تابعة لها بالشركة. إلا أن النقابة العامة المنوط بها الدفاع عن العمال ومحاولة مد المظلة النقابية لتشمل كل العمال، تجاهلت الوفد ولم تلبِّ طلبهم بتأسيس النقابة. واضطر العمال إلى تأليف لجنة في الشركة للتفاوض مع الإدارة، ولكنها لجنة لا تحمل صفة رسمية ولا تحظى بحماية قانونية.
على مدى ما يقارب عشر سنوات، استمر عمال شركة المستقبل للأنابيب في معاناتهم من تلك الأوضاع التي لا تهدر فقط حقوقهم كعمال، ولكنها تهدّد مباشرةً أيضاً صحتهم وحياتهم.
رغم تحقيق الشركة أرباحاً طائلة، لم تصرف للعمّال نصيبهم، وهو ما يحدّده القانون بـ10% من صافي الأرباح سنوياً
ولكن في الشهور الأخيرة، بدأت الأمور تتفجر. فرغم تحقيق الشركة أرباحاً طائلة، لم تصرف للعمال نصيبهم في الأرباح، وهو ما يحدده القانون بـ10% من صافي الأرباح سنوياً. وبعد بحث العمال عن حقيقة أرباح الشركة، توصلوا عبر جهات رسمية إلى أن أرباح الشركة عن آخر عام تبلغ مئة مليون جنيه، وهو ما يجعل حصة العمال عشرة ملايين جنيه. وإزاء مطالبة العمال بحقهم في الأرباح، بدأت الشركة تصرف أرباحاً هزيلة بواقع 50 جنيهاً للعامل، لا تمثّل نسبة فعلية من أرباح الشركة كما ينص القانون. وبعد إصرار العمال على حقهم في الأرباح، أعلن سعد الخادم، العضو المنتدب بالشركة، أن الأرباح ستصرف للعمال في نيسان/ أبريل 2010 بقيمة 2.2 مليون موزعة على العمال. وفي 27 نيسان/ أبريل، صرف العمال أجورهم ولم يصرفوا الأرباح، فتجمّع العمّال أمام مقر الإدارة للسؤال عن أرباحهم.
ما كان من الإدارة إلا أن اعتبرت تجمع العمال أعمال شغب وتجمهُر، وقرّرت وقف 14 عاملاً عن العمل تمهيداً لفصلهم، رغم أن تجمع العمال لم يشهد أي بادرة شغب ولم يرقَ حتى لكونه عملاً احتجاجياً. فوجئ العمال بعد ذلك بفصل 120 عاملاً إضافياً، فأصبحت أزمة العمال على مستوى آخر. فحتى فرصة عمل بأجر متواضع ومحفوفة بأخطار على الصحة والحياة ليست مضمونة عندما يطالب العمال بشيء من حقوقهم.
طرق العمال المفصولون كل الأبواب المعنية بأزمتهم من وزارة القوى العاملة واتحاد العمال ومنظمة العمل الدولية وحتى السفارة اللبنانية مطالبين الحكومة اللبنانية بالتدخل لدى مواطنها فؤاد المخزومي، صاحب الشركة، لوقف اضطهاد العمال.
حملة طرق الأبواب التي اتبعها العمال لم تنتج شيئاً يذكر. وجاءت الاستجابة الأهم من عمال شركة المستقبل بلبنان الذين أغلقت شركتهم. فعبر نشطاء اشتراكيين في لبنان ومصر، بدأ اتصال عمال فرعي الشركة وأرسل عمال الفرع المصري بخطاب تضامن وتأييد للعمال المعتصمين بلبنان. وهو ما تلاه بيان مشترك لعمال الفرعين يشرح القضية ويدين تواطؤ الصمت من المسؤولين الرسميين، ويؤكد أن قضية العمال في الفرعين هي قضية واحدة. لقد تعرض العمال في كلا الفرعين للاضطهاد نفسه على مدى سنوات، ثم تعرضوا للفصل والتشريد نفسه، وسار كل منهما خطوات على طريق مقاومة الاضطهاد. وعلى طريق المقاومة، التقى الاثنان في محاولة لتوحيد جبهتهما وتوسيعها ليس فقط عبر بيان مشترك، بل عبر الترتيب لخطوات مشتركة ومتزامنة.
والحقيقة أن لدى العمال في مصر ولبنان الكثير ليقوموا به. فمن الواضح أن جبهة متماسكة من رجال الأعمال والمسؤولين الحكوميين والبيروقراطية النقابية تتعاون بطريقة منظمة وفعالة لإهدار حقوق العمال واضطهادهم في أي مكان. ووجود جبهة متماسكة من العمال أنفسهم هنا وهناك، ومن القوى النشطة المتضامنة معهم، من شأنه أولاً أن يقطع الطريق على استفادة رجال الأعمال من تفتيت العمال بين فروع عدة، بحيث يمكن إغلاق أحد الفروع وتكثيف استغلال آخر، أو حل مشكلة هنا على حساب عمّال هناك.
لقد نجحت الرأسمالية في مرحلة العولمة في توحيد قواعد وشروط الاستثمار عبر العالم. واستطاعت أن تزيل كل الحواجز أمام رأس المال، ما سهّل على المستثمرين الهروب إلى حيث الأجور الأقلّ والقواعد البيئية الأيسر والضرائب الميسرة والأرباح الأعلى. وفي مواجهة ذلك، لا بد من توحيد شروط العمل وأوضاعه والمطالبة بمعايير واضحة وثابتة لعلاقات العمل. لقد نجحت بعض النقابات في إحراز تقدم على هذا الطريق. فأبرم الاتحاد الدولي لعمال البناء والأخشاب مثلاً اتفاقيات عمل عدة مع شركات الأسمنت العابرة للقومية تلزم الشركات بمعايير عمل واحدة في الدول المختلفة. وهو ما كان مرجعاً مثلاً عند التفاوض بين عمّال فروع شركة «إيطال شمنت» في مصر وإدارة الشركة. إن ما يبدأه عمال فرعي شركة المستقبل في لبنان ومصر لا يقتصر على محاولة توحيد حركة العمّال الألف في الشركة. ولكنه يضع قاعدة جديدة للتضامن العمالي العابر للحدود في مواجهة رأسمال تزال من أمامه كل الحدود.
* صحافي مصري