عصام العريان*كرّس الدكتور يوسف القرضاوى المجلّد الثاني من كتابه الجليل «فقه الجهاد دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته فى ضوء القرآن والسنّة»، قضايا تتعلق بالقتال بين المسلمين أنفسهم، الذي صنّفه بعض المسلمين قديماً وحديثاً في إطار الجهاد المشروع ضد الفئة الباغية، وعدّه البعض خروجاً على الحكم الشرعي، أو نشب في تاريخنا القديم والوسيط وما زال يتجدد بين الدول الإسلامية التي تفرّقت بينها أمّة الإسلام الواحدة في عصرنا هذا إلى ما يزيد على 50 دولة قطرية، لكل منها جيش نظامي وقوات شرطة وحرس حدود... إلخ، وهو ما نعرفه اليوم في نزاعات الحدود المستمرة، تلك الحدود التي اصطنعها الاحتلال الأجنبي لبلادنا.
ومما يؤلم النفس أننا في عصرنا هذا لا نجد حروباً مشتعلة إلّا والمسلمون طرف فيها، أو هم الأطراف المتحاربون، ولم تتوقف نزاعات الحدود ولا الحروب الأهلية داخل الدول المسلمة خلال النصف قرن المنصرم تقريباً، ممّا يجعل لهذا المجلّد الثاني أهمية بالغة، ويجعل لاقتراحات الشيخ القرضاوي، التي أفرد لها بعض الملاحق ذات الأهمية، ويحقّ لنا التساؤل: هل غابت الإرادة الشعبية الإسلامية كما غابت الإرادة السياسية لوقف نزف الدماء المتواصل بين المسلمين؟ وهل هناك من يجرؤ على تصنيف تلك الحروب في إطار الجهاد المشروع؟
لقد جاء المجلد الأول في ستة أبواب تتعلق غالباً بالإطار النظري للجهاد وفلسفته وأهدافه وحقيقته وأحكامه، وتطرق فيه الشيخ إلى موقف المسلمين من أمم العالم المختلفة، وتحدث عن الجهاد بين الدفاع والهجوم، وناقش مفهوم النسخ في القرآن ليدلّل على عدم صحة ما ذهب إليه كثيرون من أنّ آية السيف نسخت أحكاماً عديدة في الفقه الإسلامي، وتحدّث عن وجوب إعداد الأمة للجهاد وخطورة القعود عنه وواجبات وآداب ودستور جيش الجهاد الإسلامي، فكان ذلك كلّه تقعيداً وتأصيلاً لمفاهيم وأحكام وحكمة وفلسفة الجهاد في الإسلام بدراسة مشوّقة ممتعة مهما طالت وتتطلّب الصبر على الدراسة والفهم والتأمل، وتحتاج إلى إعادة القراءة والتمعّن والمقارنة.
أما المجلّد الثاني، فقد جاء كتطبيق عملي لتلك المفاهيم والأحكام في أبواب أربعة وملاحق ستة... ناقش فيها الشيخ الجليل انتهاء القتال وأحكامه وتعرّض باستفاضة لمعاملة الأسرى، وأيّد فيها الانضمام إلى المعاهدات الدولية القائمة والمعروفة باسم معاهدات جنيف لأحكام الحرب والأسرى، وردّ على المعترضين على تلك الأحكام، ثم ناقش فكرة دار الحرب ودار الإسلام في وسطية واعتدال، وبيّن أنّ انضمام الدول الإسلامية اليوم إلى معاهدة وميثاق الأمم المتحدة يجعل العالم كله دارين فقط: دار إسلام، وهي بلاد المسلمين، ودار عهد، وهي بقية بلاد العالم باستثناء دولة واحدة هي دولة العدو الصهيوني في فلسطين.
واستفاض الشيخ في الحديث عن أحكام أهل الذمة من غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، رغم أنه أفرد لها من قبل كتاباً مستقلاً صدر منذ سنوات طويلة. وأعتقد أن إدراج تلك الأحكام في الكتاب المتعلق بفقه الجهاد لم يكن له داع إلا ما تسببت فيه الجماعات الجهادية من اعتداءات غير مبرّرة على المسيحيين في مصر بالذات، ولا أدري هل سيضطر الشيخ إلى الاستفاضة من جديد في طبعات قادمة عن الأحكام المتعلقة بالمذاهب الإسلامية العقائدية مثل الشيعة والسنّة أو الإباضية أو غيرهم إذا تفاقمت ـــــ كما هي الحال الآن في العراق ـــــ المذابح البشعة بين المسلمين أنفسهم لأسباب مذهبية. ولقد أشار إلى ذلك بالفعل في كتابه، إلا أنه لم يفرد له مثل تلك المساحة الكبيرة. وفي الحقيقة لقد أضاف الجديد في معاملة النصارى ممّا يستدعي الحوار حوله وإشاعة أحكام تلك المعاملات ونشرها بين المسلمين، وخاصةً إذا أدركنا أن إحدى العقبات في وجه المشروع الإسلامي الحضاري والتطبيق الكامل للشريعة الإسلامية هي ما يتعلق بمعاملة غير المسلمين من المواطنين. ويتطلب ذلك اجتهاداً واسعاً من الفقهاء والعلماء والقانونيين والساسة، وشرحاً لهؤلاء المواطنين الذين يريد البعض من قادتهم ومفكريهم أن يجعلوهم شوكة في حلق البلاد الإسلامية، بعدما عاشوا فيها قروناً طويلة في تسامح فريد وأضافوا وشاركوا في صنع الحضارة العربية الإسلامية، وتولّوا مناصب عديدة مهمّة في ظل الحكم الإسلامي على مدار التاريخ.
لقد أسهب الشيخ أيضاً فى إرساء قاعدة مهمّة في العلاقات الدولية، وهي الوجه الآخر لقانون الحرب أو الجهاد في الإسلام، وهي أن الكفر ليس وحده علّة في القتال مع غير المسلمين، بل إن العدوان هو السبب الوحيد للدفاع أو الهجوم في حروب المسلمين، وفنّد حُجَجًَا استقرت في وجدان طلبة العلم والفقهاء على مدار سنين طويلة كانت الأمة فيها قادرة على القتال والبدء به. أما الآن، فالمسلمون أمة مهزومة ومتخلّفة حضارياً، تستورد سلاحها والكثير من غذائها من عدوها، وتعيش عالة على الآخرين، ولم تحقّق حتى الآن الاستقلال الحقيقي الجاد. وإذا كان الفقه هو استجابة الفقهاء للواقع وإيجاد حلول لمشاكل الناس كافة، وأولي الأمر خاصة، فإن استجابة القرضاوي لذلك الوضع ومعايشته باستمرار ونصائحه المتوالية في دروسه وخطبه ومقالاته وكتبه وبرامجه التلفزيونية للصحوة الإسلامية، قد أثمرت طوال العقود الثلاثة الماضية دروساً مهمّة بدءاً من الجهاد الأفغاني، والجهاد الفلسطيني، والنزف المستمر بسبب الأحداث المتتالية خلال العقد الأخير من تنظيم القاعدة. وكانت كتابات الشيخ في الغالب استجابة لذلك الواقع.
لقد سعى الشيخ خلال «فقه الجهاد» في كلا الجزءَين إلى تأصيل وتقعيد قواعد فقهية عدة تناسب العصر الحالي، بل قد تستمر مع المسلمين قروناً قادمة في إطار القاعدة الأصولية أنّ الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والظروف والأحوال، أهم تلك القواعد والخلاصات هي:
ـــــ الجهاد واسع المدى وهو ليس مجرد قتال، وأكثر ما ورد في القرآن يراد به بذل الوسع في نشر الدعوة الإسلامية والدفاع عنها، ولو أنه استقر في العرف الفقهي بأنه القتال ضد الكفار والبغاة... والجهاد يشمل عمل القلب بالنية والعزم، وعمل اللسان بالدعوة والبيان، وعمل العقل بالرأي والتدبير، وعمل البدن بالقتال وغيره... أو كما يلخص الشيخ «أن الجهاد يعني: بذل المسلم جهده ووسعه في مقاومة الشر ومطاردة الباطل، بدءاً بجهاد الشر داخل نفسه بإغراء شيطانه وتثنيةً بمقاومة الشر داخل المجتمع من حوله، منتهياً بمطاردة الشر حيثما كان، بقدر طاقته».
ـــــ لا إجماع على فرضية جهاد الطلب (الهجومي)، وغزو العدو مرة كل سنة وأن ذلك فرض كفاية على الأمة، إنما المجمع عليه أمران لا خلاف عليهما:
الأول: أن ينزل العدو ببلد من بلاد المسلمين، فيجب عليهم جهاده، ويجب على الجميع إعانتهم حتى يُهزم.
الثاني: تجهيز الجيوش، وإعداد العدّة اللازمة للدفاع عن الحوزة، من القوة العسكرية الكافية لردع العدو، والقوة البشرية المدرّبة، بما يقتضيه العصر في البر والبحر والجو.
وإن إيجاب ذلك الغزو السنوي ضد الأعداء خضع للظروف التاريخية المتغيرة ويخضع لفقه السياسة الشرعية الذي يتّسم بالرحابة والمرونة، والقابلية للتطور وتعدد وجهات النظر لأنه يقوم أساساً على فقه المقاصد والمصالح.
ـــــ على كل مسلم أمران إذا تعيّن الجهاد (الدفاعي) وصار فرض عين:
الأول: أن يصطحب نية الجهاد في سبيل الله، سواء أتيح له الجهاد بالفعل أو لم يُتح.
الثاني: أن يكون مستعداً لتلبية النداء إذا دُعي للمعركة في أي وقت، دون تلكؤ ولا إبطاء.
ـــــ لا خلاف على فرضية الجهاد والبدء به في الحالات الآتية:
أ ـــــ توفير حرية الدعوة ومنع الفتنة فى الدين.
ب ـــــ توفير سلامة الدولة الإسلامية، وسلامة حدودها.
ج ـــــ إنقاذ المستضعفين من أسارى المسلمين، أو من أقلياتهم.
د ـــــ إخلاء جزيرة العرب من (الشرك المحارب) المتجبر فى الأرض، وهذا سبب لم يعد له وجود.
ـــــ الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هو السلم والسلام إلا أن يقع اعتداء على المسلمين أنفسهم، أو أموالهم أو أرضهم، أو على دينهم بالفتنة عنه، والصد عن سبيله، أو على المستضعفين في الأرض من المسلمين أو من حلفائهم ونحو ذلك.
ـــــ العلة في قتال الكفار ليست مجرد كفرهم بالله أو رفضهم للإسلام، بل هي عدوانهم على المسلمين وإضرارهم بالدين وأهله، وليس هدف القتال في الإسلام محو الكفر من العالم، أو البحث عن الغنائم والاستيلاء على الأموال والأراضي.
ـــــ الجزية هي بدل عن الحماية العسكرية التي تقدّمها الدولة الإسلامية إلى أهل ذمتها، فإذا لم تستطع أن تقوم بالحماية لا يعود لها حق في أخذ تلك الضريبة، كما تسقط أيضاً باشتراك أهل الذمة مع المسلمين في القتال والدفاع عن دار الإسلام ضد أعداء الإسلام.

الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هو السلم والسلام
ـــــ في جهاد الطلب (الهجومي) يجب الانسحاب فور خوف الهلاك، وفي جهاد الدفع والمقاومة تُبذَل المُهج ولكن لا تعرض الجماعة للهلاك وليس من الحكمة ولا الصواب أن تدخل مع العدو في معركة فناء وإبادة إذا كانت القوى غير متكافئة ولا متقاربة.
وفي الجزء الثاني، كان هناك فصل قصير عن علاقة المسلمين بالهندوس والبوذيين وغيرهم، انتهى إلى معاملتهم بنفس المعاملة العادلة: مَن سالمنا سالمناه، ومن اعتدَ علينا قاومناه وحاربناه. ولقد بدأ الشيخ في حوار جديد مع الهندوس في الهند، ولعل ذلك يكون فاتحة خير للخروج إلى العالم الآخر شرقاً، لكنه لم يفصل في كيفية تعامل الأقليات المسلمة في تلك البلاد وهي تُعدّ بالملايين بل أكبر عدداً من كثير من البلاد المسلمة، حيث يبلغ عدد المسلمين في الهند أكثر من 100 مليون مسلم، و70 مليوناً في الصين، مع اختلاف الأوضاع في بلادهم التي يتعرضون فيها لمعاملة حسنة، أحياناً في الهند، التي حكمها المغول المسلمون قروناً، وقاسية جداً في الصين، التي ضمت بلاد تركستان الشرقية (ألا يغور) إلى دولتها حديثاً، وهل يجوز لهم كأقلية رفع السلاح مثلما فعل المسلمون الشيشان ضد روسيا الشيوعية سابقاً، وما هو واجبنا كأمة الإسلام في هذه الحالة، وهل ذلك يُعدّ قتالاً مشروعاً أم هناك مخارج لهم، وخاصةً أنهم حالة فريدة؟ فهم مواطنون أصليون وليسوا وافدين كالمسلمين العرب في أوروبا، وهم كانوا حكام البلاد في سالف الزمان وزالت دولتهم وسلطانهم، لكنهم لم يهاجروا أو يُنفوا من بلادهم كالمسلمين في الأندلس مثلاً، بل بقوا فيها واستمروا تحت الضغط الشيوعي، ونجحوا في الاحتفاظ بهويتهم إلى حد ما، واختلطت لديهم الأحلام القومية بالمشاعر الدينية، وهم لا يقدرون على مواجهة قوة الدولة المسيطرة ويحتاجون قبل الدعم المادي والأدبي والإعلامي إلى فقه مواجهة الواقع الذي يعيشون فيه.
وثمة مسلمون في الهند رفضوا الهجرة إلى باكستان الناشئة عام 1947 أو اضطروا إلى البقاء في موطنهم الأصلي رغم المذابح البشعة التي حدثت لهم، وهم يتمتعون بحرية أكبر ويطبقون القانون الإسلامي في أحوالهم الشخصية، ويشارك بعضهم في الحياة السياسية. والتساؤل هنا: ما هو دورهم؟ وما هو مفهوم الجهاد بالنسبة إليهم؟
ولم يتطرق الشيخ بكلمة أو بحث عن قضية «كشمير» اللهم إلا بإِشارة سريعة جداً. فما هو الموقف من جهاد الكشميريين؟
* قيادي في جماعة الإخوان المسلمين في مصر