هشام البستاني*منذ انطلاق ما سمّي بـ«المرحلة الديموقراطيّة» في الأردن في عام 1989 ونحن نعيش كذبةً كبرى شارك في صياغتها الجميع: من السلطة السياسية وحتى أحزاب المعارضة والنقابات المهنيّة. فالميثاق الوطني كان خدعةً لجهة عدم إنجاز أي تعديلات دستورية على دستور يكرّس هيمنة السلطة التنفيذيّة؛ وانتخابات 1989 كانت خدعة لإنهاء الحركة الشعبية ذات المطالب الاقتصادية/ الاجتماعية/ السياسية (هبّة نيسان)، والتمهيد للدخول في عملية «السلام» مع الكيان الصهيوني وتوقيع معاهدة معه، واحتواء شخصيّات المعارضة ضمن معادلة الحُكم في إطار ديموقراطية مفرغة عمليّاً ودستوريّاً من مضمونها، ومن ثمّ احتواء الأحزاب السياسيّة بقانون الأحزاب لتنكشف هياكلها التنظيميّة الهشّة، وتنكشف عضويّتها، وتقبل بالمحدّدات التي أملتها السلطة لتكون شروطاً للعبة السياسية؛ فتنهار المعارضة تماماً.

إفراغ البرلمان من مضمونه

أمّا البرلمان، ومن خلال قوانين مؤقتّة متتابعة للانتخابات عزّزت التفتيت والمزيد من التفتيت، فقد تحوّل، بتسارع كبير، من مجلس للرقابة والتشريع إلى مجلس للتنفيع والخدمات والتسهيلات: النائب يريد أن يوظّف جمهور ناخبيه، أو يعبّد طريقاً فرعياً يصل إليهم، أو يتوسّط لهم في الدوائر الحكوميّة، وهذه كلّها تقدّمها الحكومة للنائب فيصبح الأخير مرتهناً لها. لقد كان قانون الانتخابات (الصوت الواحد) الذي كرّس العشائرية والمناطقيّة والإقليميّة والجهوية وحوّل العائلة والعشيرة إلى وحدة سياسية، هو الأداة الأساسية لتصفية الدور التشريعي والرقابي للبرلمان الأردني. وإن أضفنا إلى ذلك انعدام وجود المعارضة البنيوية الجذرية، يصبح دور البرلمان، سابقاً ولاحقاً، هو دور المتواطئ ضد المصلحة العامة (مصلحة الكل الاجتماعي) من أجل إعلاء المصلحة الخاصة التي يُحَمّلُها قانون الصوت الواحد للناجحين بواسطته من ممثلي العائلات والعشائر والمناطق. والحال هكذا، لن يكون البرلمان إلا ملحقاً باهتاً للسلطة التنفيذية.

الأحزاب تُقاطع بعد خراب مالطا!

صحيح أن اثنين من الأحزاب الأردنية المعارضة قد قررا مقاطعة الانتخابات النيابية المقبلة (الإخوان المسلمون وحزبهم: جبهة العمل الإسلامي، وحزب الوحدة الشعبية)، لكن هذا القرار السليم جاء متأخراً عشرين سنة، أُدخِلت البلاد خلالها (من بوابة الأحزاب) إلى دوامة الخداع والتضليل السياسي والديموقراطي. كان الأجدر بـ«المعارضة» أن تقاطع وتتخذ موقفاً واضحاً وجذرياً منذ هبّة نيسان 1989، أو منذ إقرار قانون الصوت الواحد 1993، أو أحداث الخبز 1996 على أبعد تقدير، لكن الخيار كان الاستمرار في اللعبة العبثية وإيصال الشارع إلى الإحباط التام من التغيير الذي هو فيه الآن. أما موقف أحزاب المعارضة التاريخية الأخرى (الشيوعي والبعثيون و«حشد») فيبدو هزلياً لأن إصرارها على المشاركة في الانتخابات وهي غير قادرة على إنجاح أي مرشح أو حتى نصف مرشّح، يأتي من باب تسجيل نقاط حسن السيرة والسلوك لدى السلطة السياسية ــــ لعلّ وعسى! ــــ متناسين أن السلطة لا تحتاج من هذه الأحزاب سوى شكلها الخارجي المفيد كديكور ديموقراطي من جهة، وكمساحات متحكم بها لاحتواء الناشطين السياسيين الشبان من جهة ثانية، وكأداة محتملة لمواجهة أي ظواهر قد تكبر لتمثّل تهديداً من جهة ثالثة (الإخوان المسلمون مثلاً يمثّلون مساحة امتصاص للسلفية الجهادية، اليسار القُطري قد يمثّل مستقبلاً مساحة لامتصاص الإخوان المسلمين... الخ).
إن المقاطعة الشعبية للانتخابات النيابية المقبلة، التي أصبحت على ما يبدو هي الخيار السائد لدى جمهور كبير من الناس لم يسجّل أصلاً في سجلات الناخبين، وآخرين لن يتوجّهوا إلى صناديق الاقتراع، تأتي انعكاساً لحالة اليأس من الوصول إلى أية صيغة من صيغ الإصلاح السياسي التي جهدت السلطة السياسية في ترويج الدعاية لها عبر السنوات التي تلت رفع الأحكام العرفية، كما أنها تعبّر عن يأس مماثل تجاه أطراف المعارضة التي لم تستطع القيام بأي دور بل، وعلى العكس، كانت عقبةً في وجه خوض النضالات الحقيقة والمباشرة.

المستفيد: الحرس القديم ويسار «الأردن أوّلاً»


كان الأجدر بـ«المعارضة» أن تقاطع وتتخذ موقفاً واضحاً وجذرياً منذ هبّة نيسان 1989

المستفيد الوحيد من لعبة الانتخابات المقبلة ولعبة مقاطعتها سيكون القوى الانعزالية التي تلعب على الهويّات الإقليمية ومن الطرفين، وخصوصاً مُدّعي اليسار منهم (التيار الوطني التقدمي والمبادرة الوطنية الأردنية وحركة اليسار الاجتماعي) الذين يحاولون اختراع الحامل الاجتماعي للتغيير من خلال البنى التقليدية البدائية وباستعمال الهويّات المابعد كولونياليّة، أو يحاولون الركوب على الموجات الاحتجاجية العارمة في البلاد في أوساط العمّال والمعلّمين وإدخالها ضمن معادلاتهم المرتبطة بأجنحة داخل السلطة السياسية وأجهزتها، وهم بذلك يدفعون الكتلة الاجتماعية في الأردن إلى معركة إلغاء داخلي بدلاً من معركة الإلغاء الحقيقية مع الصهاينة ومشروعهم في المنطقة العربية.
هذه القوى التي بدأت تصعد على أنقاض أحزاب المعارضة التقليدية مستفيدة من جو اليأس والتأفف الشعبيين من الأحزاب، ستكون أخطر سياسياً واجتماعياً بحكم أولوية تناقضها الداخلي على الخارجي، فهي تطرح أولوية مواجهة ما تسميه «مشروع التوطين» و«الوطن البديل» على الصعيد الداخلي بدلاً من أولوية مواجهة المشروع الصهيوني الذي ستنتهي بانتهائه كل مشاريع التوطين والأوطان البديلة، إضافة لكونها مرتبطة بأجنحة داخل السلطة السياسية بدليل حرية حركتها وعملها في كل أنحاء البلاد بدون مضايقات تُذكر، رغم أنها غير مرخّصة قانونياً وينطبق عليها تعريف التنظيمات غير المشروعة.
هذه الأجنحة (ما يسمّى الحرس القديم) تضرّرت من دخول لاعبين جدد من رجال الأعمال النيوليبراليين الشبان على خط السلطة، وخاضت صراعاً مريراً لاستعادة مواقعها، وانتصرت في عدة مفاصل أهمها إقالة باسم عوض الله (الذي كان ينظر إليه على أنه القائد الميداني للقادمين الجدد) ومن ثم حل البرلمان السابق الذي سُوّق على أنه مرتبط بعوض الله ومشروعه. ويحرص الحرس القديم على تدعيم مقاطعة الانتخابات وتوسيع قاعدة الاستياء الشعبي الناتج منها لاستعادة المزيد من المواقع في السلطة ومن خلال التلاعب بالأطر السياسية والشعبية المتحالف معها.

المطلوب: مقاطعة مزدوجة ومشهد معارض جديد

صحيحٌ تماماً أن المقاطعة هي الخيار الأصح، لكنّ المطلوب هو المقاطعة الشاملة لكفّتَي ميزان السلطة السياسية: مقاطعة الانتخابات وجناحي السلطة (الحرس القديم والليبراليين الجدد) ومؤسسات السلطة «الديموقراطية» المفرغة من محتواها الحقيقي (مثل البرلمان)، ومقاطعة بُنى المعارضة (التقليدية من أحزاب ونقابات، والجديدة من القوى والتنظيمات الانعزالية) التي صارت عبثيّة وملحقة بالسلطة السياسية وتعزّز الانقسامات الاجتماعية؛ ومن ثم محاولة بناء مشهد معارض جديد يعيد طرح أدوات التحرر ما فوق القطري بدلاً من الإصلاح الداخلي المستحيل، ويعيد طرح الهوية الطبقيّة (المُستغَلّ في مواجهة المُستغِلّ) بدلاً من الهويات المزوّرة (المنطقة والعائلة والعشيرة والأردني والفلسطيني)، ويحدّد الصراع على أنه صراع في مواجهة المشروع الأميركي ــــ الصهيوني وامتدادته الإفقارية الداخلية وما يرافقه من فساد وتبعية بدلاً من الصراع الداخلي على الفتات.
* كاتب أردني