بدر الابراهيم*كانت العروبة عقيدة سياسية وفكرية في الكويت، وكان المثقفون الكويتيون يكتبون في صحف ومجلات رصينة عن القضايا القومية بوصفها قضاياهم، وكان الإيمان بالعروبة يتجاوز التأييد والدعم إلى اعتبارها حامياً للكويت من الأطماع الخارجية، وخصوصاً بعد الموقف الشهير للرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر من تهديدات عراق عبد الكريم قاسم للكويت.
دعم حركات التحرر من الاستعمار في العالم العربي كان قضية كويتية. والقضية الفلسطينية كانت القضية المركزية بالنسبة للكويتيين كما لغيرهم في العالم العربي. وكانت الكويت حاضناً وداعماً رئيسياً لمنظمة التحرير الفلسطينية في نضالها ضد الصهيونية، وكان الكويتيون في كل هذا يتقدمون أهل الخليج في التماهي مع قضايا أمتهم.
لكن الغزو غيّر كل هذا. فما حدث كان فاجعاً لعروبة الكويتيين، لأن من قام بالغزو أشقاء عرب، بل هم حلفاء قدّمت لهم الكويت كل الدعم المادي والإعلامي في «قادسيتهم» من أجل الدفاع عن (البوابة الشرقية) للعالم العربي من «أطماع الفرس»، ولأن من أيّد الغزو أشقاء عرب أيضاً، وأولهم كان الزعيم الراحل ياسر عرفات الذي لم تبخل عليه الكويت بالدعم والحماية أيضاً في أحلك الظروف.
انتهى الغزو سريعاً بتحرير القوات الأميركية الكويت في مشهد مثّل نكبة الأمة في أعلى درجاتها تراجيدية. وبدأ الكويتيون يعيشون إفرازات «أم المعارك»، فنشأ كفرٌ فاجرٌ بالعرب والعروبة وصل حدّ التبرؤ من الانتماء إلى الهوية العربية واختراع هوية محلية بديلة على طريقة اليمين الانعزالي اللبناني في سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم.
حصل التحول إلى الانعزال، وصَبَّ الغضب على كل ما له علاقة بـ«عرب الضد» شعوباً وحكومات، وحدث انتقامٌ واسعٌ من جماعات سكنت الكويت واندمجت فيها عقاباً على كونهم من جنسيات أو أصول تعود إلى عرب «أم المعارك»، وسادت لغة التقوقع على الذات على ما سواها.
أُفرغ التيار العروبي من مناصريه. فالغالبية الساحقة تحوّلوا للتطبيل لبطولات بوش ومديح الإمبريالية والدفاع عنها بوجه أعدائها، وصار الكاوبوي قديساً ومخلصاً، وتولد شعور عدائي قوي تجاه كل الماضي العروبي الذي اتضح أنه كان خطيئةً أدّت إلى الغزو.
في السنوات العشرين التي تلت الغزو، بدا تأثير الغزو وإفرازاته الانعزالية واضحاً في الحراك الثقافي الكويتي كما في الصحافة والإعلام، حيث تراجع مستوى هذا الحراك وباتت الصحافة مرتعاً للغة السوقية والطائفية، وسادت في السنوات الأولى بالذات اللغة الانعزالية المنطوية على عنصرية بغيضة تجاه شعوب بعينها في ما يمكن تسميته تأميم ذنوب الغزو.
لكن قوة التيار الإسلامي الكويتي وتوسع شعبيته في أوساط الكويتيين ساهما في إضعاف التيار الليبرالي الانعزالي الذي امتلك الإعلام واحتل منابره. وأعاد الإسلاميون الاعتبار للقضايا العربية، ولو من بوابة النظرة الإسلامية إليها. كما أن الانتفاضة الثانية وما تلاها من أحداث في فلسطين والمنطقة وصولاً إلى حصار غزة ثم الحرب المجنونة عليها، أسهمت في صحوة عروبية في مواجهة ثقافة الانعزال.
رغم ذلك ما زال التيار الانعزالي ناشطاً وقوياً في الإعلام، وهو يستند في تقوية منطقه إلى ثنائية الغزو ــــ التحرير التي تصنف العرب في خانة الأشرار والأميركيين في خانة الأخيار. وهو ما يجعل هذا الانعزال، كأي انعزال في المنطقة، ينتقل بسرعة من خانة «الحياد» إلى الموقف المعادي للعرب وقضاياهم المحقة.
بالتالي لا يُستغرب وجود أصوات وأقلام تعتبر العداء للفلسطيني

أعاد الإسلاميون الاعتبار للقضايا العربية، ولو من بوابة النظرة الإسلامية إليها

ديناً وعقيدة، وتشجع إسرائيل على ضرب غزة، وتهاجم بشراسة وبلغة بذيئة كل حركات المقاومة ورموزها وكل من تسوّل له نفسه مواجهة المشروع الأميركي ــــ الصهيوني في المنطقة، وتطبّل للاحتلال الأميركي للعراق وتتمنى تعميمه على دول أخرى في المنطقة للدخول في العصر الأميركي. ولا غرابة في تطابق بعض المقالات الانعزالية الكويتية مع تلك المنشورة في الصحافة الإسرائيلية.
وما جعل هؤلاء يزيدون شراسة هجومهم وبذاءته، هو تزايد العائدين إلى أحضان العروبة في الكويت وقيام التظاهرات الحاشدة من جديد لدعم وتأييد الحق الفلسطيني وحركات المقاومة والتنديد بالوحشية الصهيونية، وعودة الأعمال الأدبية والفنية الكويتية لتبني القضايا القومية وعلى رأسها قضية فلسطين تفاعلاً مع نبض الشارع.
لا يمكن تجاهل بقاء آثار الغزو على المستوى السياسي والثقافي حتى بعد عشرين عاماً من ذلك الحدث. لكن نشوء وتنامي وعي جديد يعيد حصر الموضوع في إطاره الطبيعي ويرفض سياسة التشفي والانتقام من العرب وأخذهم بجريرة النظام العراقي السابق، يجعل من الممكن القول إن حجم هذه الآثار المترسبة يتضاءل تدريجياً.
لم يعد ما هو عراقي أو فلسطيني أو غيرهما يمثل العدو بالنسبة لكثير ممن كان لهم كذلك خلال العشرين عاماً الماضية. لكن تيار الانعزال يواصل الترويج لعقيدته الاستعمارية رابطاً مصالحه بمصالح أميركا، كما كان بعض هذا التيار يربط مصالحه بمصالح صدام أيام وئام الثمانينيات.
عودة الكويت إلى حضن العروبة باتت واقعاً رغم أصوات الانعزال، لكن التعافي من آثار الغزو على كل مناشط الحياة ما زال بحاجة إلى مشروع حقيقي يطلق عجلة التنمية في الكويت ويعيد للنشاط الثقافي والفني وهجه المفقود في ظل مناخ ديموقراطي صحي وخال من المناكفات العبثية.
* كاتب سعودي