اندلع الصراع بين جناحيْ عائلة الرحباني، أو بين جناحيْن من الأجنحة. والأمر لم يعد خافياً أو خفيّاً. وحسناً فعلت ريما الرحباني في تظهيره للعامّة ما دامت المسألة تعني الرأي العام مباشرة، وهناك من يتصنّع البراءة والمحبّة والودّ. وهناك من يريدنا أن نظنّ أنه مشغول بالإبداع. وفي هذا الصراع، أمر واحدٌ حسن على الأقل: زوال أسطورة «الأخوين رحباني» ـــ وهما غير «الأخوين فليفل»
أسعد أبو خليل *
تحتاج الأمم والكيانات في طور تأسيسها إلى أساطير مؤسِّسة. بعضها يعتمد على التاريخ، وبعضها الآخر يعتمد على التاريخ المُختلق وعلى الخيال العلمي وعلى التلفيق، من دون الاستعانة بالعلم كما فعلت ميّ المرّ وسعيد عقل وفؤاد أفرام البستاني. تستطيع أن تعود إلى الجذور. لا تستهين (أو تستهيني) بالاستشراق اليسوعي في جامعة القدّيس يوسف حيث أسّس الأب الموسوعي لويس شيخو (الصارخ في طائفيّته، يكفي أن تقرأ ما نشرت مجلّته «المشرق» عن جبران وعن أمين الريحاني، ويكفي أن تقرأ كتبَه عن شعراء النصرانيّة حيث جهد لـ«تجنيس» عدد من الشعراء المسلمين والوثنيّين واليهود من أجل تحقيق فوز في الانتخابات البلديّة ربما، في بتغرين أو غيرها) مدرسة نافذة في الاستشراق الشرقي. كتاب «مباحث علميّة واجتماعيّة» صدر في عهد المتصرّفيّة تحت إشرافه ووضع لبنات هويّة مسخ الوطن وقرّر ما هو مهم وهامشي من آثار لبنان، على خطى الأب هنري لمنس في كتابه. وقد شارك بعض مؤسّسي أسطورة القوميّة اللبنانيّة المُعاصرة ـــــ وهي مُعاصرة وغير ضاربة في الزمن على غير ما يشتهي واضعو دستور الطائف الذين نهلوا ما نهلوا من العقيدة الكتائبيّة الشوفينيّة ـــــ من أمثال فؤاد أفرام البستاني وسعيد عقل بنشاط في مقالات مجلّة «المشرق».
وسعيد عقل نموذج حيّ لإسهام غير علمي في اختلاق أسطورة خياليّة (وشاعريّة) مُضحكة عن لبنان. كان الأمر يمكن أن يكون مُضحكاً وموضوع سمر في الليالي حيث تُجمع «الكؤوس والأوتار» على حدّ تعبير الأخطل الصغير، لو لم يتسرّب فكر سعيد عقل وخزعبلاته وتخيّلاته الغريبة إلى المناهج الدراسيّة المُقرّرة بمساعدة فؤاد أفرام البستاني الذي وضع لبنات أوّل مناهج دراسيّة في لبنان، كما أنه كان أوّل رئيس للجامعة اللبنانيّة من دون أن يكون حائزاً شهادة دكتوراه (فيما عاد عمر فرّوخ بشهادة دكتوراه من ألمانيا ووجد أن جدراناً طائفيّة تعوق دخوله إلى السلك التعليمي الجامعي اللبناني ـــــ الخاص والعام ـــــ فتحوّل إلى أستاذ في ثانويّات المقاصد). وينسى البعض أن حزب الكتائب اللبنانيّة كان دائماً يسعى لاحتكار وزارة التربية الوطنيّة للتأثير على عقول الناشئة ـــــ حب الأرزة من الإيمان الفاشي اللبناني، (وقد حاول سامي الجميّل أن يحظى حزب الكتائب بوزارة التربية في الحكومة الأخيرة، لكن سعيه خاب واكتشف أن حزب الكتائب تحوّل إلى كومبارس لحزب الأغلبيّة السنّي).
سعيد عقل تحوّل بفعل دعايته لنفسه وأفكاره وبفعل احتضان الإعلام الرسمي وجريدة «النهار» له إلى ظاهرة تخترع ما تشاء عن تاريخ لبنان، وتلقّنه للناشئة. بفعل ترّهات سعيد عقل، تحوّل هذا البلد الهامشي الصغير ـــــ في الخيال السياسي والتربوي اللبناني ـــــ إلى إمبراطوريّة عالميّة (وعقل، هذا، لا يعترف إلا بإمبراطوريّات ثلاث في التاريخ العالمي، لا أكثر، فعلم التاريخ والتاريخ نفسه لا ينسجم مع أطروحات سعيد عقل، هذا الشاعر البديع الذي في «قصائد من دفترها» كتب من أجمل ما كُتب من شعر الغزل. آه، ويا ليته تغزّل بدل أن يُقحم نفسه في التاريخ والتأريخ، حتى لا ننسى مدائحه في التلفزيون الإسرائيلي غداة الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982). عقل هذا ينتمي في أي بلد آخر إلى فريق اليمين العنصري المتطرّف والمنبوذ من سواد المجتمع، لكن تلفزيون لبنان الرسمي يصرّ على إعادة شبه يوميّة لمقابلة هذيان بين سعيد عقل ومريده هنري زغيب. والزواج بين الأخوين رحباني وسعيد عقل ساهم في تشكيل الأساطير المُؤسّسة للبنان، وسعيد عقل كان مستشاراً دائماً للأخوين رحباني وقد أثّر على صورة لبنان غير الواقعيّة التي يحفل بها إنتاج الرحباني المتنوّع. هناك، أولاً، أسطورة «الأخوين رحباني» في حدّ ذاتها، أو قل إنها أسطورة العبقريّة المزدوجة.
حرص «الأخوان رحباني» على توقيع كل أعمالهما (مع اسثناءات قليلة في البداية ـــــ كتب عنها أخيراً محمود الزيباوي في ملحق «النهار» المُتخصّص برصد حقوق الإنسان في بلد واحد فقط ـــــ حين وقّع عاصي اسمه وحيداً) باسم «الأخوين رحباني». وقد صدّق الناس هذا الأمر باستثناء الخلّص ممن شهدوا ولادة الأعمال الرحبانيّة على يد عاصي نفسه، حين كان يُغلق الباب على نفسه بضعة أيام ويطلع بمسرحيّة جاهزة. روى منصور الرحباني ذلك مرّة على الهواء، لكنه عاجل إلى القول إنها كانت تحتاج لبعض التنقيح. أي إنه اعترف بدوره التنقيحي. وهذه الرواية عن تأليف عاصي تقضي في الواقع على أسطورة «الأخوين». لكن مرض عاصي نفسه هو الذي فضح أسطورة الأخوين. فجأة، بعدما مرض عاصي، اختفت الموهبة الرحبانيّة، وتحوّلت المسرحيّة الرحبانيّة إلى كوكتيل عشوائي من الأغاني والاسكتشات والكليشيهات المُكرّرة (عن الضيعة والمختار والمحتال والوطن والضمير ونبع الميّ والعرزال وقلعة بعلبك، فيما كان وديع الصافي يهدّد محبوبته برمي نفسه من العالي كي تتلقّفه «لرميلك حالي من العالي وقلّك هدّيني»). ومرّت الأعوام وعبقريّة الأخوين تبخّرت.
مرض عاصي فضح أسطورة الأخوين والخلّص يعرفون كيف كانت تولد «أعمالهما»
حسناً فعل زياد الرحباني في كتاب محاورات مع عبيدو باشا، إذ روى القصّة من أوّلها. قال إن كل أغاني «الميلودي» التي يحفظها الناس لفيروز هي من تأليف عاصي، وأضاف أن التوجّهات السياسيّة لعاصي كانت بعيدة عن حزب الكتائب وأنه كان يوبّخ سائقه الكتائبي على سياساته. ولكن سنعود إلى موضوع السياسة في ما بعد. المهم أن منصور لم يستطع أن ينجز أغنية «ميلودي» واحدة في مصاف الأغاني الشهيرة لفيروز. هناك من يذكر أغنية لا أذكرها من «الربيع السابع» وهناك تلك الأغنية التي صدحت في شوارع بيروت الغربيّة طيلة سنوات الحرب: «بحبك يا لبنان». إن صدور الأغنية في سني الحرب كان معجزة منطقيّة في حدّ ذاتها، وإن كنا لا ندري دلالاتها. والأغنية «بحبك يا لبنان» كانت ستشيع حتى لو لحّنها وغنّاها نقولا فتّوش. ثانياً، كلمات الأغنية تعصى على تصنيف الشعريّة أو الشاعريّة (لا الشعيريّة): «بحبك يا لبنان، يا وطني بحبك، بشمالك بجنوبك بسهلك بحبك، الخ.» شاعت الأغنية لأسباب سياسيّة. والأغنية ساهمت في تقويض دعائم زعم الإبداع «الأخوي». هل كان عاصي ليضع توقيعه على «بحبك يا لبنان»؟
توقيع «الأخوين رحباني» يلزم الورثة لأن عاصي ومنصور أصرّا عليه، لأسباب تعود لهما وحدهما، في حياتهما. لكن أن يصل الأمر بأولاد منصور إلى محاولة التأثير على إنتاج فيروز وحفلاتها ففي هذا تحدٍّ للرأي العام الذي يتعامل مع فيروز كأيقونة وطنيّة وقوميّة. لا يمكن أن ينتصر من يشنّ حرباً على فيروز. لا يمكن أن ينتصر من يحاول أن يقيّد فيروز.
لكن إنتاج الأخوين رحباني يحتاج لتقويم آخر. إن الظاهرة الخطيرة للوطنيّة اللبنانيّة التي أدّت إلى ويلات وحروب ومجازر ضد المخيّمات الفلسطينيّة في لبنان، وتدخّلات خارجيّة من شتّى الأصقاع، لا يمكن أن تعزى إلى الرحابنة، لكن الرحابنة ساهموا، شاؤوا أو أبوا، في تشكيل الأساطير المُؤسّسة للكيان المسخ. أذكر وأنا ابن الثالثة عشرة في عام 1973 عندما كانت الصواريخ تنهمر من طائرتيْ الهوكر هنتر الشهيرتيْن على مخيّم برج البراجنة، كانت إذاعة لبنان الرسميّة تصدح بأغنية «وطني» لفيروز، كما كانت الإذاعة تستطيب بث أغنية «هللي عالرّيحهل قصد الأخوان رحباني تعظيم الوطن اللبناني؟ لا شك في أن أعمالهما، وخصوصاً فخر الدين، ساهمت في تعظيم أسطورة الوطن اللبناني، وابتعدت عن المساهمة في نقد الوطن أو حتى السياسة وإن عَرَضاً. كانت مسرحيّات الرحابنة في قاعة البيكاديللي شتاءً تتضمّن بعض القفشات عن «صائب بك» ـــــ ومن النوع الذي كان هو يقهقه له. الوطن اللبناني قبل الحرب كان جميلاً في مسرحيّات الرحابنة ولا وجود للتناقض الاجتماعي والاقتصادي فيه أبداً. أما الطائفيّة، فكانت غائبة مثلما هي غائبة في أغنية صباح: «مرحبتيْن، مرحبتيْن، وينن هالدبيكة وين، وين معروف، وين محمود، وين إلياس، وين حسين». لا ندري إذا كانت صباح قد سهت عن إدراج الأقليّات في تعداد الطوائف المتآلفة في الدبكة وفي الوطن. وغياب الطوائف، لا الطائفيّة فحسب، من المسرح الرحباني يفرض وجوده كإنتاج ثقافي لا علاقة له بالواقع المعيش. فالضيعة الرحبانيّة تشكو توتّراً في علاقات الحبّ أو جوْر حاكم لا جغرافيا وله ولا تاريخ، لكنها لا تشكو أبداً صراعاً طبقياً أو قتلاً طائفياً بالفؤوس. الضيعة الرحبانيّة خياليّة لكنها ليست جماليّة، والحبكة فيها باهتة لا خطوط ملوّنة فيها، والفروق الأخلاقيّة قاطعة: خير وشرّ. كان نيتشه سيطيح المسرح الرحباني من أساسه لو أتيح له المُشاهدة.
المسرح الرحباني كان ينتقد الحاكم الظالم، مثل فاتك، لكن النقد كان عامّاً وضبابيّاً ويمكن أن يصلح في كل مكان وزمان. وفي أغنية «خدني ازرعني بأرض لبنان» هناك مشهد ركوع وصلاة «تحت أحلى سما»، أي إن وطن الأرز استحقّ القداسة والتقديس في المسرح الرحباني. لم يعد المسرح والغناء الرحباني النظر في أي من الفكر المُؤسِّس للفينيقيّة اللبنانيّة (وإن كان، للإنصاف، قد ابتعد عن الفينيقيّة كفكرة في ذاتها). صحيح أن «الحريّة» و«زهرة الحريّة» ـــــ لا أدري ما هي زهرة أو شتلة أو غصن الحريّة ـــــ ترد في أغاني الرحباني لكنها مُفرَّغة من أي معنى سياسي واجتماعي، ولنتذكّر أن الحريّة ترد في كتابات وخطب متسلّطين وطغاة وقتلة مثل بشير الجميّل وصدّام حسين وكيم إيل سونغ.
ومن اللافت أن كل الثورات والقلاقل والحروب التي تزامنت مع المسيرة الرحبانيّة في العالم العربي غابت بالكامل عن أعمال «الأخوين». هناك من يذكّر بإصدار «القدس في البال». لكنها كانت إصداراً منفصلاً لم يندرج في مسرحيّات الأخوين. وأغاني الأخوين في الإصدار كانت باكية شاكية قاتمة، باستثناء «الغضب الساطع آت» وإن كان موعد إتيان الغضب غير محدّد البتة. وهذا مثل أغنية «سنرجع يوماً» الخائبة البائسة اليائسة. أي إن الرجوع قد يحدث يوماً ما، في المستقبل القريب أو البعيد، كما أن خبر الرجوع كان بناءً على «خبريّة» للعندليب. كان أفضل لو قال الأخوان «سنرجع حتماً»، وبلا عزو الخبر للعندليب، وهو غير العندليب الأسمر على الأرجح. والإسهام الفلسطيني في العمل الرحباني (ولم يكن ينحصر في عمل المخرج، صبري الشريف) لم يترك بصمات عميقة في أعمال الأخوين. أغنية «شادي» قد تتحدّث عن فلسطين، لكن فلسطين في الأغنية كانت مثل الذي «ذهب ولم يعد». أي إن فاعل الخطف مجهول حتى إشعار آخر.
ترك «الأخوان رحباني» كمية كبيرة من الإنتاج، بعضه أو الكثير منه دُوِّر وتكرّر أكثر من مرّة. هناك من يلاحظ اقتباساً موسيقيّاً (خصوصاً في الأعمال المُبكّرة لأن الأخوين كانا يحدّدان المصادر الأجنبيّة في بعض الأغاني، مثل أغنية «كانوا الخيّالة» أو «أنا ويّاك») في أكثر من قطعة رحبانيّة، وهناك من يعترض على المزج بين الشرقي والغربي، مع أن المزج كان لطيفاً على الأذن العربيّة. وهناك من يمكن أن يضيف كلاماً عن ضعف الهيكليّة المسرحيّة حيث يضيع الممثلون والممثلات وحيث يكون الحوار لملء فقرات بين الأغاني. لكن الأثر الرحباني ليس صغيراً في الثقافة الشعبيّة في لبنان، وفي المشرق العربي. وشعبيّة إنتاج عاصي الرحباني مشتركة بين الطبقات الاجتماعيّة مع أن مسرحيّات بعلبك كانت، ولا تزال، موجّهة للنخبة البورجوازيّة السمجية التي تظن أنها تشتري رقيّاً وحضارة بأموالها الوافرة ـــــ مثلما جلب رفيق الحريري بافاروتي على جناح طائرته الخاصّة لإسباغ رقيّ اجتماعي على ثروته الجديدة.
ليس هناك جيل رحباني ثانٍ أمّا زياد فهو مضاد للتوجّهات الرحبانيّة
لكن الخلاف الرحباني موضوع آخر. ينسى أولاد منصور الرحباني أن تكثيف اللجوء إلى القضاء يضعهم في موضع مواجهة مع حريّة التعبير ومع حريّة الإعلام ـــــ والإعلام هذا كان مسؤولاً عن الترويج لظاهرة «الأخوين رحباني». كما أن مواجهة أو مقارعة فيروز مجازفة محفوفة بأخطار لا يتجاهلها إلا عنزة في جبل لبنان... هذا عدا نظرية توارث الموهبة التي يساهم الإعلام في الترويج لها. وهنا ندخل في مسألة الجيل الثاني من الرحابنة، كما يريد أولاد منصور أن يسموه. الحقيقة أنه ليس هناك جيل رحباني ثان ولا من يحزنون. ومسألة توارث الموهبة الجيني يرد في جريدة «النهار» لا في كتب الطب. زياد هو الوحيد الذي برز في الجيل الثاني. زياد اختطّ لنفسه خطّاً خاصّاً به منذ ثاني مسرحيّة له. كانت مسرحيّته الأولى، «سهريّة»، نسقاً مُقلّداً للرحابنة لكنها كانت أكثر إضحاكاً بكثير من اسكتشات فيلمون وهبة المُملّة والمُكرّرة. وأهميّة زياد لم تكمن فقط في قدرته على اجتراح خطّ خاص به، ولا في قدرته على تجاوز الإرث ـــــ العبء الرحباني برمّته، بل في قدرته على تشكيل إنتاج فنّي هو في حقيقته مضاد للمنطلقات والتوجّهات الرحبانيّة. أي إن زياد هو «لا رحباني»، أو في تضاد رحباني، بامتياز، واستطاع أن يفعل ما فعل محمود درويش: أن يقود جمهوره نحو فضاءات لم يكن الجمهور يستسيغها إطلاقاً.
أما أولاد منصور وابن إلياس الرحباني فتلك قصّة أخرى. احتاج أولاد منصور لتوزيع أدوار في ما بينهم: فكان أسامة (الذي يكثر من تعداد أسماء موسيقيّين عالميّين في كل مقابلة لأسباب لا تخفى على أحد)، والأخوان الآخران، غدي ومروان، يتشاركون موهبة التأليف والإخراج، هكذا. أي إن للجيل الثاني من الرحابنة، أو للجيل الثاني من منصور، قدرات ومواهب لم يكن الرحابنة الأوائل يتمتّعون بها. لكن الحكم قائم على أعمال الثلاثة. فمنصور طلع بمسرحيّات مختلفة لم يعلق بذهن الناس واحدة منها، ولم يعلق بذهنهم أغنية واحدة منها، وإن كان هناك من سيقول إن هناك أغنية ـــــ لم أعد أذكر اسمها ـــــ جميلة في «الربيع السابع». ودرج الرحابنة الجدد ـــــ على وزن المحافظين الجدد (وأوّل من أطلق التسمية هو الرفيق بيار أبي صعب) ـــــ على إقحام عدد هائل من الممثلين والممثلات والراقصين والراقصات فوق خشبة المسرح لظنّهم أن ذلك يعوّض عن غياب الإبداع والموهبة. كما أن مسرحيّات منصور وأولاده تستعين دوماً بأوركسترا عملاقة من أرمينيا أو أي مكان آخر لبهر الجمهور. وذلك يسوّغ تمويلاً أكبر طبعاً. أما الياس وابنه غسّان، فذلك موضوع آخر: الياس لحّن قبل الحرب إعلان «مولينكس» وقال فيه: «صارت حرّة ست البيت بفضل مولينكس»، وهو يصرّ على أن كتاباً شعريّاً له تنبّأ بتفجيرات أيلول. وابنه غسّان صاحب مصنع تسليع المرأة المعروف بـ«فور كاتس».
وتبقى فيروز صامتة وكبيرة، وفي منأى من كل معمعة حتى لو طالتها شخصيّاً. تعلم أن لها من المحبّين والمحبّات من العامّة والنقاد مَن سينبري للدفاع عنها. كما أن ريما الرحباني تتكفّل صدّ البيانات القانونيّة الصادرة عن محامي أولاد منصور الذين هم في المقابل يلزمون الصمت المؤدّب، يا محسنين ومحسنات. وإذا كان منصور ينجد أولاده بمسرحيّات تذكّر بمسرحيّات غير منتهية وغير مكتملة تُعرض على خشبات مسارح المدارس الابتدائيّة ـــــ من طلع بفكرة جرّ جبران خليل جبران على كرسي في المسرح؟ هل ظن أولاد منصور أنهم بذلك يقاربون المسرح ما بعد الحداثي؟ أم أن جرّ الكرسي عمل فني طليعي؟ لكن منصور يستحق تقديراً من نوع آخر لقدرته على تسطيح كل فكر سقراط واختزاله بالكليشيهات المعهودة، عن الضيعة والجرّة والعين والصبيّة، وكلام لا مضمون له عن الحريّة. حتى سعد الحريري يستطيع أن يقرأ كلاماً كُتب له عن الحريّة، وقد فعل ذلك في أكثر من مناسبة.
الظاهرة الرحبانيّة، بصرف النظر عن قيمتها الفنيّة والسياسيّة ـــــ لا تقييم للفن من دون الاستعانة بنظريّة ثيودور أدورنو عن «صناعة الثقافة» ـــــ لا تمتّ إلى الماضي بصلة، وهو جزء من تشكيل أسطورة مُؤسِّسة لمسخ الوطن لبنان. لكن ذلك الوطن مات مرّتيْن: المرّة الأولى في المسرح الرحباني الذي نسج وطناً من صنع الخيال ومات بمجرّد ما طلع الممثّلون والممثلات إلى الخشبة، والمرّة الثانية عندما اندلعت الحرب الأهليّة. وحده زياد يبقى في حاله يشكّل حالة فنيّة بديعة ومستقلّة عن التراث الرحباني (يقول زياد في مقابلات إن عاصي اعترض على أغنية «إسمع يا رضا» لأنها مصريّة النغم). أما أولاد منصور... (يمنعني قرار قاضي الأمور المستعجلة من إكمال هذه الجملة).
ملاحظة: خضعت هذه المقالة لرقابة قانونيّة استثنائيّة تماشياً مع قرار قاضي الأمور المستعجلة في بيروت رداً على طلب صادر عن غدي ومروان وأسامة الرحباني لمنع «الأخبار» (ومطبوعتيْن أخرييْن) من نشر معلومات وتعليقات تزعجهم.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)