وائل عبد الفتاحالموظفون الكبار فاسدون. هذا ما تقوله حكايات «مرسيدس» و«فروشتال» عن رشى في مصر، ووسطاء يحملون «المعلوم» إلى الباب العالي. الحكايات أكبر من تقارير دولية عن «ظاهرة خطيرة» اسمها فساد الموظفين من الصغار إلى الوزراء والنواب.
الحكايات أقوى، وتوابلها تنشر لذة في ليالي الصيف الحارة، وتصنع أساطير فساد تفوق خيالات ألف ليلة وليلة، والمماليك. حتى بدا أن الفساد أو البراعة فيه هو بطاقة الدخول إلى نادي النخبة، أو الالتصاق بمحمياتها السياسية.
في مقابل لذة التوابل، هناك شرائح واسعة في مصر والعالم العربي تحب هتلر ولا تزال تبحث عن «هتلر منتظر» يلقي إسرائيل في البحر أو المحرقة.
هتلر هو المكمل الدرامي لمماليك الفساد، حيث لا يمكن نظاماً يجمع الفاسدين أن ينتصر، ولا بد هنا من الاستعانة ببطل من الخارج.
البحث عن هتلر وانتظاره، أضاعا كل الطاقات الممكنة لبناء دول قوية لا تستهين بها إسرائيل أو أي دولة في العالم. تأجل كل شيء في مصر والعالم العربي من أجل الحرب مع إسرائيل، وتضخمت إسرائيل إلى حد أصبحت معه وحشاً مرعباً، تنفلت قوته، ويمارس بلطجته يومياً، ولا أحد في مواجهته سوى تظاهرات تنتظر هتلر، وتنادي بإعادة موقعة خيبر، وتتوعد اليهود بالموت.
لم يشعر أحد بالملل من هذه المسرحية الممتدة طوال أكثر من ٦٠ سنة. لم يتوقف أحد ليعيد النظر في مقولات هذه «الحرب الكبرى» وأبطالها المنتظرين، ولا في علاج الضعف في علاج الفساد.
الأسهل انتظار مخلّص على بناء دولة، ومحاربة خفافيش السلطة التي حولت الفساد إلى أمر واقع، ومصير لا يهرب منه أحد.
التوريط في الفساد الجماعي أسلوب ناجح يجعل من المواطن الصغير، المنتظر لهتلر، منتظراً أيضاً ليد الشرطي أو الموظف الممدودة ليمنحه «إكرامية» تمرر له مصلحة أو تجاوزاً لقانون يشعره بالدخول في نادي المتميزين.
شعوب تتورط في الفساد وتنتظر هتلر يقتل أعداءها، وتخطط النخبة فيها لاستمرار أبدي. ينسحب جمال مبارك ليعود إلى مشروعه كلما ظن البعض أنه مات أو شبع يأساً، لكنه يحيا مثل الثعبان في كابوس، كلما قطع رأسه عاد ليبني جسده من جديد.
جمال مبارك ابن تركيبة الحكم الخالدة، الجيل الثالث من ورثة جنرالات التحرير، وحربه الكبرى هي استمرار النظام أو مصالح النخبة المتحلقة حول النظام، وهي نخبة اختصرت الدولة كلها في كهنة إن اختفوا فسيهتز الاستقرار، لأنه لا أحد غيرهم يعرف الأسرار، ولا أحد يملك أن يقدم ما يقدمونه لقوى الدول القوية من استقرار ومهمات تدار بذكاء يختلف عن أداء العملاء أو الجواسيس، ولا يرقى بالطبع إلى أداء المتحالفين.
تعلن مصر افتتاحها قنصليتين في شمال العراق وجنوبه، ليس حباً في ليبرالية العراق الجديدة، بل خدمة لأميركا التي حتى عشاقها الليبراليون يخشون التطبيع الكامل مع نظام أُقيم تحت الاحتلال.
من الممكن دعم نظام ما بعد ديكتاتورية صدام حسين، لكن أن يكون دعماً لبناء دول، لا كسراً لقطيعة أو منح الاعتراف والشرعية. والفارق بين التوجهين كبير، ومؤثر، ويظهر في خطوات تالية، سيبدو فيها نظام مبارك عراباً أكثر منه دولة مؤثرة في صناعة تغيير المنطقة.
التغيير يريده نظام مبارك والسائرون خلفه، بعيداً عن المجتمع في قلاع الكهنة، يحسمون في ما بينهم اسم الوريث، وطريقة تعميده، وزاوية التغيير.
إلى هذا الحد يبدو هتلر وانتظاره مخدراً قوياً يسهل مرور سيناريو الكهنة، ويدغدغ مشاعر المراهقة عند شعوب تعيش تناقضاً بين حياتها اليومية، وقيمها العليا، بين الدخول في متاهة الفساد الجماعي، والإخلاص للمعارك الكبرى.
الهزيمة في هذه المعارك، تُشعر بالضعف الذي لا يفهم الناس أنه ضعف دول، وليس عدم إخلاص للقضية. العرب لم يعودوا ينتظرون هتلر من اختراعهم، يستوردونه، كما يستوردون الأسلحة وسلع الرفاهية ودعم الأنظمة القائمة لتظل على حالها، أو لكي لا تعطل تروس الماكينات الدوارة.