بعد نشر الزميلة «الحياة» مقالات عدّة حول الوهابيّة، قدّم الأمير سلمان بن عبد العزيز مداخلة في الصحيفة نفسها حملت عنوان «فليحذر الباحثون من فخ مصطلح الوهابيّة»، رفض فيها مصطلح «الوهابيّة» كونه قد شاع بغرض الإساءة والتشويه. وقد استدعت المداخلة حواراً لم يقفل بعد. هنا مساهمة في النقاش
أحمد عدنان *
لم يتفاجأ الوسط الثقافي والفكري في السعوديّة، على وجه الخصوص، بمداخلة الأمير سلمان بن عبد العزيز في صحيفة «الحياة» بتاريخ 28 نيسان/ أبريل 2010 التي عنوانها «فليحذر الباحثون من فخ مصطلح الوهابيّة». وكانت مداخلة الأمير قد جاءت تعقيباً على مقالين نشرتهما «الحياة» للباحثة السعوديّة د. بصيرة الداود، الأول بتاريخ 29 آذار/ مارس 2010 وعنوانه «الدعوة الوهابيّة»، أيّدت عبره تصريحاً سابقاً للأمير تحدى فيه أن يأتي أحد برأي للشيخ محمد بن عبد الوهاب يخالف الكتاب والسنة. والثاني بتاريخ 12 نيسان/ أبريل 2010، وعنوانه «أمانة التاريخ بين الشيخ الأباضي والشيخ السلفي»، بالإضافة إلى تعليق د. خليل الخليل في الصحيفة نفسها بتاريخ 15 نيسان/ أبريل 2010، وعنوانه «نظرية الشويعر ليس لها أساس»، طالب فيه بتجديد مضمون السلفية وممارساتها، التي أساسها دعوة ابن عبد الوهاب، ولم يرَ الخليل بأساً في استخدام مصطلح «الوهابيّة».
ونظراً لأهمية الموضوع، أي دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتسميتها، فقد عقدت العزم على التعليق فيه. إلا أنّ نشر مقالين اثنين عن ذلك: الأول للصحافي المصري إبراهيم عيسى في صحيفة «الدستور» المصرية بتاريخ 29 نيسان/ أبريل 2010 وعنوانه «وهابية سمو الأمير»، والثاني للمفكر المصري طارق حجي في أحد المواقع الإلكترونية بتاريخ 30 نيسان/ أبريل 2010، وعنوانه «اختلال الميزان في مقال الأمير سلمان». والسبب أنني شعرت بأن المقالين خرجا عن قيم الحوار وأهدافه السامية التي انتهجها الأمير، وأنهما كتبا ردّاً سياسيّاً متجنياً بعيداً عن لغة الفكر والعلم.
ومن باب التنبيه، فإن الأمير سلمان حين يعلق عادةً في الصحف على القضايا الفكرية والثقافية، فإنه يعرّف نفسه بالصفة العلميّة دون إضافة سياسيّة كما فعل في رده على سعاد الصباح في صحيفة «الرأي العام» الكويتية بتاريخ 13 كانون الثاني/ يناير 2008، أي «رئيس مجلس إدارة دارة الملك عبد العزيز» (والدارة هي أحد أهم مراكز البحث في السعودية)، والسبب، كما هو معروف، أن فضاء العلوم النظرية يحتمل الخلاف والاختلاف.. ويصعُب أن يدّعي فيه أحد امتلاك الصواب المطلق أو الحقيقة الكاملة. ويستحيل أن نطبّق فيه منطق «الأحادية» أو «الأمر» أو «الولاء» أو «الطاعة» الذي تحتمله أو تستدعيه رحاب السياسة ومعاييرها في بعض المواقف. لذلك فوجئت حين كسرت صحيفة «الحياة» هذه القاعدة وذيّلت مداخلة الأمير بـ«أمير منطقة الرياض ورئيس مجلس إدارة دارة الملك عبد العزيز»!
وهكذا قررت التراجع عن التعليق في هذا الموضوع المهم خشية أن يُفسّر تعليقي بمعايير السياسة، بعيداً عن معايير الفكر والثقافة، أو بالانحياز لطرف على حساب آخر. حتى كتب المفكر البحريني د. محمد جابر الأنصاري في صحيفة «الحياة» مقالاً بتاريخ 20 أيار/ مايو وعنوانه: «مقالة الأمير سلمان تفتح آفاقاً للحوار» اختتمه، بعدما عدد مزايا الأمير التي يستحقها وشرَح وجهة نظره التي أتفق معها، بما يأتي: «هكذا فإن مقالة الأمير سلمان بن عبد العزيز عن «الوهابية» ينبغي ألا تكون نهاية المطاف في الحوار الفكري بشأنها، بل بداية هذا الحوار الذي نحتاجه، وتحتاجه «الوهابية» على وجه الخصوص». وبالتالي، بعدما أعاد الأنصاري الحوار إلى موضوعه وأصوله وأهدافه، كان لا بد من التعليق.
رأي الأمير سلمان يرفض مصطلح «الوهابيّة» من منطلق أنه شاع بغرض الإساءة والتشويه، فيما لا يرى الأنصاري أي مبرر للحساسية من المصطلح، مع المطالبة بالتركيز على المضمون متفقاً مع د. خليل الخليل استناداً إلى تسمية المذاهب الفقهية الأربعة بأسماء علمائها. وأضيف: تسمية «العقيدة الماتريدية» نسبة للإمام أبو المنصور الماتريدي، وتسمية «العقيدة الأشعرية» نسبة للإمام أبو الحسن الأشعري. وهناك من يميل لرأي الأنصاري والخليل لسبب أهم هو أن «الوهابيين» لم يستنكفوا هذا الاسم أو يرفضوه. فهذا الشاعر حميدان الشويعر يقول: «إن كانك للجنة مشتاقي... وتبغى النعيم بجانبها... اتبع ما يقول الوهابي... وغيره بالك تقربها».
وهذا الشيخ سليمان بن سحمان (الملقب بـ«حسّان» الدعوة السلفية نسبة إلى حسان بن ثابت شاعر النبي محمد يقول في أبيات مشهورة:
نعم نحن وهابيّة سلفيّة/ حنيفيّة نسقي لمن غاضنا المُرّا
ومن هاضَنا أو غاضَنا بمغيضةٍ/ سنصْعَقه صعْقاً ونكسره كسْرَا
بمحكم آياتٍ وسنة أحمد/ نصول على الأعدا ونأطُرهم أطْرَا
ولابن سحمان نفسه كتابٌ مشهور بعنوان «الهديّة السنية في التحفة الوهابيّة النجدية». وإذا استذكرنا مؤلفات الشيخ عبد الله القصيمي الأولى، قبل انفجاره الفكري، في الرد على خصوم الإمام محمد بن عبد الوهاب، نلاحظ الاتجاه نفسه في العناوين والمضمون: «الثورة الوهابية» الذي صدر سنة 1931 و«الفصل الحاسم بين الوهابيين وخصومهم» الذي صدر سنة 1934. وقد أثبت الأديب الرائد عبد الله عبد الجبار في كتابه المرجعي «التيارات الأدبية في قلب الجزيرة العربية» الذي صدر سنة 1959 مقولة أحد مشايخ نجد تعليقاً على هذه الكتب: «القصيمي دفع مهر الجنة ولا يضيره ما يفعل بعد ذلك، ولا نجد رأساً يطاول رأسه إلا رأس ابن تيمية».
إبراهيم عيسى وطارق حجي تجاوزا لغة العلم، ويجب رفض الغلو في التعامل مع ابن تيمية وابن عبد الوهاب
الخلاصة من هذه الأمثلة وغيرها، أن مصطلح «الوهابية» كان رائجاً دون اعتقاد بأنه يستخدم، فقط، للإساءة والتشويه، وخصوصاً في بدايات الدعوة، حتى استُبدل أخيراً بمصطلح «السلفيّة». وكان بعض «الوهابيين» يطلقونه على أنفسهم دون غضاضة (كالشيخ سليمان الدخيل والشيخ محمد بن عبد اللطيف). حتى أن بعض المدافعين عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب كانوا يستخدمونه، كالشيخ محمد رشيد رضا. وفي رسالة جامعية عن جامعة الإمام محمد بن سعود عنوانها «دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب» (الجزء الأول، ص 362)، لم يتحسس الشيخ عبد العزيز بن باز من استخدام المصطلح، بل قال في مجموع فتاواه (الجزء الأول، ص 233): «عقيدة الوهابية هي التمسك بكتاب الله وسنة رسوله»، ونسبَ الكلمة، في الجزء التاسع ص 190، إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب. وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين في مجموع فتاواه (المجلد 28، ص 41): «إن الوهابية ولله الحمد من أشد الناس تمسكاً بالكتاب والسنة». وأتذكر كذلك اللقاء الذي أجرته مجلة «المجلة» في عهد رئيس تحريرها النابه عبد العزيز الخضر، مع الباحث الفرنسي أوليفيه روا، والذي قال فيه إن «الوهابية» دعوة أرثوذكسية تهدف للعودة إلى أصول الإسلام.
يرى أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب أنه لم يأت برأي يخالف الكتاب والسنة، وأن آراء الشيخ ليست خارجة عن المذاهب الأربعة، وهي نظرة كل مريد لمذهبه أيّاً كان. ولكن المخالفين والمستقلين لهم رأي آخر.
لقد تمايزت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، كما يرى المخالفون والمستقلون، بثلاث مسائل خارجة عن الكتاب والسنة: الاستسهال في تكفير المسلمين... تقسيم بلاد المسلمين بالدرجة الأولى، قبل غيرهم، إلى بلاد كفر وبلاد إسلام ووجوب الهجرة إلى الشيخ أو إلى أرض دعوته (وهذا التقسيم الحاسم استدعى أحكاماً فقهية قاسية كاستباحة الغزو والغنائم والاستتابة، ويمكن هنا مراجعة تاريخ ابن غنام)... وتقسيم التوحيد (وهذا رأي لم يسبقه فيه إلا ابن تيمية الحرّاني).
يقول المخالفون والمستقلّون إنّ الارتباط بين ابن تيمية وابن عبد الوهاب ضخّ الحياة في أفكار بعضها مخالف للكتاب والسنة صراحة، وبعضها الآخر أسير لظرفه الثقافي والتاريخي. ويكفي أنْ نطالع كتاب «نقد الخطاب السلفي ــــ ابن تيمية نموذجاً» للباحث الجاد رائد السمهوري لنكتشف بعض العناوين اللافتة (المُوَثقة) في فكر ابن تيمية، والتي امتد بعضها إلى إرث ابن عبد الوهاب أو بعض أتباعه:
ــــ الكفار لا يملكون أموالهم ملكاً شرعيّاً ولا يحق لهم التصرف في ما في أيديهم.
ــــ أنفس غير المؤمنين وأموالهم مباحة للمسلمين.
ــــ غير المؤمن تجب عداوته وإنْ أحسن إليك.
ــــ وجوب إهانة غير المسلم وإهانة مقدساته.
ــــ اليهود والنصارى ملعونون هم ودينهم.
ــــ تخويف غير المؤمن مصلحة.
ــــ بل إكراه في الدين. (وهناك آية واضحة في القرآن نصها «لا إكراه في الدين»).
ــــ المرأة كاللحم على وضم (خشب الجزار) وهي أحوج إلى الرعاية والملاحظة من الصبي.
ــــ المرأة عورة وناقصة في مقابل كمال الرجل.
ــــ النساء أعظم الناس إخباراً بالفواحش.
ــــ المرأة أسيرة للزوج وهي كالمملوك له... وعلى المملوك الخدمة.
ــــ جنس العرب أفضل الأمم وأذكى الأمم، ومخالفة هذا هو قول أهل البدع.
ــــ عدم تفضيل جنس العرب نفاق وكفر، وحب العرب يزيد الإيمان.
ــــ اكتساب الفضائل بالاستغناء عن القراءة والكتابة أكمل وأوفق.
ــــ علم الرياضيات والفلك كثير التعب قليل الفائدة.
ــــ إتقان الفلاسفة للعلوم الطبيعية إنما هو لجهلهم بالله.
ــــ الكيميائيون يضاهون خلق الله، والكيمياء لا تصح في العقل ولا تجوز في الشرع.
مصطلح «التوحيد» ــــ والنقل دائماً عن المخالفين والمستقلين ــــ لم يشِعْ في النصوص الأصلية للدين الإسلامي، ولم يستخدم في القرون الأولى حتى جاء ابن تيمية ثم ابن عبد الوهاب، وكان العلماء الأوائل يستخدمون قبل ذلك مصطلح «الإيمان» الذي يناقض بداهة واصطلاحاً كل الشرك والكفر. ولعل أروع ما قرأته لأحد العلماء حين وصله التنظير حول التوحيد: «سورة الإخلاص تلخّص كل التوحيد».
تقسيم التوحيد إلى: توحيد ربوبية... توحيد ألوهية... وتوحيد أسماء وصفات لم يأت به أحد ــــ كتاباً أو سنة أو صحابة أو تابعين ــــ إلا ابن تيمية ثم ابن عبد الوهاب. ويرى البعض أن هذا التقسيم، لا التوحيد، أوغل في بث الفرقة بين المسلمين (وأغلب أهل السنة إلى اليوم هم على العقيدة الأشعريّة ثم الماتريديّة، وكلتا العقيدتين تتصادمان مع هذا التقسيم) لأنه حوّل التنوع العقدي بين أبناء الدين الواحد إلى تناقض في ما بينهم.
ومن اللازم أن نؤكد على رفض الموقف المغالي من ابن تيمية وابن عبد الوهاب. فكما يجب رفض تكفيرهم أو الإساءة لهم أو الانتقاص من أهمية نتاجهم، يجب أن نرفض في المقابل منهج الأتباع المتحمّسين في التعامل مع تأويلات ابن تيمية وابن عبد الوهاب على أنها نصوص منزلة من السماء، أو تحتكر تأويل الكتاب والسنة، أو أنها لا تحتمل النقد أو المخالفة أو المراجعة.
إن الموقف المتعسف الذي انتهجه ابن تيمية من المخالف مفهوم نوعاً ما بسبب فتنة التتار التي عايشها. ولكن يتعجب البعض من توسّع ابن عبد الوهاب (عبر تأويله لتأويل ابن تيمية) في إسقاطه على الداخل المسلم. فحديثه عن الكفار والمشركين قصد غالباً المسلمين في مكة وحريملاء والمدينة المنورة والإحساء وغيرها من مواقع العالم الإسلامي أو الجزيرة العربية. ووصفهم بأنهم على دين عمرو بن لحي ــــ من أدخل الأصنام إلى مكة في الجاهلية ــــ وأن كفار قريش ومشركيهم أفضل من مسلمي عصره، أي مخالفيه. فمن نماذج إفراط ابن عبد الوهاب في التكفير: تكفير البدو (راجع «الدرر السنية» المجلد العاشر ص 114)، تكفير قبيلة عنِزة (ص 113 وكفر فيها أيضاً قبيلة الظفير)، تكفير أهل العيينة والدرعية من معارضي الشيخ (المجلد الثامن ص 57)، تكفير محيي الدين ابن عربي وتكفير من لا يكفره أو يشك في كفره (المجلد العاشر ص 25)، تكفير أهل سدير وأهل الوشم (المجلد الثاني ص 77). كما يكفر الشيخ السواد الأعظم من المسلمين، أي كل من لا يتبع دعوته، (المجلد العاشر ص 8) وتكفير من يتحرّج من تكفير أهل لا إله إلا الله (ص 139).
وللأمانة، فإن بعض هذه الآراء يناقضها ابن عبد الوهاب نفسه في مواقع أخرى من مؤلفاته ورسائله، وقد رصد أغلبها الباحث الجاد حسن فرحان المالكي في كتابة القيّم «داعية وليس نبيّاً» في المبحث الثاني بين صفحات (108 ـــــ 112)، ومن أهم هذه التناقضات: أنه لا يكفر المخالفين في موقع... وفي موقع آخر يكفر من لا يشك في كفرهم ويعده منهم، وفي أحد المواقع يقول إنه لا يبطل كتب المذاهب الأربعة، وفي موقع مقابل يصفها بأنها «عين الشرك»!
من أجل كل ذلك، يرى مخالفو الشيخ والمستقلون أنه تجاوز الكتاب والسنة، أو على الأقل أنه انفرد بآراء دوناً عن غيره من العلماء والدعاة ــــ وهذا ليس عيْباً ــــ ليعبر عن مذهب مستقل، ولكنهم يعتقدون أن الواجب على أتباع الشيخ البدء فوراً في ممارسة النقد الذاتي (وأعتقد أن كل المذاهب الإسلامية تستحق مراجعة النفس والتأكيد على الحوار). وتنقية تراث الشيخ، على الأقل، من الرواسب التاريخية التي تعانق تأويلاته والاستفادة من النقد العلمي الذي وُجّه لتلك التأويلات، وخصوصاً أن إحصاء الكتب من مختلف العالم الإسلامي التي رفضت أفكار ابن عبد الوهاب منذ ظهورها إلى اليوم أو ردّت عليه، يحتاج إلى كتاب مستقل!
إن تأويلات ابن عبد الوهاب وابن تيمية تنتمي إلى الماضي. ويلاحظ البعض أن الاستشهاد في الفتاوى المعاصرة بآراء الشيخ أو آراء ابن تيمية مرتبط دائماً بموقع الإقصاء الذي أصبح السمة الغالبة على الخطاب الديني السعودي السائد. لذلك فإن أغلب دعوات تجديد الخطاب الديني في المملكة تهدف بالدرجة الأولى إلى التحرر من بعض تأويلات ابن تيمية وابن عبد الوهاب المرتبطة طبيعياً بظروفها الثقافية والتاريخية قبل اجتهادها الخاص، والتي يُصعب إسقاطها على الواقع أو المستقبل.
ليس مقبولاً الادعاء أن تأويلات ابن عبد الوهاب أو ابن تيمية تضاهي الكتاب والسنة أو تحتكر تفسيرها أو أنها صالحة إلى الأبد، فالدين الإسلامي تكفل رب العالمين بحفظه إلى قيام الساعة دون مِنة من أحد، والقول إنه في إحدى الفترات شاعت عبادة الأصنام والحجارة، قبل دعوة الشيخ، فيه من المبالغة ما تدحضه أغلب المراجع التاريخية والنصوص المقدسة التي تشير إلى حِفظ الدين، باستثناء حالات معدودة لا ترتقي إلى العموم. ويرى بعض الباحثين ــــ وقد يكونون على خطأ أو صواب ــــ أن حديث الشيخ عن عبادة أصنام قصد به مجازاً تمسّك البعض بأفكار لا يوافق عليها. وعلى كل حال، فإن أي حالة تمكن فيها الشيخ أو أتباعه أو مريدوه من تخليص الناس من عبادة الأصنام (بالمعنى الحرفي) فإن ذلك يحسب لهم.
من وجهة نظري، أرى أن السجال حول ابن عبد الوهاب دعوةً وتسمية، من الممكن تجاوزه إلى ما هو أهم... إلى الحديث النبوي الشهير: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد للأمة دينها».
لقد توفي الشيخ محمد بن عبد الوهاب عام 1791، أي قبل أكثر من قرنين بقليل، ويصفه بعض أتباعه بأنه مجرد مذكر بتعاليم الكتاب والسنة. فإذا كان ــــ رحمه الله ــــ مذكراً فجزاه الله كل خير. وآن الأوان أن تتاح الفرصة لأهل البحث والعلم للتأمل والتدبر في النصوص الأصلية (الكتاب والسنة) دون واسطة ودون إجبار على تأويل معيّن سواءً لابن عبد الوهاب أو ابن تيمية أو غيرهما. وإذا كان مجدداً، فإن مفهوم التجديد يعني بالضرورة في بعض جوانبه، المخالفة. وبالتالي، استناداً إلى الحديث النبوي، فإن الأمة في حاجة إلى مجدديْن آخريْن، يجددان المجدد (أي يخالفان المخالف).
وتأتي حجة التخوف من التجديد، التي يخالفها ذلك الحديث النبوي، بأن الدعوة إلى تجاوز دعوة الشيخ، ومن قبله ابن تيمية، تعني مخالفة الكتاب أو السنة، وهي فكرة تترجم الفكر السلفي الذي يرى نموذج الخلاص والكمال في الماضي ويتمسّك بحرفية النص. والغريب أن هذه الفكرة يرفضها القرآن الكريم نفسه في مواضع متعددة، منها: «وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون»، «قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض»، «قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون».
ربط مشروعيّة النظام بالأيديولوجيا ليس مقبولاً، والمذاهب الإسلاميّة بحاجة إلى مراجعة النفس
إذا تمسكنا، كما الفكر السلفي أو «الوهابي» أو المحافظ، بحرفيّة النص القرآني، فإننا نجد أن الخمول عن التجديد والتكاسل عن التدبر في خلق الله وسننه والقرآن والسيرة النبوية، مباشرة، لاستخلاص العبر والفوائد التي تصالح بين المسلم وعصره وتحفزه على النهضة والتقدم... تعززه عشرات الآيات القرآنية التي تدعو إلى ترجيح العقل وإعماله في شؤون الحياة، أما التفكير بأن كل القضايا قد حلها السلف، وأنه لا مجال للتفكير إلا كما فكر السلف، فتلك، من وجهة نظر البعض، مخالفة للنص القرآني الذي لم يكتف فقط بذم الكفر في تلك الآيات، بل ذم معه المنهج الذي يرفض تحقيق المصلحة والمنفعة والمعاصرة بحجة الركون إلى الماضي.
لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إنجازات مهمة في نظر أتباعه والمستقلين، منها: محاربة السحر والشعوذة والتبرّك. والإنجاز الأهم أنها لعبت دوراً في توحيد أغلب أراضي الجزيرة العربية في وحدة سياسية واحدة، وهي وحدة ناجحة نتمسك بها ونواليها وندافع عنها. ولكن ليس كل أبناء هذه الوحدة ينظرون بإيجابية إلى دعوة الشيخ من ناحية التأويل الديني. فهناك من يرى عدم استقامة مفهوم الدولة العصريّة في ظل الإكراه على تأويل ديني بعينه. وإذا صح هذا «الإكراه» في ظروف سابقة، فإنه لا يصح اليوم أو غداً. وهناك من يشعر بالولاء للمؤسسة السياسية، ولكنه في المقابل يرى أن الولاء المذهبي مسألة لا علاقة للسياسة بها، وأن لهم الحق في عدم اتباع دعوة محمد بن عبد الوهاب لأنهم يتبعون دعوة الرسول الأعظم محمد بن عبد الله... دون قصد بأن دعوة ابن عبد الوهاب تناقض دعوة الرسول. ولكنهم يميلون، وهذا حقهم دون جدال، إلى تأويلات أخرى ليست على منهج الشيخ، أو يرون بأحقيّة أن يكون لهم تأويلهم الخاص. وأن حسابهم، في النهاية، على رب العالمين. وفي أفضل الأحوال، هناك من يرى أن دعوة الشيخ وتأويلاته وطريقة تطبيقها صحيحة في وقتها، ولكننا اليوم وغداً، قطعاً، بحاجة إلى منهج مختلف.
ومهما كان أولئك المخالفون أو المستقلون، في أي وقت، أقلية أو أكثرية، فلا يحق لأي أحد أن يجبرهم أو يكرههم على تأويل بعينه للدين الإسلامي. وهو ما لم يفعله رسول الله ولا صحابته، ولم يأمر به كتاب الله. وهذا ينسحب على أتباع الشيخ الذين لا يجوز إجبارهم على تغيير اعتقادهم. وأعتقد أن مبادرات الحوار التي أطلقها الملك عبد الله بن عبد العزيز وتوسيعه هيئة كبار العلماء لتشمل كل المذاهب السُنيّة (حبّذا لو ضمّت كل المذاهب الإسلاميّة)، خطوات تؤكد سيْرنا في الاتجاه الصحيح.
لقد قامت الدولة السعودية الأولى سنة 1745 بميثاق الدرعية المعروف بين الإمام محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب، ثم قامت الدولة السعودية الثانية سنة 1824، وأخيراً... المملكة العربية السعودية التي بدأت بدخول الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود سنة 1902 إلى الرياض. ولم تكن هذه الدولة لتستمر حتى اليوم لولا الولاء السياسي من المواطنين للمؤسسة السياسية. وإن الاعتقاد بعكس ذلك يكذبه الواقع. فما زال الأشاعرة على أشعريتهم ــــ وهم أغلب أهل السنة على كل حال ــــ وما زال الشيعة شيعة. وما زال الإسماعيلية إسماعيلية... دون أن يعني هذا التنوع العقدي، ثم المذهبي أيضاً، معاداة للنظام السياسي أو خروجاً عليه. وحتى لو أرادت بعض الجهات ــــ ولا أعتقد أن هذا الاعتقاد قائم ــــ أن تُكرِه هذا النسيج المتنوع على رأيٍ واحد، فقد عجزت طوال قرنين وأكثر عن تحقيق هدفها. وبالتالي فإن هذا العجز سيظل قائماً، وإن حقق نجاحات جزئية ووقتيّة هنا وهناك. لا أريد أن أقول إن دعوة محمد بن عبد الوهاب على خطأ، ولا أريد أن أنسب خصومه أو المستقلين إلى الصواب. فالفرد هو المسؤول (بمنتهى الاختياريّة دائماً) عن خياراته في الدنيا والآخرة، ما لم يتعدّ على حقوق الآخرين. ما أريد قوله: إن أي محاولة لربط مفهوم المواطنة بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب تعني ببساطة أي شيء إلا المواطنة... لأن هذا الوطن الذي نحبه جميعاً سيصبح لفئة دون غيرها. كما أن محاولة ربط مفهوم الشرعيّة السياسية بالأيديولوجيا (دينية أو سياسية) يعني تكبيل المؤسسة السياسية لرغبات الأيديولوجيا وتأويلاتها.

* صحافي سعودي