محمد صادق الحسيني*أعرفت من حملوا على الأعواد/ أعرفت كيف خبا ضياء النادي
جبل هوى...
برحيله وهو في قمة العطاء، يترك العلامة المجاهد آية الله السيد محمد حسين فضل الله فراغاً كبيراً في مدرسة جمعت بين أصالة الفكر الديني الأصيل وضرورة الإحياء المتكرر لهذا الدين ــــ ولا أقول التجديد ــــ بلغة العصر، كما لم يتركه عالم من صنفه لولا بقية الخلف الصالح من مدرسة الولاية والرسالة المحمدية الأصيلة!
فالراحل الجليل القدر كان نموذجاً لجيل من المتدينين ممن تجرأ على المألوف والمشهور من الأعراف والتقاليد التي تدعو إلى الدعة والقعود والانتظار السلبي لعصر الظهور، لكنه في الوقت نفسه لم يغادر مربع الالتزام بالثوابت والأسس المحكمة للشريعة المحمدية الأصيلة!
من النجف الأشرف في العراق، إلى النبعة، ومن ثم حي السلم، وصولاً إلى حارة حريك في لبنان، ظل الراحل الكبير يلازم حراك النخبة والناس في مدرسة الإسلام الحركي الثائر على الصنمية والجمود والتقدس الكاذب كما على الانفلات العقائدي والتحلل من ثوابت الدين بحجة التحديث أو التجديد!
كان يعيش الدين والإسلام ومدرسة التشيع التي ينتمي إليها، بما هي مدرسة حياة ومنظومة متكاملة للقيم التي يكمل بعضها بعضاً ويفسر بعضها بعضاً ولا يمكن فصل أي من مبادئها عن الآخر!
من ميزاته وفضائله رحمة الله عليه أنه كان عالماً دينياً للناس الحركيين الذين يريدون أن يروا الأشياء كما هي على أرض الواقع لا كما تشتهيها أنفسهم، عملاً بالحديث الشريف: «اللهم أرني الأشياء كما هي»... لكنه في الوقت نفسه لم يكن ليسمح للجانب الدنيوي المحض من نفسه أن يشده إلى البقاء راكداً كما الواقع المعيش، إذ سرعان ما كان يتذكر الشق الثاني من الحديث الشريف: «...ثم أرني الحق حقاً وارزقني اتباعه وأرني الباطل باطلاً وارزقني اجتنابه»، كما ورد على لسان رسولنا الصادق الأمين!
اتفقت معه أو اختلفت، لم يكن لك بد إلا أن تحترمه وتقدّره وتجلّه لما يتجلى في شخصيته من قدرة على الحركة في قلب الواقع والارتفاع منه إلى قمة الاجتهاد والإبداع مع الاحتفاظ بالثوابت.
بقدر ما كان الدفاع عن الدين وثوابته أمراً مقدساً لديه، كان الدفاع عن قضايا الناس واحتياجاتهم مقدساً لديه. ذلك أن حق الناس هو حق من حقوق الله.
ولذلك لم يترك قضية من قضايا الناس، فضلاً عن قضايا المسلمين من حيث هم مسلمون، إلا وقف ثابت القدمين في الدفاع عنها رغم صروف الدهر وعوادي الأيام!
مناضلاً ومكافحاً لم يلن ضد الاستبداد والرجعية والتخلف والجمود والنمطية، كما ضد التحلل والانجراف وراء مقولات التغريب باسم التجديد والحداثة وما بعدها من ويلات ومصائب.
رائد فتاوى الاستشهاديين وأوّل من تجرّأ في العالم العربي على الإفتاء باقتحام معاقل الصهيونية والإمبرياليين بأجساد المقاومين الطاهرين في وقت قل فيه الناصر والمعين. ومن طلائع المدافعين عن الحق الفلسطيني الثابت بوجه كيان الاغتصاب والاحتلال، والمدافع الأمين عن ثوابت الحق الفلسطيني في فلسطين كل فلسطين براً وبحراً وجواً ومخيمات.
الأب الحنون والكهف الحصين لأجيال المقاومة والتحرير، من عماد المقاومين وقائد الانتصارين إلى كل من توضأ بمياه أنهر البقاع والجنوب الطاهرين.
رافع راية الوحدة والتلاحم، ليس فقط بين كل أطراف الوطن اللبناني العزيز وأطيافه ومذاهبه وطوائفه، بل بين كل أقطار العالمين العربي والإسلامي وأمصارهما.
محكم وعصي على التطويع لإرادة الطغاة، الصغار منهم والكبار وكل المستكبرين، حتى بات هدفاً دائماً للامبريالية الأميركية وأذنابها في المنطقة الذين طالما حاولوا النيل منه اغتيالاً للجسد مرات واغتيالاً للشخصية على مدى عمره الشريف.
بقدر ما كان رحوماً وعطوفاً على قومه وأبناء جلدته ممن حاولوا وقف مسيرته التنويرية، كان صلباً وحازماً ضد الاستكبار العالمي وأشباه النخب من مروّجي الفتن والأحقاد باسم الدين مرة وباسم الديموقراطية وحقوق الإنسان مرات ومرات، وبسائر تجارات الغرب الفاسدة والمفسدة.

كان عالماً دينياً للناس الحركيين الذين يريدون أن يروا الأشياء كما هي على أرض الواقع
تلميذاً كان أو مجتهداً أو مرجعاً أعلى، لم يغادر ولا مرة واحدة مربع نظرية ولاية الفقيه التقدمية في النظرية كما في التطبيق. وظل المدافع الأمين عن تجربة الجمهورية الإسلامية الرائدة على امتداد عقود عمرها الثلاثة، من زمن القائد المؤسس الخميني إلى زمن القائد المجدد السيد علي الخامنئي، ولم تجعله الفتن المتتالية يفقد بصيرته أو يفقد اتجاه البوصلة ولا مرة واحدة.
صحيح أنك اختلفت في هذه الجزئية أو تلك مع هذا العالم الرباني أو ذاك، لكنني أشهد الله أنك لم تخرج عن آداب الحوار وأدب الاحتجاج مع كبار القوم الذين بقيت تجلهم وتحبهم وتجد لهم العذر والمحمل، كما لم تفسد له تلك جميعاً في الود قضية مع أحد.
وها هو اليوم يرحل إلى الرفيق الأعلى، مربي الأجيال ومعلم الكوادر الحركية وحامي المجاهدين وناصر المستضعفين، تاركاً وراءه خزاناً كبيراً وتراثاً ضخماً من العطاء الذي لا ينقطع مع رحيل جسده ولا مع صعود روحه إلى السماء.
رحمك الله يا سليل الأنبياء ووارث علم الأوصياء ومورث مقولات التضحية والكرم والعطاء.
نم قرير العين بعدما تركت فينا رجالاً من جنس سيد المقاومة، وجمعاً غفيراً من جماعة أشرف الناس وأطهر الناس وأكرم الناس وأنقى الناس وأصلبهم أيضاً في مقارعة من قارعت من الصهاينة والمحتلين والرجعيين، يقودهم ويدلهم ويرشدهم إلى القدس بإذن الله، ألا وهو الأمين العام لحزب الله وحزب الأحرار المنتصرين بإذن الله، السيد حسن نصر الله.
فسلام عليك يوم ولدت ويوم مت ويوم تبعث حياً.
* الأمين العام لمنتدى الحوار العربي ـــــ الإيراني