حسان الزينيصعب التبرير الأخلاقيّ، قبل السياسيّ، لصمت البطريرك نصر الله صفير إزاء وفاة المرجع الديني محمد حسين فضل الله. ويصعب أيضاً التبرير للبيروقراطيّة، تأخيراً وتعبيراً، في إشارة المطارنة الموارنة إلى رحيل «الشيخ العلاّمة محمد حسين فضل الله»، بحسب بيانهم مساء أوّل من أمس.
وبالرغم من ذلك يمكن تجاوز المسائل الشكليّة، وإن كانت أثّرت سلباً في نفوس أتباع السيد فضل الله ومحبّيه، لا سيّما أن دلالات البيان، وقبلها الصمت العلنيّ البطريركي، قد تكون دافعاً لانتكاسة «حواريّة» وسياسيّة لدى هذا الجمهور وبينه وبين البطريركيّة ومن «تمثّل».
فالبطريركيّة التي يبدو أنها لم تستطع، حتّى في مناسبة الغياب والموت، تجاوز الاختلاف الديني والفكري السياسي والمذهبي بينها وبين فضل الله، أكّدت أنها تنظر إلى اللبنانيين كجماعات وتتعامل معهم بالجملة من هذه الزاوية. وهي إذ تتصرف على هذا النحو الجاف والمناقض للتنوّع والديموقراطيّة والمواطنة، تتسبّب بدفع فئة واسعة من المواطنين، لا سيّما منهم أتباع السيّد فضل الله، إلى صورة واحدة مع حزب الله، الذي لا تنظر البطريركيّة إلى فضل الله و«أبناء الطائفة الشيعيّة»، بعيداً منه.
لا يدلّل هذا على قسوة إصرار البطريركيّة وغيرها من المؤسسات المذهبيّة على التعامل مع المواطنين كأبناء طوائف وحسب، بل على أنها، أي البطريركيّة، لم تدرك الاختلاف بين السيد فضل الله وحزب الله، كما لا تريد النظر إلى أي اختلاف آخر ضمن أي «جماعة» إلا إذا كان الاختلاف يوافق توجّهاتها وخطابها. وبمعزل عن هذا الاختلاف وعمقه، يبدو واضحاً أن البطريركيّة لا تشعر بمسؤوليّة ملاقاة فضل الله، وأمثاله، في خطواته الانفتاحيّة الحواريّة. وهذا لم يحصل في حياته حين كان يمكنها التأسيس معه ومع آخرين لحوار يُفضي إلى تكسير الحواجز القائمة والذهنيّات المتكلّسة... ويقلص احتمالات الحروب وتَجدّد سلطات النهب والفساد. لكن، يبدو أن المؤسسات الدينيّة عموماً ليست في هذا الصدد ولا هي مهيّأة لهذه «المهمّة».
وماذا عن الكلام البطريركي على لبنان... المتنوّع؟ فالصمت البطريركي عن الحوار لا عن النعي يناقض هذا، وأحسب أنه ليس من التعاليم. ويمكن القول إن الصمت البطريركي كان في غير مكانه، خصوصاً أن السيد فضل الله داعية حوار، وهو من سنوات يقدّم الحوار والوحدة على العناوين المذهبيّة والدينية، ويرفعَ الاختلافَ من المستوى الطائفي والسياسي إلى الإنساني والفكري. وهذا يستحق النظر والتقدير والترحيب.
الصمت البطريركي لحظة من الماضي الذي لا مجد للبنان باستعادته واستحضار قيمه. كأن البطريركية رفضت الندية الحوارية ـــــ المذهبيّة التي وقف فضل الله على منبرها. وهنا الأساس، فالندية هذه بقدر ما هي من الفهم المذهبي للبنان، هي موجعةٌ للأفرقاء الآخرين في المنافسة والصراع. وكما هي من الصراع كذلك رفضها ليس بريئاً منه.
لا شكّ في أنّ مسؤوليّة عدم اقتراب هذه المؤسّسة الدينيّة أو تلك من هذا المرجع أو ذاك، تتوزّع على الجميع. فجميع المؤسّسات والمراجع التي تعمل في السياسة أكثر من أي شيء آخر، لا تراها تتجاوز المتاريس التي غالباً ما تسهم هي في وضعها. هذا ما جعل البطريركيّة لا ترى إلى فضل الله إلا عبر حزب الله وإيران وولاية الفقيه والدعوة إلى دولة إسلاميّة وقوله إن مجد لبنان أُعطي لشعبه ومقاومته... الخ. وغاب عنها التغيّر في تفكير فضل الله وخطابه، وتكرار دعوته إلى الحوار والاعتدال. وذاك التغيّر وتلك الدعوة بقيا عند حدود الاجتهاد والنيّة، لأسباب عديدة منها أن فضل الله نفسه لم يبادر كفاية ووقع أسير المحاور السياسيّة، ولم يتردّد حزب الله في محاصرته، وازدادت عليه المعارك الفقهيّة والمذهبيّة. ومن الأسباب أيضاً أن «الآخرين»، ومنهم البطريركيّة، غارقون في السياسة المذهبيّة وغافلون عن البحث عن منافذ وأبواب وعناوين دينيّة وفكريّة وأخلاقيّة واجتماعيّة وإنسانيّة وعمليّة تفضي ببعضهم إلى بعض وتفتح أفقاً أمام هذا البلد المستلب لمصالح الطاقم السياسي وبطاركته ومراجعه ومفتيه وشيوخه وسفرائه.
وسط هذه الأجواء المذهبيّة الانقساميّة، لم تتطوّر العلاقة بين فضل الله والبطريركيّة المارونيّة، والطرفان بقيا غامضين كلٌّ تجاه الآخر. وإذا كان فضل الله لم يصرّح ما إذا غادر نظرة الإسلام الحركي إلى البطريركيّة المارونيّة أم لا، وفي الأغلب لم يغادرها، فإنّ البطريركيّة المارونيّة التي لم تنفتح عليه ولم تقترب منه، تسهم بيروقراطيّتها في ترسيخ جفاء وبناء سور عالٍ بينها وبين مؤسّسات فضل الله وجمهوره، أو «أبناء طائفته» بحسب لغة بيان المطارنة.
هل تفكّر البطريركية المارونية في من ستحاور؟
ربما، لا غرابة في الصمت البطريركي والبيان الباهت، وهما يدلّلان، بقسوة كاملة، على الإمعان في حكم اللبناني على اللبناني الآخر ورفضه من بعيد بعيد حتى عدم سماع صوته والنظر إليه والتحديق في ملامحه وثناياه... إنه رفضٌ آخر إضافيٌّ لسماع دقات القلب... الموت يتجوّل خارج المثوى.