Strong>زياد منى *الكتابة عن القائد الفلسطيني الراحل الكبير ليس بالمسألة السهلة، وخصوصًا أن علاقة شخصية حميمة ربطتني به لفترة طويلة، بدءًا من عمان وحتى أيامه الأخيرة في العاصمة السورية. والكتابة عن المناضل الراحل تطول، وتاريخه النضالي لا يمكن تناوله بمعزل عن تاريخ حركة فتح منذ البدايات. لذا، فإننا سنقصر حديثنا هذا على محطات معدودة عايشناها شخصيًا أو اطلعنا على تفاصيل تفاصيلها من أوثق المصادر، لكننا سنتوسع في هذا الأمر في كتابنا المقبل عن التاريخ الشفوي لحركة فتح الذي شاركنا في إعداده.
التقيت أبا داوود للمرة الأولى في أواخر ستينيات القرن الماضي في «مكتب الإعلام المركزي» لحركة فتح حيث كنتُ حديث التفرغ. أضفَت قامته وهيأته الأنيقة السمحة المزيد من الهيبة على شخصه وموقعه القيادي، حيث كان قائدًا لميليشيا فتح المكوّنة حينذاك من آلاف العناصر المقاتلة. لكن على الرغم من موقعه وطلعته البهية، يفاجأ المرء بمدى تواضعه وسماحته وقربه الفطري من كل العناصر، من دون استعلاء أو ادعاء. عندما كنا نجلس معه في جبل الأشرفية أو في جبل اللويبدة أو جبل الحسين، كنا نشعر بأننا نجالس رفيقًا مثلنا، لكن من دون أن نفقد بوصلة الاتجاه.
قيل الكثير عن تجاوزات قامت بها ميليشيا فتح في عهده تجاه «الشرق ــــ أردنيين» وإساءة بعض عناصرها، أو [ربما] كثير منهم، إلى العلاقة بين مكوّنَي سكان الأردن. ومع أننا لسنا في سياق تأريخ «الثورة الفلسطينية» في تلك المرحلة، إلا أن ثمة الكثير من المبالغة في تلك التهم، لكننا لا ننفيها إطلاقًا، مع أن الصيت الأسوأ كان لما سُمّي وقتها «الخلايا الثورية» [إن لم تخنِّي ذاكرتي] التي لم تكن جزءًا من ميليشيا فتح، بل تحت إمرة عضو لجنة مركزية سابق في حركة فتح.
الإساءات والتعديات التي كانت تحصل لم تكن بأوامر ولا سياسة مقررة، بل، في ظننا، جاءت نتيجة انفجار الشعب الفلسطيني بعد أعوام من القهر الذي مارسه نظام عمّان. نقول هذا ليس تسويغًا بل شرح، ونؤكد إدانتنا غير المشروطة لتلك التصرفات المعيبة. كما وجب عدم نسيان دور الاستخبارات الأردنية في تخريب العلاقات بين الطرفين. وأذكر حادثة ترتبط بمن كان يعرف بلقب «مصيبة فتح»، الذي اشتهر بالسطو على دوريات تحمل معاشات الجيش الأردني [كيف كان يعرف ذلك]! القائد العام الراحل أبو عمار كان يأمر بسجنه ليلاً في مكتبه في الحسين قرب دوار مكسيم، كي يمنعه من ممارسة جرائمه. وعندما حضر عصر أحد الأيام لـ«دوامه الليلي»، وكنت حاضرًا وقتها لأمر عمل مع القائد العام. قال الراحل: يللا، عالسجن. كان أبو اللطف حاضرًا فخاطب أبا عمار قائلاً: معلش يا أخ أبو عمار، بلاش سجن الليلة، عشاني. لكن أبا عمار رفض تدخل «أبو اللطف» وأمر الحراسات بسجنه ليلاً.
على أي حال، تمكنت ميليشيا فتح، ومعها قوات مختلف فصائل «العمل الفدائي» من منع بادية نظام عمان من تحقيق أهدافها. وعندما انقشع غبار المعركة بعد اتفاقية القاهرة التي فرضها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عام 1970، كانت قوات «العمل الفدائي» تسيطر على معظم العاصمة كما شمالي الأردن.
المهم في الأمر أنه رغم سوء الاستعداد الفلسطيني للمعركة الحاسمة، وكثير من أسباب ذلك تعود إلى افتقادها كثيراً من مقومات «الكفاح المسلح» المادية والفكرية، ومع أن قوات البادية التي هاجمت مدينة عمان عمدت إلى إطلاق النار على مخازن المياه المقامة على أسطح الأبنية، عدا قصف المدينة العشوائي الجنوني، ورغم سوء توزيع التموين، فإنّ المدينة لم تشهد حادثة استيلاء على ممتلكات الغير. الصورة هذه تبدو سوريالية مقارنة بما شهده لبنان في الحرب الأهلية من كل الأطراف على جانبي الصراع وأشرف على بعضها قادة من مختلف الرتب. فقط الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لم تشارك في عمليات النهب.
عدم المس بأموال المواطنين في أثناء معارك أيلول لم يثر وقتها أي إعجاب أو دهشة، لأن ذلك كان البديهي والطبيعي. وإذا كان الفضل في ذلك يعود إلى أخلاقيات مرحلة صعود الحركة الوطنية الفلسطينية في نهاية الستينيات، فلا يمكن إنكار الدور الأساس الآخر ألا وهو الاستقامة والسوية النادرة للراحل الكبير ومعاونيه وعدم تهاونهم في هذه المسألة.
الأمر ذاته تكرر في بيروت في معارك القنطاري وعين المريسة التي قادها الراحل الكبير مع رفيقه المناضل والمفكر الفلسطيني ناجي علوش، كونهما المسؤولين العسكريين لـ«القوات المشتركة» لـ«قوات الثورة الفلسطينية» و«الحركة الوطنية اللبنانية» في منطقة بيروت الغربية. بعدهما هجمت قطعان أكلت الأخضر واليابس، ولكن هذا ليس مجال الكلام عنها.
عندما تقرر القبول بقوات دولية في جنوب لبنان، اتخذت قيادات «التيارات الديموقراطية» في فتح قرار تخريب وقف إطلاق النار
غالبًا ما يختصر تاريخ أبي داوود النضالي في القول إنه العقل المدبر لعملية أولمبياد ميونيخ، وباسمه ربطته الصحافة. كتب الكثير عن تخطيط أبي داوود لذلك، وأنه شارك في تنفيذ مراحل أساس، لكن ثمة تفاصيل أخرى مهمة تجاهلتها وتتجاهلها أوساط فلسطينية محددة تحاول التنصل الآن من مسؤولية تاريخية حيث تحوّل البطل إلى خائن، واستحالت العمليات «البطولية»، التي كان كثير منهم يرقص طربًا لها، إلى عمل إرهابي وجبت إدانته وملاحقة من نفّذه. الواقع أن قرار اللجوء إلى ما عرف رسميًا «العمليات الخارجية»، واشتهر لاحقًا باسم «أيلول الأسود» في إشارة إلى مجازر النظام الأردني بحق الشعب الفلسطيني في 1970/1971، اتخذته القيادة الفلسطينية مجتمعة، أي: الراحلون الثلاثة أبو عمار وأبو جهاد وأبو إياد. بل تردد في كل أوساط الحركة ومراتبها أن ياسر عرفات شخصيًا ودّع في مطار تونس أبا داوود المنطلق للإشراف على العملية. ومن المفارقات الأخرى أن مصاريف العملية سلّمها له مفوّض مالية فتح في ذلك الوقت، واسمه أبو مازن (محمود عباس).
على أي حال، كان على أبي داوود أن يتحمل وحده المسؤولية المباشرة عن العملية [الراحل الكبير أبو إياد اتهم فقط بأنه الأب الروحي للعمليات الخارجية]، ما جعله عرضة لملاحقات استخبارات العدو والدول الغربية. لم يتأفف أبو داوود من المسألة ولم يكترث وتحمل ما عليه تحمله بصفته مناضلاً صلباً يفخر بما أنجزه.
المحطة الأخرى التي وجب الوقوف عندها في مسيرة الراحل الكبير ما عرف داخليًا في فتح بـ«محاولة الانقلاب في 1978» إثر الاجتياح الصهيوني للجنوب. لقد قيل الكثير عن ذلك الحدث، وإن لم يوثّق، واتُّهم كلٌّ من أبي داوود وناجي علوش بالتدبير لمحاولة انقلاب داخل حركة فتح بالتعاون مع ممثل حركة فتح في العراق صبري البنا (أبو نضال).
قبل الاستطراد، علينا التذكير بأن حركة فتح كانت في ذلك الوقت مكوّنة من تيارات عدة، وكان القائد العام، الراحل أبو عمار، يتوسطها محافظًا على توازن القوى في الحركة، ويمسك العصا من منتصفها مانعًا غلبة تيار على آخر. لكن يبدو أنّ الأمور اختلفت بعد اجتياح عام 1978 وقبول القائد العام بتمركز قوات الأمم المتحدة جنوب نهر الليطاني، بكل ما لذلك من أثر في مسار «الكفاح المسلح» كما كان يسمى وقتها. فقد عبّر ذلك عن حسم خياره السياسي على نحو غير قابل للعودة عنه والانخراط انخراطًا صادقًا نابعًا من القلب في النظر إلى قضية فلسطين على أنها فقط مسألة حدود لا وجود.
ومن المهم الآن تذكر حقيقة أخرى ذات علاقة مثّلت، في ظننا، منعطف اعتراف الحركة الوطنية الفلسطينية بهزيمتها الكاملة بعدما فقدت عام 1970/1971 قاعدتها الطبيعية وسط شعبها في الأردن، وتبنت التخلي عن فلسطين والقبول بالمشروع الصهيوني لفلسطين و«اليهود» عبر ما يسمى «برنامج النقاط العشر» الداعي إلى «إقامة سلطة وطنية مقاتلة [ونفاثة] على أي شبر يُحرّر! [كذا]، متخلّية بذلك عن مشروعها الذي تأسست من أجله عام 1958. وفي دورة المجلس الوطني الفلسطيني التي عقدت في القاهرة في 1974، تبنت كل التنظيمات الفلسطينية والشخصيات «المستقلة» ما سمّي «البرنامج المرحلي»، وصوّتت إلى جانب تبنّيه، ولم يصوّت ضدّه سوى عضوين هما الراحل الكبير ورفيقه المفكر الفلسطيني ناجي علوش، وكان كلاهما عضواً في المجلس الثوري لحركة فتح.
عندما تقرر قبول الحركة الوطنية الفلسطينية بقوات دولية في جنوب لبنان، اتخذت قيادات ما يمكن تسميته «التيارات الديموقراطية» في حركة فتح، وقد ضمّت في ذلك الوقت عضوَي لجنة مركزية و13 عضو مجلس ثوري، قرار تخريب وقف إطلاق النار ومنع قوات الأمم المتحدة من التمركز في المنطقة. وأنيط بكل من أبي داوود وناجي علوش وما لديهما من قوات، تنفيذ القرار. لكن القائد العام تمكن من إحباط المخطط، أساسًا بسبب وشاية غادرة لرفيق درب سابق وآخر تابع لقائد أحد تلك التيارات، واعتُقلت الجماعات المسلحة وبدأت عملية بطش «سلمية» في الحركة حيث أمكن القيادة إحكام سيطرتها على الحركة ومختلف أجهزتها وأخضعت كل التيارات لسياساتها بنجاح غير مسبوق ومن دون مقاومة تذكر، علنيًا على الأقل، حتى حركة الانشقاق التي اندلعت بعد اجتياح 1982.
هنا كان على كل من أبي داوود وناجي علوش دفع الثمن. وقد تبع ذلك، على ما نعرف، أن الرئيس الجزائري أبلغ الراحل بأنه مهدد بالاغتيال وأرسل له طائرة خاصة نقلته إلى الجزائر حيث بقي فيها بعض الوقت ثم انتقل منها إلى بلغاريا وربما إلى العراق، ومن ثم إلى برلين في ألمانيا «الشرقية».
لقد كانت تلك الحادثة وما تلاها من هزيمة كاملة وشاملة لما سمي «التيارات الديموقراطية» في حركة فتح، نقطة انعطاف حادة في تاريخ عمل أبي داوود في ساحة العمل الوطني الفلسطيني، إذ نرى أن ما بعدها يدخل ضمن إطار التاريخ الشخصي للراحل الكبير. لقد شعر بأن رفاقًا له تخلوا عنه وعمّا اتفقوا عليه وفضلوا أمنهم الشخصي على ذلك.
كما كانت تلك الهزيمة الكبرى لتيارات فتح الديموقراطية منعطفًا جديدًا في مسيرة الاستسلام التي بدأت بالهزيمة أمام النظام الأردني في عام 1970/71، وأوصلت الحركة الوطنية الفلسطينية إلى ما هي عليه الآن من استسلام كامل لشروط العدو.
المسألة الأخرى التي كثيرًا ما ينشر عنها معلومات خاطئة، تتعلق بنجاح الاستخبارات الأردنية في اعتقال أبي داوود ومعه مجموعة مسلحة في الأردن عام 1973 بتهمة التخطيط لأخذ أعضاء مجلس وزراء الأردن رهائن واحتلال السفارة الأميركية في عمان لمبادلتهم مع أسرى حركة فتح في سجون السلطة الأردنية. وقد قيل الكثير عن هذه العملية وكيفية تمكن الاستخبارات الأردنية من كشفها. الواقع هو أن القيادة الفلسطينية الملتزمة حتى ذلك الحين بالتنسيق مع مصر ورئيسها حينذاك الرئيس أنور السادات، أبلغته بالخطة، لكنه رفضها، ذلك أنه رأى أنها تخلق حالة اضطراب محلية ومشاكل وتعقيدات مصر [وسوريا] في غنى عنها، بينما كان يستعد مع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد لمحاربة العدو الصهيوني. لذا أبلغ الملك حسين بالأمر آخذًا منه في المقابل تعهدًا بإطلاق سراح المجموعة وعدم المس بأي من أعضائها، وهذا ما حصل فعلاً بعد فترة قصيرة، ويفسّر في الوقت نفسه إطلاق النظام الأردني سراح المجموعة من دون قيد أو شرط.
لقد حظيتُ في الأسابيع الأخيرة بجلسات مطولة مع الراحل الكبير، وكان في آخرها، قبيل أسابيع قليلة، شديد الغضب من جماعة المقاطعة في رام الله حيث خفضوا مقدار راتبه الشهري. ورغم أن ابنه، الصديق العزيز داوود، أبلغني أخيرًا بأن الأمر سُوّي، إلا أن جوهر المسألة يكمن في أن القائد الكبير والأسطورة الفلسطينية كان يعتمد على معاشه الشهري حتى آخر أيام حياته، في الوقت الذي نعرف جميعنا مدى انتشار الفساد بين أعضاء تجمع سلطة مبنى المقاطعة في رام الله. كان بإمكان الراحل الكبير العيش في بحبوحة، ولم يكن هناك من رقيب أو من يحاسب، بل إن السياسة العامة للقيادة كمنت في تشجيع الفساد بما يضمن لها تأييد الفاسدين الكامل غير المشروط لسياساتها التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه، لكنه رفض ذلك بحسم ومن دون تردد، وبذلك كسب قلوب أبناء شعبنا الذين توافدوا جماعات غفيرة للتعزية به.
محظوظ وسعيد حقًا من عاش تلك المرحلة وعايش رجالاتها الكبار والعمالقة، وتربى على يدهم وتعلم منهم ومعهم. والشكر لك أبا داوود ولكل رفاقك الذين علّمونا أن حب فلسطين وشعبها لا حدود له، ويجب أن يكون من دون قيد أو شرط.
لقد كان الراحل الكبير قامة كبيرة بين قامات عظيمة شهدتها الساحة الفلسطينية في مرحلة صعود الحركة الوطنية الفلسطينية أواخر الستينيات وحتى منتصف السبعينيات. وبرحيله أشعر بفقدان شخصي لرفيق وصديق، وقبل ذلك كله بفقدان قائد كبير كان رمزًا من رموز نضالات هذا الشعب المكافح.
وما يزيد من ألمنا أن ننظر حولنا الآن ونرى تحكم جماعة قرضاي فلسطين، وانحطاطاً غير مسبوق في ساحة العمل الوطني الفلسطيني وصعود مجموعة من الصبية القصّر لتتحكّم في مصير شعب لم يتوقف عن النضال والتضيحة في سبيل أرضه ووطنه منذ أكثر من مئة وخمسين عامًا. وعندما نقارن هذا الانحطاط بمرحلة الانطلاق الثوري الأولى ورجالاتها الكبار، نضرب كفًا بكف ونقول: أما آخرة!
* كاتب فلسطيني